محمود الرحبي
«مقابرهم بقلبي» رواية قصيرة صدرت أخيرا عن «مكتبة كنوز المعرفة 2022» قبل الحديث عنها سأورد صدفة حضرتها في 10 من يناير 2022 بمكتبة بيجز بمدينة السلطان قابوس. محاضرة أحيتها الطبيبة النفسية الشابة وفاء البوسعيدية تحت عنوان «جلسة حول التعاون مع الفقد» تميزت بكثرة الحضور من الجنسين. وضمن ما تطرقت إليه المحاضرة أهمية أن يبوح أهل الفقيد بشعور وتفاصيل ماضي حياتهم دون أي تحرج تجاه من فقدوهم، الأمر الذي من شأنه أن يخفف عنهم ثقل ما يشعرون ويزيح عن كاهلهم وطأة ما يعيشون. وقد تطرقت المحاضرة إلى دور الكتابة في ذلك، كواحدة من هذه العلاجات المخففة. لا أعرف إن كان أحمد الهنائي كان من ضمن هذا الحضور أم لا، ولكن ما فعله في كتابه الأول «مقابرهم بقلبي» يدخل في هذا السياق. إنه سرد تجربة شخصية تتعلق بفقدانه عائلته في حادث سير: الأم والأب والإخوة ولم يبق منها سوى جدته. حادثة مأساوية تحتاج إلى قوة فولاذية لتحملها. وكان أحمد حينها في عمر العاشرة. رغم أن أجواء الرواية توحي مباشرة بأننا أمام كاتب يتحدث عن تجربته، ولكني سعيت للتأكد من ذلك بأن بحثت وسألت، ثم توصلت إلى صفحته في توير ووجدت ما يثبت أننا أمام بوح حار وحقيقي ومؤلم، كما وجدت عبارة للمحامي خليفة الهنائي، مثبتة في صفحة أحمد، تذهب في هذا السياق:«لا أعرف أحمد ولكنه أبكاني لست أدري أبكيت عليه، أم على أسرته التي ذهبت في حادث سير، ثم خالته التي فارقته وهو في الثاني عشر، بعد أن كانت الأم له. تواصلت معه، ولنا بإذن الله لقاء. لهم الجنة يا أحمد ولك أجر الصابرين»
تبدأ القصة من الأروقة الصامتة للمستشفى، حين استفاق الطفل ذو العاشرة من غيبوبة ولم يجد بقربه سوى خالته. سأل عن أمه فلم يجد ما يرتد إليه سوى الصمت. ثم تتقدم الرواية في سردها متأرجحة بين ماضي ما قبل الحادث الأليم ( أي ما قبل 23 أغسطس 2007) من طفولة ولعب وأسرة ومستقبل يتقدم ببطء في ظل أسرة سعيدة، وما بعد ذلك حين صار يكبر في بيت جديد، بيت خالته التي صارت له أما ثانية وأبناؤها أخوة له. ولكن الخالة كذلك ستلتحق فجأة بموكب الراحلين ليعيش الطفل صدمة جديدة، بعد سنتين فقط من الصدمة الأولى.
كان الطفل في كل مرة يرفض التصديق أن ما يحصل حقيقي. ويمني النفس بأن كل ذلك ليس سوى فصل هزلي قصير لا يلبث أن تكشف عنه الستارة وتعود الأمور إلى سابق عهدها.
وكانت الدراسة التي يتذبذب تحصيلها بسب الظروف النفسية القاهرة هي الموئل الأكثر وطوق النجاة المحتمل للطفل الذي صار صبيا وهو يصارع الحياة من أجل أن يظفر بمعدل دراسي يؤهله للدخول إلى الجامعة. تحدى كل الصعاب ودخل إلى كلية عمان للعلوم الصحية، تخصص الصيدلة، ورغم أنه اختار قطاع الصحة، إلا أنه كان لصحته الشخصية رأي آخر: «بدأت مشوار دراستي، كانت بداية جميلة لكل شيء، زملاء رائعون وتخصص مذهل، فقط افتقدت الحديث مع من كانت ملاذا لحياتي، وبعد فترة وجيزة أصابني ما لم أكن أعرف ماهو وما أسبابه، في كل فجر يصيبني تقيؤ يمنعني من الذهاب للكلية وشعور بالتعب ودقات قلب سريعة وشهية منقطعة حتى يصعب علي شرب الماء، ذهبت لأكثر من مشفى وأجريت الكثير من الفحوصات والغريب بالأمر أن جميعها كانت سليمة، صعب علي الذهاب وحضور المحاضرات، لم يقف الحال هنا بل أصبحت لا أطيق الحديث عن دراستي ولا محاولة الذهاب للكلية وأصبحت شخصا مختلفا تماما يحب وحدته ويصارع مرضه بنفسه»
وبعد أسطر قليلة من هذا المقطع تنتهي الرواية. لنكتشف عندها أن الكاتب لم يرد فقط البوح بماضي مأساته الكبيرة، التي أوصلها لنا مباشرة بحذافيرها المؤلمة، إنما أراد كذلك أن يوصل رسالة أخرى تتعلق بلحظته الراهنة. وكأنما بذلك يمد سؤالا حارقا أشبه بيد بيضاء، وهو ينتظر إجابة لمن يستطيع الوقوف بجانبه، لكي يتمكن من تجاوز عقبة الحاضر وشق الطريق إلى المستقبل.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/جرة-قلم-مرثية-أحمد-الهنائي-في-مقابرهم-بقلبي