باحثون يناقشون تحديات فهم الشباب للتراث والتاريخ.. ويقترحون الحلول

استطلاع – فيصل بن سعيد العلوي
أكدوا أن الجذور التاريخية والتراثية مصدر إلهام ورؤية للمستقبل

رغم الاهتمام الكبير الذي توليه سلطنة عُمان في البحث والتنقيب عن هذا الجزء الكبير من تاريخها في جميع محافظاتها ومنذ أول بعثة أثرية في عام 1952 برئاسة وندل فيلبس في موقعَي البليد وسمهرم وحتى يومنا هذا، إلا أن هناك فهمًا قاصرًا عند بعض الشباب بخصوص «التاريخ» و«التراث» كقيمة وعمق حضاري، قد يكون نتيجة التركيز الزائد على الجوانب المادية للتاريخ والتراث دون النظر إلى الأبعاد الثقافية والتاريخية والفنية التي يمثلانها. فالتراث والتاريخ يعبّران عن الهوية التاريخية والحضارية للشعوب من خلال القيم والمفاهيم والتقاليد والعادات التي تجسد هذه الهوية. ومع ذلك، فإن فهم الشباب للتراث والتاريخ يعود بهم إلى جذورهم وهويتهم الوطنية، مما يساعدهم على تحقيق التطور والمشاركة في التقدم الذي يحققه الآخرون. وتُعد مشكلة عدم الاهتمام هذه عاملًا رئيسًا في ضعف الفهم والمسؤولية والإحساس بقيمة التراث الوطني. لذا، تشدد مجموعة من المختصين على أهمية تكامل جهود المؤسسات الرسمية ومؤسسات القطاع الخاص التعليمية في نشر وتعزيز فهم التراث والتاريخ لدى الشباب، وأن تؤدي دورًا فعالًا في زرع الوعي والتثقيف بأهميتهما، كما يشدد الباحثون على أن كل التطورات التي نشهدها اليوم هي نتيجة لماضٍ حافل بالحضارات والتاريخ. فلا يمكن لبلد أن يحقق تقدما حقيقيا دون أن يستند إلى جذوره التاريخية والثقافية والتراثية، وأن يكون مصدر إلهام ورؤية للمستقبل.. في هذا الاستطلاع الصحفي، سنسعى إلى فهم آراء الخبراء حول هذه القضية، وسنبحث عن الحلول والمبادرات التي يمكن اتخاذها لتعزيز الوعي عند الشباب الذي يعد أمرا ضروريا وحيويا لنهضة أي بلد وتقدمها..

بداية، يقول المكرم السيد نوح بن محمد بن أحمد البوسعيدي، عضو مجلس الدولة ورئيس الجمعية التاريخية العمانية: لا ألوم الشباب على الفهم الذي أصبح، للأسف، يتسع بشأن التراث والتشكي. علينا أن ننظر للحاضر والمستقبل، وأن يكفينا التعلق بالماضي. وهناك أسباب لا تخلو منها المبالغة في الحرص على المحافظة على الموروث من حيث شكله الخارجي والهندسي. فالتصاميم الهندسية للمباني، معظمها، تركز على الشكل التراثي مثل المدارس والمستشفيات والمباني الحكومية والشخصية، بنمط القلاع والأبراج. وبالتالي، يشعر الشباب بالملل من هذا النمط. ويندرج ضمن هذا الجانب أيضًا عدم السماح بناطحات السحاب واعتبارها مخالفة تراثية وحضارية، على الرغم من أنها أحد المظاهر للحياة المدنية والشبابية، وتقوم عليها أنشطة اقتصادية وترفيهية كثيرة، وتكون محور المدينة أو «داون تاون» الذي يستهوي الشباب.

ويضيف «البوسعيدي»: إذا أردنا أن نعيد للشباب تقديرهم وإدراكهم للتاريخ والتراث، علينا أن نعزز من برامج ما أسميته في عدد من المناسبات «رسملة التاريخ والتراث» أي خلق قيمة رأسمالية لتاريخنا وتراثنا. ومن الأمثلة على ذلك -وهذا أمر بدأت وزارة التراث والسياحة في تبنّيه، هو تحويل القلاع إلى مواقع استثمارية، من خلال إقامة مطاعم ومقاه وأسواق شعبية، وجذب مناشط ترفيهية أسبوعية وتطوير أنشطة يستفيد منها الشباب من خلال مشاريع. بهذا الإجراء سيبدأ الشباب في إدراك أهمية التاريخ والتراث، وأن ما تركه الأجداد ليس جدارًا قد ينهار، بل هو كنز مدفون ينتظر الاستغلال.

على مجتمعنا أيضًا أن يثري التاريخ والتراث بتجارب حسية للشباب. ومن الأمثلة الممكنة تسيير رحلات سياحية في مراكب تقليدية إلى الشرق الإفريقي، على خطى الإمبراطورية، كما يمكن تنشيط المسرح التاريخي والتراثي وإقامة هذه الفعاليات في القلاع والحصون، وتحويل الحارات إلى نُزل سياحية، ويمكن أيضًا تطوير ساحات وباحات وطرق حول الحصون والقلاع والحارات، للمشي وركوب الدراجات للترفيه والتنزه، كما يمكن استغلال البروج والشرفات لإقامة مقاه بانورامية، وبالإمكان أيضًا استغلال بعض الأفلاج الكبرى والعيون لإقامة حمامات استشفاء بالمياه المعدنية، وتنظيفها وتحديثها بأسلوب راق ونظيف، ولا يجب أن ننسى المزارع القديمة التي تحتوي على بيوت وبنى طينية قديمة، يمكن تحويلها إلى نُزل سياحية باسم «هوم ستاي»، حيث يشعر الشباب بأن تاريخنا وتراثنا يمنحهم فرصا ترفيهية، وهناك بلدان مثل اليونان ومصر وإسبانيا وغيرها الكثير، تعتمد السياحة التاريخية والتراثية كمصدر دخل قومي. ولكن أعتقد أن هذا الدور ليس مقتصرًا على الدولة وحدها، وأرى أنه يمكن تشكيل شركات استثمارية محلية في المحافظات لتتولى مثل هذه المشروعات، مع الحصول على الدعم الحكومي.

واجب وطني وضرورة علمية

حول «أهمية التراث للفرد والمجتمع» يقول الأستاذ الدكتور سعيد بن محمد الهاشمي، أستاذ التاريخ الحديث المعاصر (أكاديمي متفرغ): تتسابق الدول من الأفراد والمؤسسات في البحث والتنقيب عن التراث المادي وغير المادي، وتعتني بصونه والمحافظة عليه، وتجسيده في منتوجات ثقافية؛ فالتراث بلا شك يحفظ القيمة الاجتماعية والثقافية، ويعزز من الانتماء الوطني في مجالاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويتألف التراث الثقافي من الثقافة، والقيم، والتقاليد، وأعني بالاقتصاد هنا الاقتصاد المحلي الذي تمارسه كافة فئات المجتمع كالحرف في مجالات متعددة كالمهن المرتبطة بالزينة والأزياء، والزراعة، وتربية الماشية كالخيول والإبل، وصناعات العطور والصناعات الفخارية، والخزفية، والخشبية، والمهن المرتبطة بالمأكل والمشرب، والاهتمام بقواعد العمارة العمانية، من بناء المنازل والشوارع والأفلاج ودور العبادة وغيرها، وكل ما ذكرناه يساعد أولا في زيادة معدلات التنمية، كما يقدم مادة عينية للسياح الذين يزورون الأماكن الطبيعية والقلاع والمتاحف، والمطاعم وغيرها من التي تحكي الثقافة العمانية خلقًا وقيمًا، وأدبًا وتحفًا فنية، فالتراث يجسد الهوية والانتماء ماديّا ومعنويّا، ويُعدّ هذا التراث الثقافي رابطا مشتركا بين الأفراد، وتعبيرا عن انتمائهم للمجتمع، ومصدرا لاعتزاز كل شعب، وبهذا يكون رابطا مهما بين عناصر المجتمع وماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومصدر اعتزاز للمجتمع؛ فالتراث هو مجموعة من الأشكال التي انتقلت إلينا من الأجيال السابقة، وهو بنوعيه المادي وغير المادي، ونعني به كل ما هو موروث في المجتمع المروي عن الأجيال الماضية؛ مثل المباني، والمؤلفات العلمية والأدبية والثقافية والعادات، والأخلاق، والآداب، والتعابير، والقيم كالصدق والأمانة، والتواضع، والصبر، والتسامح، وحسن التعامل مع الآخرين، والعفو، والبشاشة، والنظم الاجتماعية وهي نمارسها يوميا. هذه العناصر تعد رمزا للهوية الوطنية، ومقومات شخصية الفرد، ومعززا للتنمية والمعرفة الثقافية، كما أن التراث الوطني يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويتمثل في كثير من مظاهر الممارسات اليومية، منها اللباس مثل الدشداشة والعمامة والإزار والخنجر، وحمل العصا، ورد التحية والمصافحة والإنشاد عن العلوم، والضيافة، والتعاون، وحسن المعاملة، وغيرها، وهذه كلها قيم مادية وغير مادية، وكلها تعبّر عن سمو مكانة الفرد ورفعته المتناهية. كما أن المنازل تتكوّن من غرف وعلى رأسها المجلس (السبلة) لاستقبال الضيوف رجالا أو نساء. هذه الممارسات القيمية تساعد على زيادة التماسك الاجتماعي وتعزز السلام والأمن في المجتمع مما يؤدي إلى انتشار الوعي الثقافي والثقة المعرفية، وتنشر المحبة والإخاء والتعاون والتماسك بين فئات المجتمع.

ويضيف «الهاشمي»: التراث الثقافي المادي وغير المادي الذي عرفنا أهميته للفرد والمجتمع، لا يمكن أن نهمله بحيث لا نتركه تتفشى فيه القيم السلبية مثل التواكل واللامبالاة، والبيروقراطية، وغيرها التي تؤدي إلى عدم الاكتراث بهذا التراث، والإهمال في مظاهره، وعدم التقيد بالتعليمات والإرشادات القيمية والمعلومات والقوانين والأنظمة التي تدعو إلى المحافظة على مكونات التراث وعناصره كالمعالم الأثرية، من نحت أو رسوم، والنقوش والكتابات التي على الصخور أو الكهوف، والمباني كالقلاع ومكونات القرية وما تحويه من عناصر مهمة تحكي النشاط الإنساني حينئذ، بالإضافة إلى الصور، والوثائق، والكتب، والمخطوطات، وكل هذه المعالم تمتلك مظاهر جمالية وتاريخية ولها طابع ثقافي في أشكالها أو بنيتها أو مكانتها التي بنيت فيه ومواد البناء ونوعه وشكله ومكوناته غير المحدودة، وبالتالي تؤثّر هذه المعالم التراثية بشكل إيجابي في تطوير المجتمعات، باعتباره عنصرا أساسيا لفهم طبيعة التطور وكيفية تشكل بنية المجتمع.

ويؤكد الدكتور سعيد الهاشمي أن التراث الثقافي يواجه تهديدات متنوعة من داخل الوطن أو خارجه وبالتالي تسبب باضمحلاله وتلفه. وهذه التهديدات بسبب التغيرات التي حدثت في مكونات المجتمع، والاقتصاد الوطني المحلي وإذا لم يتم حمايته والتشجيع على ممارسته من قبل المواطنين والحكومة، فإن مصيره حتما إلى الضياع والتشويه والاندثار. ويقترح «الهاشمي» لحماية التراث الثقافي الواجب على الفرد والمؤسسات العامة والخاصة، إبرازه بشتى الوسائل العينية، أو الإعلامية في المدارس أو وسائل الإعلام ويقول: لاحظ المجتمع أن هناك تراخيا في إدارة التراث ولعله يعود لعدم الكفاءة أو عدم واقعية الأهداف والشعارات التي تتعلق بالتراث مثل رفاهية المجتمع والتقدم الصناعي والحكومة الإلكترونية، كذلك الافتقار إلى الجدية، وإدارة إصلاح المواقع التراثية، وبعض التصرفات السلبية تجاه الإنشاءات الثقافية وعدم المبالاة والاتكالية، وفي الحقيقة أن التراث جزء من ذاكرة الأفراد والأمم، وهو محدّد للهوية الوطنية، ومحافظ عليها في مواجهة تيارات العولمة الثقافية والإقصائية الاجتماعية.

ويضيف «الهاشمي»: هذا التراث الثقافي يوجِد مجتمعات مستدامة من خلال إعادة استخدام المباني التراثية القديمة، بما يحقق نموا اقتصاديا ذا فائدة جيدة بتحويل هذه المباني إلى مشاريع سياحية، من خلال إعادة استخدام الأبنية والأحياء، والمواقع التراثية وتطويرها لتكون وجهة سياحية مناسبة، كما تعزز قيم المجتمع، بوجود مكونات تراثية قيمة من أثاث وأدوات المعيشة، وغيرها من رموز التراث، ليسهل استيعابها لكافة فئات العمر، وكمصدر تعليمي مناسب. وهذه المنظومة الاقتصادية ترمي إلى تحسين وتنظيم، واستغلال الموارد الإنتاجية.

ويختتم أستاذ التاريخ الحديث حديثه بالقول إن واقع هذا الجيل الذي فُتحت أمامه الثقافات المتنوعة، تتناول شهيات آنية، بعيدا عن قيم المجتمع وتقاليده السائدة، ويؤمنون بواقعهم الحالي، غافلين عن صراع المؤرخين والطبيعيين، والذي «ولّد عن ذلك ماهية الإنسان وهي وجوده في التاريخ»، ويرى المؤرخون أن الحاضر نتيجة الماضي، وأن المستقبل أفق الحاضر، ولا ديمومة لماهية الإنسان، وأنه يمر في تكوين حياته بمراحل تشمل حياته الطفولية واكتساب ثقافته القيمية المعتمدة على الموروث، وحياته العقدية التي يؤمن بها ويمارسها يوميا، وحياته الواقعية التي يمارس فيها نشاطاته ومنتوجاته، وهذا هو الموروث المادي وغير المادي دون أن يشعر أنه خارج كينونته المجتمعية، ومن النظريات العلمية أن الفقر فضيلة وأن الترف فساد في الأخلاق وانحطاط في الرذيلة، والقوانين عاجزة عن إصلاح الفساد الخلقي إذا ما حل في الأنظمة، وأن الدين قوة اجتماعية تردع وتهذب النزوات البشرية بين أفراد المجتمع، والحفاظ على التراث الثقافي ضرورة لا بدّ منها. فهو واجب وطني وضرورة علمية كونه يمثل ميدانا تلتقي فيه مجموعة من العلوم الاجتماعية.

أولويات وطنية

من جانبها تقول خاتمة بنت علي الرشيدية، رئيسة قسم التراث الثقافي غير المادي باللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم إن الحفاظ على تراث أي بلد يجب أن يكون أولوية وطنية، لأنه الهوية والإثبات المادي للانتماء لبقعة جغرافية معينة، وسلطنة عمان ترجمت هذا الاهتمام بتخصيص إحدى أولويات رؤية عمان 2040 في «المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية» وتم تحديد مجموعة من المؤشرات التي تساعد القائمين على تنفيذها في تحقيق هذه الأولوية وقياس مدى تقدم الجهود الوطنية في بلوغها.

في الحقيقة أرى أن المجتمع العماني متصالح مع مفرداته التراثية، إذ اعتاد أن يبدأ صباحه بفنجان من القهوة مع حبات التمر، يتجول في مزرعته بين الأفلاج، يقضي معظم وقته في المجالس العمانية، وهي جميعها عناصر تراث غير مادي استطاعت سلطنة عمان أن تدرجها على القائمة التمثيلية لصون التراث الثقافي غير المادي لدى اليونسكو، مما يؤكد على أن المجتمع مستعد للتجاوب مع أي جهود متعلقة بتراثه وهويته، إلا أن التحدي الأكبر الذي أراه من وجهة نظري الشخصية هو حجم الإنفاق على هذا الاستعداد، فلا يجب أن نطمح لمستويات عالمية في تعزيز التراث واستثماره وحجم الإنفاق عليه ضئيل مقارنة بالتوقعات.

وحول «توظيف التكنولوجيا الحديثة» تقول «الرشيدية»: التكنولوجيا فرضت وجودها على أبسط متطلباتنا الحياتية، والنظر إليها كأداة مساعدة أفضل من اعتبارها تهديدا، لأن بها من الإمكانات ما يساعد أولا في الترويج لهذا التراث، وثانيا في استقطاب فئة الشباب وجذبهم إلى حفظ وصون هذا التراث. وأتوقع أن المتاحف العمانية بدأت تتنبّه لذلك في عملية استعراض مفردات التراث في أروقتها بتفعيل التقانة الحديثة، ولنا تجربة رائعة من خلال متحف عمان عبر الزمان في توظيف تقنية الهولوجرام، والشاشات ثلاثية الأبعاد، ولكن هل هذا هو سقف طموحنا؟ قطعا لا، فالتقانة يجب أن تتعدى المتاحف إلى أن تصل لكل بيت عماني، وتستلهم فكره وإمكانياته في استدامة العادات والتقاليد والفنون التراثية المرتبطة بأفراح العمانيين وممارساتهم اليومية.

وحول أهمية أدوار المؤسسات التعليمية تقول «الرشيدية»: المدارس والجامعات جهات تنفيذية، وحراكها يجب أن ينبثق من السلطة التشريعية عليها والمتمثلة في وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار ووزارة التربية والتعليم، وهذا الحراك لا يجب أن يكون منفصلا، بل أن يأتي وفق خطة زمنية مدروسة تنطلق من المدارس وتنتهي بالجامعات، بحيث تتضمن برامج تفاعلية وفق خطة المناهج الدراسية، تتعدى حدود جدران المدارس إلى البيئة العمانية المحيطة والثرية بمفرداتها التراثية، بحيث يكون دور الطالب التفاعل معها، البحث فيها، التفكير بصوت عال في استثمارها وتفعيلها، وتقديم المقترحات لتطويرها وفق أسس علمية يتم تدريسه عليها.

ردم الفجوة العميقة

من جانبها تقول الباحثة في مجال الآثار وضحة بنت محمد الشكيلية، رئيسة قسم الجرد والتوثيق بالمتحف الوطني: يجب أن يتنبّه الشباب بأن مفهوم التراث لا يقتصر على القلاع والحصون والبيوت الأثرية وغيرها من الأشياء المادية، بل يتناول أيضًا الموروث المعنوي من عادات وتقاليد وعلوم وآداب ونحوها، هذا التراث أصبح يشكو من عزوف عدد كبير من فئة الشباب عن التعلم عن ماضي الآباء والأجداد أو حتى الافتخار بتاريخهم العريق ونخص بالذكر هنا لمن أفاقوا على المنجزات الحديثة والتقدم العلمي والتقني التي غيّرت من مجرى حياتهم وجعلتهم ينساقون خلف العولمة وينصهرون في بوتقتها في الوقت الذي لا بد أن نستفيد من الإرث الحضاري والتاريخي لعُمان لتطوير الحاضر وتجديده والعمل من أجل المستقبل، ويعتبر الكثير من الشباب التراث جزءًا من الماضي الذي عفا عليه الزمان، ولهذا نجد الغالبية العظمى منهم لا يلتفتون إلى القضايا التراثية لاعتقادهم بأنها غير مجدية اقتصاديا، ولا تتماشى مع العصر والتيارات التكنولوجية الحديثة لذا أصبحوا ينظرون إلى التراث بنظرة دونية وقاصرة وأصبحت علاقتهم بالتراث للأسف الشديد علاقة تنافرية ترمز إلى قطيعة واضحة تحتاج إلى متابعة وتقييم ومراجعة لردم هذه الفجوة العميقة.

ونظرًا لأن التراث الإنساني بصفة عامة والتراث العُماني بصفة خاصة يحظى باهتمام كبير من قبل الهيئات العالمية التي أدركت أهميته وقيمته ودوره في الحفاظ على الهوية الوطنية للأمم، لذا فإن جهد المحافظة على هذا التراث ونشر الوعي بين الشباب لا يقع على كاهل المؤسسات الثقافية والتراثية فحسب بل هي مسؤولية منوطة بالجميع من أجل العمل على نشر أهمية التراث بجميع أشكاله ومضامينه عبر الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة والتركيز على تغيير نظرة الجيل الحالي للتراث والصناعات الحرفية على أنها نشاطات عقيمة ومبان جامدة لا تسهم في دخل الدولة، وذلك بتوعيتهم بأن المباني التاريخية والمواقع الأثرية لها إسهامات في اقتصاد الدولة؛ لأنها تنعش الجانب السياحي، وقد نجحت سلطنة عمان في إدراج 5 مواقع أثرية على لائحة التراث العالمي لليونسكو، إلى جانب السعي لترميم العديد من القلاع والحصون، والحارات التي أصبحت بعد ذلك منارات جذب سياحي تستقطب الزوار من مختلف الدول. ما نود قوله هنا إن حماية التراث المادي بطبيعة الحال لم يعد أمرًا كافيًا بل لا بد من تحقيق الاستدامة لهذه الموارد التراثية على المدى البعيد والاستفادة منها من الناحية الاقتصادية كذلك؛ لأنها ثروة وطنية للأجيال الحالية واللاحقة؛ فهي ملك لهم وتقع عليهم مسؤولية الحفاظ عليها وحمايتها.

تحديات وحلول

ويؤكد الباحث والمتخصص بالتراث البحري سعيد بن عبدالله الفارسي أن التراث في أي بلد إما أن يكون ماديا كالقلاع والحصون واللقى وغيرها من الآثار المحسوسة أو الملموسة، أو أن يكون تراثا غير مادي أو ما يُعرف بالتراث غير المحسوس أو الموروث الشعبي أو الثقافة الشعبية، وهو كل ما يتعلق بعادات وتقاليد وأمثال وحكايات شعبية وخرافية وصناعات تقليدية حرفية ومعتقدات كانت تسود في أي مجتمع وتناقلتها الأجيال، والتراث غير المادي يعد مكونا رئيسا من مكونات أي مجتمع وجسرا للتواصل بين أجياله، لذا تسعى المجتمعات والمنظمات الدولية إلى تكثيف الجهود من أجل صونه وحفظه من الضياع والاندثار على مستوى «دولي» وعلى مستوى «المدارس والجامعات» والتي رأى «الفارسي» بضرورة تأسيس مساقات علمية ومقررات لطلبة الجامعات كمتطلب جامعي أسوة باللغة العربية والحضارة لجميع طلبة الدراسات العليا باختلاف التخصصات ويعنى بالتراث الثقافي للبلد، وإيجاد تخصص في الكليات الإنسانية يهدف إلى تخريج طلبة متخصصين في التراث غير المادي ليكونوا كنواة للبحث العلمي في هذا الجانب، وتأسيس مراكز بحثية تعنى بإعداد دراسات علمية وبحوث في هذا الجانب، ودعم أساتذة الجامعات لإعداد الدراسات العلمية المرتبطة بهذا الموضوع.

وأكد «الباحث في التاريخ البحري» أن هناك تحديات تواجهها الجهات الرسمية منها أن الموظفين المعنيين بهذا الموضوع في الوزارات المختصة لا يتناسبون مع الامتداد الشاسع لمساحة سلطنة عمان وسواحلها، كما لا توجد مراكز بحثية في المحافظات يسهل للمهتمين الرجوع لها عند الحاجة، إضافة إلى شح الدورات المقدمة للشباب التي من شأنها أن توجِد جيلا من الباحثين يسهمون في صون الموروث الشعبي للبلد.

ويشير الباحث سعيد الفارسي في ختام حديثه إلى ضرورة صون هذا التراث وأهمية استخدام التكنولوجيا في حفظ التراث غير المادي من خلال إنشاء مكتبات إلكترونية ومتاحف افتراضية واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وأهمية تحويل التراث إلى منتجات جاذبة من خلال توظيفه في الدراما وإقامة المهرجانات والمسابقات المتعلقة به، حيث تعزز هذه الممارسات الوعي بالتراث وتحافظ عليه وتجذب الزوار والمهتمين به.