مرفأ قراءة… “التحليل الاجتماعي للأدب” ريادة نقدية مبكرة!

– 1 –

ثمة كتب تحفظها المكتبة النقدية العربية تحمل، فضلًا على المنهجية التي بشرت بها أو المعرفة النقدية التي تضمنتها أو التيار النقدي الذي مثلته، قيمةً معرفية وتاريخية خاصة مشروطة بظرفها التاريخي وسياقها الاجتماعي الثقافي. بهذا المعنى نتحدث عن كتبٍ علامات أُنتجت في لحظات انتقال أو تحول معرفي أو ثقافي خاصة.. ومن هذه الكتب ما حمل أو مثَّل انتقالا ثوريا يفصل بين مرحلتين وحالتين وسياقين!

بهذا المعنى نتحدث عن كتاب “في الشعر الجاهلي” (1926) لطه حسين الذي مثل ثورة منهجية عارمة في وقته، وكتاب “الديوان في الأدب والنقد” (1927) للعقاد والمازني أو كتاب “في الثقافة المصرية” (1955) لعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، الذي كان إعلانًا وتدشينًا لتيار النقد الاجتماعي مطبقا مفاهيم الواقعية الاشتراكية (نظرية الانعكاس) النقدية.

وبهذا المعنى أيضًا نتحدث عن كتاب الراحل السيد ياسين “التحليل الاجتماعي للأدب” الذي صدر للمرة الأولى عام 1970، ومثَّل ريادة نقدية مكتملة في التأسيس لهذا الفرع المعرفي من الدراسة الأدبية والنقدية المعروفة اليوم بسوسيولوجيا الأدب، أو “علم الاجتماع الأدبي”، أو ما اشتهر به خلال العقود التالية “علم اجتماع الأدب”.

– 2 –

يوضح السيد ياسين في تقديمه للطبعة الثانية من الكتاب (1981) أن المشكلة الرئيسية التي يتصدى لها الكتاب هي مشكلة التحليل الاجتماعي للأدب، مشيرًا بشكل ضمني إلى الريادة المبكرة للكتاب والأفكار الأساسية التي طرحها على طاولة البحث والنقاش؛ ومن ثم فقد فتحت هذه الدراسة البابَ واسعًا أمام الباحثين والدارسين في الجامعات المصرية والعربية ومختبرات البحث والسرديات وخاصة في المغرب العربي لإنجاز أطروحاتهم العلمية (الماجستير والدكتوراه) حول بعض القضايا والموضوعات والإشكالات التي أثارها الكتاب، ومنها على سبيل المثال:

دراسة الأعمال الأدبية بين النقد الأدبي والعلوم الاجتماعية، وإرساء تأسيسات معرفية وإجرائية حول التحليل السوسيولوجي للأدب، وبين النقد الأدبي والفلسفة (والعلوم الاجتماعية)، والمشكلات المنهجية والتطبيقية في علم الاجتماع الأدبي، ونحو الدراسة الاجتماعية للظواهر الأدبية… إلخ

ويمكن القول إن الكتاب الذي صدر للمرة الأولى عام 1970 كان يحاول تأصيل ميدان علم الاجتماع الأدبي، بالإضافة إلى تقديم عدد من الأفكار الأساسية لمفكرين بارزين لم تكن أسماؤهم معروفة بعد في العالم العربي في ذلك الوقت، ومن هؤلاء: الناقد المجري الشهير “جورج لوكاتش” صاحب الدراسات الرائدة في وقتها عن الرواية الواقعية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وعن الرواية التاريخية، ونظريات الدراما والمسرح من منظور نظرية الانعكاس الماركسية، وكذلك الناقد البارز لوسيان جولدمان؛ مؤسس منهج البنيوية التوليدية، وصاحب الدراسات التأسيسية في علم اجتماع الأدب وعلم اجتماع الأنواع الأدبية في أوروبا منتصف القرن العشرين، كما عرض الكتاب للمرة الأولى في النقد العربي لدراسة جيرار جينيت التأسيسية في تاريخ العلم وتطوره؛ وهي الدراسة المعنونة بـ “الكذب الرومانتيكي والحقيقة الروائية”.

ولم يكتف الكتاب بتقديم الفصول النظرية التأسيسية فقط بل قدم أيضًا بعض الدراسات التطبيقية على الأدب المصري والعربي، وذلك من خلال التحليل الاجتماعي الاجتماعي لبعض الأعمال الروائية المصرية والعربية، وعن طريق دراسة مشكلات الإبداع لدى الكتاب المصريين من وجهة نظر اجتماعية.

– 3 –

في قراءته المركزة للكتاب يشير الناقد والأكاديمي الدكتور حسين حمودة إلى رصد السيد ياسين الدقيق لأهم الإشكالات المبدئية فيما يتصل بحدود وتصنيف “علم الاجتماع الأدبي” أو “علم اجتماع الأدب” الذي يتحرك بين دائرة (العلم)، بما لها من شروط موضوعية، وأدوات منهجية صارمة ودقيقة من ناحية، ودائرة النقد الذي يتعامل مع مادة أدبية مراوغة، تستدعي الاهتمام بجوانب جمالية وذاتية، يصعب وضع قوانين ثابتة ونهائية لها من ناحية أخرى.

ويتوقف السيد ياسين، عند المعارك النقدية والفكرية التي ارتبطت باتجاه مدرسة “النقد الجديد” و”النقد القديم” في فرنسا خلال الستينيات، والنقد الذي وجه إلى “مدرسة التحليل النفسي”، فتحت عنوان “التحليل السوسيولوجي” للأدب يتوقف عند مدرسة البنيوية التوليدية، التي أسسها لوسيان جولدمان، وتابعها بعض شارحيه، واجتهاداتها في الربط بين الأدب والمجتمع ربطًا يتجاوز الأفكار السطحية حول فكرة (الانعكاس)، التي ترى أن الأدب مجرد مرآة تعكس صورة المجتمع.

وهكذا، في فصول الكتاب الأخرى، يهتم السيد ياسين، بالعلاقة بين النقد الأدبي والفلسفة والعلوم الاجتماعية، ويطرح عددًا من القضايا التي تثيرها هذه العلاقة، ويتوقف عند اجتهادات عددٍ من النقاد المهمين (الذين سيكون لهم حضور كبير في النقد العربي الأكاديمي فيما بعد)، كما يعرض للأجنحة المتعددة، الجناح النفسي، والجناح السوسيولوجي، والجناح الفلسفي في النقد الأدبي الجديد الفرنسي، والتصورات التي ارتبطت بهذه الاتجاهات النقدية، وتجربة “رولان بارت”، وعلاقة النقد الأدبي بالعلوم الاجتماعية، والقضايا المنهجية الإشكالية التي تتصل بهذا، والاقتراحات التي قدمت على سبيل حل هذه القضايا الإشكالية.

– 4 –

أما في تناولاته التطبيقية فقد آثر السيد ياسين أن يعرض أولا للمشكلات التطبيقية التي تقترن بعلم الاجتماع الأدبي (حول المؤلف، وحول طبقته الاجتماعية، وحول انتمائه الفكري والأيديولوجي، وحول الأجيال الأدبية، وحول العمل الأدبي، وحول جهود هذا العمل، وحول فكرة الأجناس والأشكال الأدبية).

وانطلاقًا من التأسيس للأفكار السابقة؛ يتوقف السيد ياسين مليًّا أمام بعض النصوص المختارة مركزًا على استخلاص هذه المحددات أو القضايا السابقة، فنراه يحلل رواية “العيب” ليوسف إدريس من هذا المنظور، ومتوقفًا أمام ما سماه التصوير الأدبي للانحراف الاجتماعي “تحليل سوسيولوجي”. كما نراه يتوقف أيضًا بالإشارة إلى نصوص نجيب محفوظ الذي أهدى إليه الطبعة الثالثة من الكتاب مخاطبًا إياه بـ “الروائي ناقدًا اجتماعيًّا”.

وسيبرز السيد ياسين، ربما للمرة الأولى في البحوث والدراسات الأدبية والنقدية، قيمة الشهادات الواقعية التي يسجلها الأدباء في مراحل مختلفة من مسيرتهم الإبداعية. ففي الفصل التاسع من كتابه يقدم تحليلًا نافذًا لعددٍ من شهادات الكتاب الشبان آنذاك “كتاب جيل الستينيات في مصر”، من وجهة نظر مناهج البحث وعلم الاجتماع الأدبي.

ومن شهادات الكتاب الواقعية إلى النصوص المخطوطة غير المنشورة التي باتت مادة ثرية قابلة للتحليل واستخلاص النتائج، كما باتت أيضا نموذجًا لهذا النوع من الأدب الذي يثير إشكالاته الخاصة، وأسئلته المتصلة به؛ من نحو أساليب مقاومة القمع، والتحايل على السلطة، ونقد المحرمات في المجتمع، وخلخلة المفاهيم التي كرستها قرون من تجارب التدين الموروث.. إلخ.

ولا يغفل الكتاب الإشارة إلى أبرز الدراسات النقدية التي اعتمدت منهج التحليل الاجتماعي في القصة والرواية والشعر والمسرح.. إلخ.

– 5 –

لقد فتح هذا الكتاب البابَ واسعًا أمام عدد من الباحثين والدارسين النابهين في مصر والعالم العربي (وخاصة في الدول المغاربية؛ تونس والجزائر والمغرب) لإنجاز عدد من الدراسات والكتب الرائدة في إطار علم اجتماع الأدب بمعناه الواسع وهي الكتب والدراسات التي راكمت منجزا حقيقيا في هذا المجال؛

نذكر في مصر على سبيل المثال جهود عبد المنعم تليمة (في نظرية الأدب، وعلم اجتماع الجمال الأدبي)، وسيد البحراوي (مدخل إلى علم اجتماع الأدب، ومحتوى الشكل في الرواية العربية) وجابر عصفور (في نظريات معاصرة)، وصبري حافظ، وأمينة رشيد (تشظي الزمن في الرواية العربية الحديثة)، ومن بعدهم محمد بدوي في دراسته الرائدة عن الرواية المصرية الحديثة (في الستينيات) التي طبق فيها منهج البنيوية التوليدية للوسيان جولدمان على نماذج من الرواية المصرية في الأدب العربي المعاصر، وحسين حمودة وخيري دومة وسامي سليمان،

وفي لبنان يمنى العيد ومحمد دكروب، ومن دول المغرب العربي نذكر الطاهر لبيب ودراسته التأسيسية عن (سوسيولوجيا الغزل في الأدب العربي) ومحمد برادة (ودراسته لنقد محمد مندور) وحميد لحميداني من المغرب، وغيرهم.

ولعلني أتفق تمامًا مع حسين حمودة في قوله إن هذا الكتاب رائد بحق، في زمنه المبكر، استطاع أن يستكشف مسيرة قادمة في دراسة الأدب من منظور اجتماعي، وفي سياقه المحدود، كما استطاع أن يطلَّ على قضايا وأفكار وتصورات غير محدودة.