إيهاب الملاح
كل من اتصل بالدرس الفلسفي أو الفكري والثقافي العام لا بد (أو هكذا أتصور) أن يكون قد سمع بهذا الكتاب لمؤلفه الشيخ المبجل، والعالم المستنير الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885-1947) أحد أنضر وأرقى الوجوه المعرفية والفكرية والثقافية التي شهدتها مصر وعرفها العالم العربي والإسلامي، في النصف الأول من القرن العشرين.
يصف نجيب محفوظ الشيخ مصطفى عبد الرازق في مذكراته، وقد كان أستاذًا له بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ قائلا:
“… الشيخ مصطفى عبد الرازق هو أكثر الأساتذة تأثيرًا عليّ خلال الدراسة الجامعية. هو مثال للحكيم كما تتصوره كتب الفلسفة، رجل واسع العلم والثقافة، ذو عقلية علمية مستنيرة، هادئ الطباع، خفيض الصوت، لا ينفعل ولم أره مرة يتملكه الغضب. كان الشيخ مصطفى عبد الرازق من أنصار حزب الأحرار الدستوريين، ويعرف أنني وفدي صميم، ومع ذلك لم تتأثر علاقتنا أبدًا. كان جيلنا يتمتع بصفة جميلة، وهي التفرقة بين قضايا الأدب والسياسة”.
اشتهر الشيخ مصطفى عبد الرازق بكتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» الذي ما زال حتى الآن هو العمدة في تجديد الدراسات الفلسفية الإسلامية (1944). وكان قبل ذلك قد ألقى عدة محاضرات عن أستاذه الشيخ الإمام محمد عبده في 1919 في أتون الثورة المصرية. ثم أصدر بعد ذلك ثلاث محاضرات بعنوان «الدين والوحي والإسلام» في 1945، قبل وفاته بعامين اثنين.
– 2 –
يحدد الدكتور علي مبروك (عليه رحمة الله) اللحظة المعرفية التي جرى فيها تدشين أولى حلقات الدرس الفلسفي الإسلامي الحديث؛ “وأعني بها الحلقة التي تكونت في مصر حول الرائد الكبير الشيخ مصطفى عبد الرازق، من اعتبار علم الكلام -مع أصول الفقه- هو “إبداع العقلية الإسلامية في الفلسفة”؛ وبما يؤكد على المنزلة المعرفية والتأسيسية الرفيعة للعلم، وذلك ابتداء من أن الفلسفة هي حقل انبناء كل ما يؤسس للحركة العلمية والمعرفية داخل حضارة ما.
ويضع مبروك هذه اللحظة معرفيا في سياقها التاريخي، حيث نشأت الدراسة الحديثة للفلسفة الإسلاميّة في القرن العشرين، في ارتباط جوهري مع سؤال الهويّة بالذات.
وقد تفرع ذلك عن حقيقة أنّ هذه النشأة كانت إحدى آليات المواجهة مع موجة استعمارية أوروبية عاتية، تكتسح معظم بلدان العالم الإسلامي. ولأنّ هذه الموجه الاستعمارية كانت مصحوبة بحركة استشراقية تقوم على التشكيك في أصالة الحضارة الإسلامية؛ وذلك من خلال ما تقوم به من ردّ الفكر الإسلامي إلى أصول يونانية، فإنه كان لا بُدّ من الدفاع عن أصالة الحضارة الإسلامية من جانب الباحثين المسلمين. ومن هنا، فإنّ سؤال الهوية كان هو الإطار الذي تبلورت ضمنه الدراسة الحديثة للفكر الفلسفي، والإسلامي على العموم.
وبحسب ما يتمّ ترتيب علاقة الذات مع الحاضر، يكون ترتيب العلاقة بينها وبين الماضي أيضًا. وهكذا، فإنّ رد الشيخ مصطفى عبد الرازق على الضغط الأوروبي الحديث على الذات الإسلامية، كان هو ما دفعه إلى ترتيب العلاقة بين هذه الذات، وبين اليونان (أحفاد الأوروبيين) في الماضي. ويعني ذلك، على نحو صريح، أنّ الموقف من أوروبا الحديثة وشكل حضورها في مصر، كان هو الذي يقف وراء تحديد نوع (الماضي) الذي تنتمي إليه مصر.
– 3 –
وإذا كان الموقف من أوروبا الحديثة قد شغل المفكرين المصريين بقوة في النصف الأول من القرن العشرين، وبالذات عند نهاية الثلاثينيات، فقد كانت تلك هي اللحظة التي كتب فيها الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، ولعله يمكن القول، كما يذهب إلى ذلك المرحوم علي مبروك، إنّ هذا الكتاب قد ظهر في سياق الحوار مع أحد أكبر المفكرين المصريين، وهو طه حسين الذي كان قد كتب، آنذاك، كتابه «مستقبل الثقافة في مصر».
ففي مقابل هذا التصوّر لمستقبل مصر في ارتباطها مع أوروبا عبر البحر المتوسط (كما يرى طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر»)، وعلى النحو الذي بدا معه أنّ أصالتها أو هويتها الإسلامية تتعرض للتهديد، فإنّ ثمة من راح يدافع عن هذه الأصالة الإسلامية على العموم، وكان من هؤلاء بالطبع أو على رأسهم الشيخ (مصطفى عبد الرازق) الذي يمكن القول إنّ المقالة الأساسية لمدرسته الفكرية هي الدفاع عن الأصالة الإسلامية على الخصوص.
ومن غير شك، فإنّ هذا الدفاع عن الأصالة الإسلامية كان، ولو من طريق غير مباشر، ردًّا على دعاوى ربط مصر بأوروبا التي يُنافح عنها المفكرون المصريون.
وهكذا، كما يرى المرحوم علي مبروك، فإنّ كون المستشرقين الذين ينكرون على الحضارة الإسلامية أي أصالة هم الخصوم الذين كتب مصطفى عبد الرازق كتابه في مواجهتهم، ولا يمنع من أن يكون طه حسين وسلامة موسى من الذين اهتم الكتاب بالردّ عليهم أيضًا، ولو ضمنًا.
– 4 –
يحاول الكتاب أن يجيب عن أسئلة من قبيل:
كيف نشأت الفلسفة الإسلامية؟ وهل الفلسفة الإسلامية لم تكن إلا اقتباسا صرفا من الفلسفة اليونانية؟ وهل لم يكن لدى العرب والمسلمين أي حركات فلسفية خاصة بهم كما يَدَّعي كثير من المستشرقين؟ أم أن الفلاسفة المسلمون لهم إسهامهم الواضح في تاريخ الفلسفة الإنسانية، وإن لم تُدَرَّس مصنفاتهم الفلسفية حق دراستها كما يرى البعض الآخر؟
هذا هو ما يناقشه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه المرجعي التأسيسي «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وانطلاقًا من النهج التطوري؛ التاريخي الاجتماعي، يستعرض الشيخ آراء عدد من المستشرقين الذين تأثروا بمناخ التعصب الديني والجنسي الذي كان سائدًا في أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر، لعل من أكثرة شهرة في عالمنا العربي والإسلامي إرنست رينان الذي قرر أن الجنس السامي الذي ينتمي إليه العرب والمسلمون هو دون الجنس الآري، وأن الفلسفة عند الساميين ليست إلا تقليدًا للفلسفة اليونانية!
في جانبٍ آخر، نجد أن هناك عددًا غير قليل من المستشرقين أثبتوا أن للعرب والمسلمين مدارسهم الفلسفية الخاصة بهم، وقد عرض الشيخ وجهة نظر هؤلاء المستشرقين كما عرض وجهة نظر المؤلفين الشرقيين من أهل البلاد الإسلامية، فيما يتعلق بتاريخ الفلسفة العربية والإسلامية، وتناول رأي الشهرستاني الذي تحدَّث عن الفلسفة في الأمم القديمة، معرجًا على دراسة بداية التفكير الفلسفي الإسلامي.
ويرى الشيخ عبد الرازق أن على الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية دراسة الاجتهاد بالرأي منذ نشأته البسيطة إلى أن أصبح نسقًا من أساليب البحث العلمي؛ لأنه كان البداية الحقيقية للتفكير الفلسفي عند المسلمين، ثم يلقي الضوء على آراء كل من علماء المسلمين والمستشرقين في الفقه ومذاهبه باعتباره علمًا فلسفيًا، كما يحدثنا عن نشوء الرأي في الفكر الإسلامي باعتبار أن أهل الرأي لهم أعظم الأثر في الفقه الإسلامي، وهم الذين رتبوا أبواب الفقه، ملقيًا الضوء على كلٍّ من الإمام الشافعي، وأبي حنيفة، لكونهما من أهم أصحاب المذاهب الفقهية لدى المسلمين.
وفي نهاية الكتاب يستعرض الشيخ علم الكلام وتاريخه باعتباره علمًا فلسفيًا خالصًا، حيث يتحدث عن نشأة علم الكلام وتأثيره في الحركة الفلسفية الإسلامية، مستعرضاً آراء عدد من كبار العلماء والفلاسفة المسلمين؛ من أمثال الغزالي والفارابي وأبو حيان التوحيدي في علم الكلام.
– 5 –
وهكذا تبلور موقف الرائد الأول والكبير (مصطفى عبد الرازق) في تأكيد أصالة النصّ الفلسفي الإسلامي في مواجهة النصّ اليوناني، ابتداء من أنّ العلاقة بينهما لم تكن مجرّد تطابق وتمازج، بل إنها قد انطوت أيضًا على نوعٍ من الإزاحة والتدافع.
وقد استخدم الشيخ “منهج النص” التحليلي من أجل عرض آراء الفريقين، ثم إيراد النصوص العربية الإسلامية القديمة من أجل الاستدلال بها على صحة المنهج الجديد، وكدليل على الأصالة في بدايات الدرس الفلسفي في الجامعة المصرية. فقد كان “التمهيد” محاضرات ألقيت في الجامعة المصرية منذ نشأتها عام 1925 كجامعة حكومية.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/مرفأ-قراءة-الشيخ-مصطفى-عبد-الرازق-يمهد-لتاريخ-الفلسفة-الإسلامية