الأغنية العُودية العُمانية وتحديات الهوية والمعاصرة

مسلم بن أحمد الكثيري

 

لخصت في هذا المقال بعضا مما ناقشته في دراستي التي قدمتها في “مؤتمر ومهرجان الفن العربي المعاصر التاسع: الفن والهوية الوطنية” ونظمته كلية الفنون الجميلة في جامعة إربد بالمملكة الأردنية الهاشمية من 27 ــــ 29 يوليو 2021. وكان عنوان الدراسة:” الأغنية العودية العُمانية وتحديات الهوية والمعاصرة، مداخلة من واقع التجربة “استعرضت فيها أبرز التحديات التي واكبت صناعة الأغنية العُمانية المعاصرة وتأصيل هويتها الثقافية والفنية في الفترة التاريخية من عام 1970 وحتى وقتنا هذا.

وفي سياق الدراسة حاولت الإجابة على عدة تساؤلات في هذا الشأن تتصل بهذه التجربة، وأكدت في الدراسة أن الحدود السياسية ليست حدودا اجتماعية وثقافية وفنية بين عُمان ودول الجزيرة العربية من جهة، والشعوب المجاورة لها المطلة على المحيط الهندي من جهة أخرى، وأينما ارتحل الإنسان العُماني حمل معه ذاكرته، وأثر وتأثر. وهذا ما حصل في قصة الغناء العودي حيث جاب الفنانون عبر السفن التجارية ـــ تجار ومهاجرون ومطربون ـــ من عُمان وجنوب الجزيرة العربية والخليج إلى الهند، والشرقين الأفريقي والآسيوي، ومدغشقر، وجزر القمر. من هنا تبدأ قصة نشأة الأغنية العودية العُمانية، وأتساءل: كيف بدأ الرواد المؤسسون، ومن هم؟ وما هي الأنماط الغنائية التي كانوا يمارسونها؟ والآلات الموسيقية التي استعملوها، وأتساءل ايضاً عن أثر ظهور تقنية التسجيل الصوتي وتجارة الأسطوانات في الغناء العودي. كما حاولت الكشف عن دور مدينة صور الغامض صانعة الألعاب المجهولة في هذه القصة وهي المدينة البحرية الأهم في جنوب بحر عُمان باعتبارها بوابة الخليج الجنوبية بتأثيرها الثقافي والفني الذي لم يدرس بعد، وكذلك الكشف عن دور مدينة صلالة؛ أرض الأصالة والفن، وعاصمة اللبان والبخور التي تميز فنانوها بالمحافظة على خصوصيتها الثقافية والفنية في أغنياتهم العودية.

ولكن القضية الأساسية في هذه المداخلة هي الوقائع التاريخية التي سأكشفها عن نشأة الغناء العودي المعاصر وصناعة هويته الثقافية في بلادنا، ودور الغناء العودي اليمني والحضرمي بشكل خاص في ذلك. وكان استعمال الآلة الوترية القمبوس ( وتسمى أيضاً: القنبوس أو الطُربي أو الطارب، أو المُزهِر)، وطبلِ المرواس اليمنيتين وأنماطِهما الغنائية، وانتقالهِما مع الممارسين عَبر السفن التجارية وموانئ المنطقة أثراً حاسماً في ذلك، ولعله البحر كان فضاء حراً للفنانين بعيداً عن سلطة المدن المنغلقة في ذلك الوقت.

في كل بلد من بلدان الجزيرة العربية تراث موسيقي محلي وآخر مشترك، والغناء العودي موضوع هذه المداخلة أكبر مثال لهذا المشترك. ولكن، لكل نمط غنائي في تراثنا قالبه الفني وضربه الإيقاعي ونصوصه الشعرية المتفردة، والغناء العودي أصله في الغناء الشعبي أو التقليدي أي المتصل بالتقاليد الاجتماعية، فالتحدي هنا أمام الباحث ـــ أي باحث ـــ يكمن في صعوبة العثور في عُمان ودول الخليج الحديثة على ألحان للغناء العودي في التراث الموسيقي المحلي تعود إلى ما قبل القرن العشرين غير النصوص الحمينية والألحان اليمنية. وقد لا يكون هذا لعدم الممارسة، ولكن بسبب منع ممارسة الغناء العودي بشكل علني، فضاع وذهب واختفى أثره، فهذه الشعوب كانت ولا تزال محبة للشعر والغناء والإبداع بطبيعتها.

إن هذه الفجوة في التاريخ الثقافي والفني لا تتناسب مع دور عُمان الحضاري ومكانتها في هذه المنطقة، بحيث لا نعثر على اسم ممارس ترك بصمة فنية ولا صانع لأي نوع من أنواع الآلات الوترية أو الهوائية عبر القرون الممتدة. من هنا فإن مسألة الغناء العودي في بلادنا واجهت الكثير من التعقيدات منها موقف بعض الفقهاء المانع منذ قرون طويلة، وإهمال التوثيق للموسيقى وتأخر التعليم العام والموسيقي، وظهور الإذاعة المتأخر كذلك، وضعف البنية الأساسية.

ورغم إن النشاط الغنائي المسجل والمنشور بواسطة الأسطوانات للموسيقيين المهاجرين بدأ منذ الأربعينات من القرن العشرين على الأقل ولاقى استقبالا شعبيا، إلا إنه ظل نشاطاً لا يحضى باهتمام ورعاية المجتمع الثقافي الرسمي في الجزء الآسيوي من السلطنة العُمانية حتى السبعينات من القرن العشرين في الوقت الذي كان هذا نشاطاً قديماً في الجزء الأفريقي بسبب التنوع الاجتماعي والثقافي هناك. ولكن نعتقد أن شركات الإنتاج الموسيقي وبيع الأسطوانات قد فرضت واقعا مناسبا لتجارتها ونشرت تسجيلاتها بهدف تحقيق المزيد من الأرباح رغم تلك الظروف، من هنا كان دور هذه الشركات وظهور الإذاعات من أهم الأسباب في انتشار وتوثيق هذا الغناء منذ القرن العشرين في عُمان والجزيرة العربية، وتراجع حدة المنع والتشدد بشأنه. فالجزء الأفريقي من البلاد كان أكثر انفتاحاً على الموسيقى من الجزء الآسيوي إلى أن جاء للحكم المغفور له السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، وبدأ إصلاحات شاملة ورعى الفنون والموسيقى خاصة.

ومع الأخذ بعين الاعتبار الفترتين الزمنيتين لبدء النشاط الغنائي العودي العلني ـــ ونعني بهما مرحلة المهجر في الأربعينات من القرن العشرين، ومرحلة السلطان قابوس في السبعينات ـــ أتساءل في هذا السياق عن مدى نجاحنا بالاعتماد على الأنماط والقوالب الفنية المحلية والعربية من صناعة أغنية عودية عُمانية!، وهل الأغنية العُمانية تساهم في تشكيل الذائقة الجمالية المحلية في ظل الغياب شبه التام من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة؟

والجدير بالملاحظة والمتابعة أيضا، هو التراجع الملحوظ في الإقبال على ممارسة الأنماط الغنائية العودية المؤسسة للنهضة الفنية التي برزت في مطلع القرن العشرين لصالح أنواع من الغناء الهجين والمتشابه أو المتطابق في كل شيء. ولكن الحفاظ على التراث الموسيقي ليس معناه اجترار ألحانه المتوارثة، بل الاستمرار في عملية الإبداع والتجديد ودراسة قوالبه الفنية اللحنية والإيقاعية وإتقانها والانفتاح على موسيقيات العالم في مجال العلوم والمهارات الفنية. ولكن الذي أراه أننا أمام فيئتين اجتماعيتين: مثقفة ومتعلمة يتجه ذوقها للموسيقى الغربية، المؤثر الثقافي الأحدث في الموسيقى العُمانية المعاصرة، والتي تعرض في أفضل الأماكن المجهزة، وأخرى تقليدية أو شعبية؛ تحظى موسيقاها بكثير من الكلام وقليل من العمل وضعف في البنية الأساسية.

وعلى العموم أنماط وقوالب الغناء العودي المعاصرة متنوعة، ولكن التي نحن بصدد الحديث عنها هي المحلية المنشأ من جهة وذات الجذور الحضرمية من جهة أخرى، وهذه الأخيرة تمارس في عموم الجزيرة العربية، ولا تختلف كثيرا من بلد لآخر إلا في أساليب الأداء. وفي كل الأحوال يكفي أن تدخل آلة العود على أي لحن حتى نطلق عليه أغنية عودية؛ وبهذا المعنى العام نستعمل مصطلح العودية، ذلك أنه عند الحضارم غناء عودي يسمى عوّادي. وهو حسب تعريف صديقنا الموسيقي والباحث الحضرمي طارق باحشوان نمط غنائي” تميز بطريقة أداء عن الزربادي حيث قام سلطان بن الشيخ علي بن هرهرة ( وغيره من المطربين في ذلك الوقت ) إلى تطويع الزربادي على آلات التخت المعروفة بحضرموت وبالعود العربي القديم فسمى عوادي، وفي الغالب نصوص غناء العوادي باللغة العربية الفصحى وهو الشعر الحَكَمي (حسب التصنيف اليمني للشعر). وضروب العوادي الإيقاعية هي: عوادي مخلوف، وخيالي، وبهروي وبنجابي، وهذان الأخيران واضحة تسمياتهما وأصولهما الهندية ” (انتهى الاقتباس مع تصرف في السياق). والقوالب الفنية العودية العُمانية منها المحلية وأخرى الحضرمية كما ذكرت، وهي: الصوت، والتسميع أو الشحري، والبرعة، الختام أو الشرحي. والعوادي ـــ حسب الأسلوب الحضرمي ـــ هو النمط الأقل انتشاراً في عُمان، وهو معروف في مدينتي صلالة وصور ولكن قليل من يتقنون أداءه، والعوادي نوعان: عوادي ثقيل وميزان دخلته 8/7، وعوادي خفيف وميزان دخلته 8/6، وللنوعين خرجة واحدة نشطة تكون في العادة على ميزان 8/4، وكل أغاني العوادي من التراث الحضرمي.

ويرى صديقنا باحشوان أن هذه الحركة النشطة “الخرجة” هي من إضافات الفنان محمد جمعان خان لكسر الرتابة، غير إننا نلاحظ إنها من أصول القالب الفني في الشرح بصلالة، والزربادي في سيئون بحضرموت، وربما يكون قد أخذها من هناك خاصة وأن الزربادي؛ وهو (الشرح في صلالة) الأصل المحلي للعوادي والصوت؛ وهذا الأخير عرف فيما بعد بالخليجي ولهم فيه أسلوب أداء مميز ومشترك مع عُمان وبالذات مع مطربي مدينة صور، فيما يؤدونه الأندونيسيون من غير خرجة. والصوت والعوادي؛ هما الأصعب أداء للعازفين والمطربين في كل أنواع الغناء العودي ونصوصهما الشعرية أما حُمينية أو حَكَمية يمنية أو من الشعر العربي الفصيح. وقد أضاف المطربون إلى قالب الصوت، خرجة تسمى توشيحة في عُمان والخليج وهي على لحن ثابت في الغالب تتبعها قفلة حرة يؤديها عازف العود ـــ أو أي آلة أخرى ـــ كتقسيم إيقاعي حر.

ومن باب التنويع والتسهيل للهواة هناك قالب فني آخر من أنواع العوادي ودخلته على ميزان 8/4 وخرجته 8/6. أما نمطي التسميع والبرعة: فهما محليان، فيما الختام ـــ وضربه الإيقاعي يسمى (شرحي) ـــ هو أيضاً من أنواع العوادي يؤدى منفصلا كخاتمة أو متصلا كخرجة، وربما للحضارم تسميات أخرى فيه، كما هو الحال عندنا في عُمان قد نسميه مديما أو برعة حسب نوع الضرب الإيقاعي. ومن الملاحظ أن معظم القوالب الفنية للغناء التقليدي في مدينة صور والولايات المجاورة، لها نفس القالب الفني ـــ المدخل والمخرج ـــ مع اختلاف أسلوب الأداء، وهذا الأخير يسمى كسرة في الرزحة وأبوزلف على سبيل المثال لا الحصر، فيما مدخل البرعة بالدان المرتجل، وكذلك الربوبة والطبل العربي أحدث أنماط الغناء العودي في ظفار.

ومنذ السبعينات من القرن العشرين استغنى المطربون عن” التخت التقليدي “، وأضافوا عددا كبيرا من الآلات الموسيقية الشرقية والغربية بمساعدة الموسيقيين العرب وخاصة المصريين الذين أصبغوا عليها لهجتهم الموسيقية وأساليبها الفنية، وأصبح لا حدود للتعبير الفني في هذا المجال، ولا التزام من جهة بالقوالب الفنية التراثية، وأساليبها الفنية التقليدية، فاتجه البعض إلى التلحين على قالب المونولوج الفني وتقديم أعمال إبداعية جديدة، ولكن معظم الأغاني التراثية صارت على منوال الطقاطيف؛ فيأخذ “المطور” لحنا من أنماط الغناء التقليدي ويضيف إليه غصنا أو أكثر مع التوزيع الموسيقي وينقله من قالب فني إلى قالب آخر، وهكذا مع هذا التوجه الأخير فقدنا الكثير من القوالب الفنية اللحنية والإيقاعية التراثية في الغناء المعاصر. وقد وصلت الأغنية العودية العُمانية إلى ذروتها مع عدد من روادها في المهجر والداخل لعل أبرزهم المطرب والملحن سالم بن راشد الصوري (ت. 1979 ) وسفير الأغنية العُمانية المعاصرة المطرب والملحن سالم بن علي سعيد (ت. 2017 ).

وكانت أهم الآلات الموسيقية التقليدية المصاحبة للغناء العودي هي آلة العود بنوعيها: عود القمبوس، والعود المشرقي ذو الأضلاع المتعددة، وبالإضافة إلى آلة الكمان وعدد من الآلات الإيقاعية. والأغنية العودية هي الأغنية الشعبية الأولى أو الأكثر انتشارا وقبولا بين مختلف الفئات الاجتماعية، فهذا الغناء مثل الفصحى لغته النغمية مشتركة بين الجميع، ويستوعب كل أنواع الأشعار وموضوعاتها القديمة والحديثة.