هناك من يجيد الرحيل، والآخر يجيد الكتابة عن الرحيل، أو بمعنى آخر الكتابة عن الراحلين، ربما هو قاموس خاص، يمتلكه قلم ذو شجن بالغ، وقلب ذو قدرة فذّة على الوقوف على الجرح، ومراقبة النزف الذي يتشكل من صورة الرحيل.
هذا ما امتلكه الكاتب محمود الرحبي الذي نشر عددا من المقالات عن الراحلين، وجمع في إصدار جديد ضمن إصدارات الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في معرض مسقط الدولي للكتاب، حمل عنوان «حقائب خفيفة للراحلين».
يقول محمود الرحبي في مقدمة إصداره: «رحيل من كانوا معنا يعني أننا فقدنا أمل احتمالية أن نلتقيهم في أي صدفة مقبلة، أو فقدنا فسحة ذلك الأمل»، ويطرح أسئلة متوغلة في عمق الحزن فيقول: «حين كانوا بين ظهرانينا، هل كنا منشغلين بهم إلى الحد الذي يفجعنا رحيلهم؟ هذا سؤال آخر، ولكنه سؤال قاسٍ قد يتبادر إلى الذهن بسهولة».
ينظر للرثاء بأشكاله وأوجهه المختلفة في الكتابة، يمكن أن يكون مقالة، أو ربما رواية، حيث يتساءل بشيء من الإصرار عن حقيقة ذلك: «هل يمكن للرواية أن تكون في أحد جوانبها وثيقة رثاء؟ ولم لا! حين تبذر في ساحة موضوعها شخوصا تركوا أثرهم في دنيانا قبل أن يغادرونا».
يستحضر محمود الرحبي في كتابه مجموعة من الأشخاص ذوي الأثر، أو كما يقول: «بعضهم تجمعنا بهم علاقات فيزيقية مباشرة، والبعض الآخر علاقات أثيرية من خلال ما نقرأ لهم إن كانوا كتابا، أو ما نتذكره من فواصل في لقاءاتنا بهم، سواء تلك الحميمية أم العابرة».
يتناول كتاب «حقائب خفيفة للراحلين» رثاء سرديا لـ30 شخصا يشتركون جميعا بالحضور الوجداني في ذات الكاتب، والغياب الذي يصفه الرحبي بقوله: «جميعهم يشتركون في حالة الغياب، غياب يقترن بحضور وحياة كاتب هذه الأسطر ومدى علاقته بهم مباشرة أو قراءة أو ذكرى».
يبدأ إصداره بالكتابة عن «عبدالله الحارثي» الذي يرثيه بالحديث عن مخيمه الصحراوي «مخيم ألف ليلة»، ويصفه فيقول: الراحل عبدالله الحارثي فيما يشبه «فتحا» للصحراء.
وينتقل بالحديث عن عبدالله بن حمود الوهيبي الذي يشبّه الحديث عنه بوصفه مدينة شاسعة لا تعرف الصمت، ويقول: إن الوهيبي هو رسام للضحك، كما يستحضر الرحبي في كتابه «حسن بوس» الذي يصفه بالشخصية المليئة بأسرار النزهات، ولكنه حول رحيله يقول بأنه لا يمكن أن يوصف بالرحيل الأبدي، إنما هو شبيه بنوم الفراشات.
ويتحدث محمود في كتابه الجديد عن راحل آخر وهو «محمد نظام» الذي كان لقاؤه به قبل أيام من رحيله المفاجئ، يستعيد ذكرياته ومعرفته به، يستحضر فنه الذي ظل باقيا حتى بعد رحيله. ويقترب أكثر من أشخاص آخرين وهم شعراء وكتاب لهم بصمتهم في الأدب العماني والعربي أمثال «مبارك العامري» الذي وصفه بالنبل والإيثار والكرم، ووصفه بأنه رائد الصحافة الثقافية في عمان، و«علي المعمري» الذي يصف حياته كضحكته العالية والصاخبة والواسعة، حياة طويلة ولكن عمره قصير، و«محمد الحارثي» الذي ورثت المكتبة العمانية من بعده عددا من الإصدارات والكتب والدواوين.
وفي مقال آخر حول الراحلين، كتب عن القاص العماني «عبدالعزيز الفارسي» الراحل في عمر مبكر، والذي شكل رحيله وجعا كبيرا في الساحة الثقافية، ونعاه كُثُر، وفي مقال يستعيد لقاءه الأول بالفارسي، وتفاصيل كثيرة خلال فترة معرفته به. وكتب أيضا عن ثاني السويدي، وعن شاكر عبدالحميد، وصباح فخري، وحسن الفارسي، وأمجد ناصر، وإدريس الخوري، وصالح شويرد، وموسى عمر، وغسّان كنفاني، وفتحي عبدالله، وأحمد المجاطي، وعن ماركيز ومارادونا وأبو بكر سالم، وعن عبدالله الطائي، وفريد رمضان، وسركون بولص، ونجيب محفوظ، وسعود الدرمكي، وبهاء الدين الطود، وإلياس فركوح، وبهاء طاهر، وميلان كونديرا. وقّع الكاتب محمود الرحبي على كتابه «حقائب خفيفة للراحلين» مساء اليوم في ركن الجمعية، وسط إقبال على شراء الكتاب من زوار المعرض.