د. عبدالكريم جواد
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن مسرحية «الباكا» ضمن العروض المنتخبة لضيوف المسرح التشيكي في براج، وعن إصرار الفنانين التشيك على وصف تجربتهم والتيار المسرحي السائد حاليا في التشيك بالمسرح التجريبي، وفي هذا الجزء من المقال، سنتحدث عن باقة من العروض تتخذ مسارات مغايرة وقد قُدمت في برنامج الزيارة إلى التشيك وفي أهم مدينتين فيها، براج وبرنو.
مسرحية «شاهد عيان» Eyewitness
في مسرحية «شاهد عيان» التي قدمها المسرح الوطني في براج نقفُ أمام تجربة مهمة في المسرح يكتنفها الكثيرُ من التحديات والتجديد ولربما التجريب أو مساحة رحبة منه.
فهذه المسرحية اعتمدت أسلوبًا مسرحيًا إغريقيًا قديمًا قوامه أن يأتي شاهد عيان على خشبة المسرح ليحكي للجمهور ما شاهده من أحداث حقيقية شاهدها بأم عينه، والحدث هنا نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، حيث تلتقي وسيلتان للنقل في محطة واحدة، وسيلة تحمل النازحين العائدين إلى ديارهم، ووسيلة ثانية تحمل الجنود، في المحطة تحدث مجزرة راح ضحيتها 265 أغلبهم من الأطفال والنساء، ومكان الحدث قرية لوفشيتسه وأبطال العمل هم الشهود من مواطنيها الحقيقيين الذين تابعوا الأحداث باهتمام بالغ وصمت رهيب، وقد وثقت شهاداتهم بدقة عالية فيما بعد وحفظت في الأرشيف، وقد ساهم في تقديم الشهادات أيضا ممثلون من المسرح الوطني طوعوا قدراتهم وأحاسيسهم ليكونوا صوتًا ناطقًا بلسان حال الشهود.
إن الجديد القديم في هذه التجربة المسرحية أنه لا توجد حكاية درامية ذات حبكة متقنة، بل يعتمد العرض على مجموعة من شهود العيان كل منهم يحكي ما رآه في جانب من المشهد، وعلى المشاهد أو المتابع أن يلملم تفاصيل الحكاية ليصنع منها في خياله رؤية مسرحية خاصة به، أو إذا جاز القول مسرحيته الخاصة التي يبصرها هو دون الآخرين.
كان من المفروض أن تعرض هذه المسرحية على المسرح الوطني خلال عام 2020-2021م، تجربة مثيرة ومشوقة، لولا أن الريح تأتي بما لا تشتهي السفن، كورونا، أو «كوفيد-19»، أوقف كل العروض في التشيك عن بكرة أبيها، وأوصد أبواب المسارح التي أضحت خاوية على عروشها.
فرقة المسرح الوطني في براج لم تقف مكتوفة الأيدي حيال ذلك الوضع البائس، بل تمردت عليه وابتدعت ما سمته «المسرح خارج المسرح»، وهو برنامج حافل تضمن العديد من الفعاليات الثقافية وحلقات العمل في النقد المسرحي والكتابة المسرحية بالإضافة إلى ما يقارب السبعة إلى ثمانية عروض مسرحية سنويا، كلها تُنفذ خارج قاعات المسارح المغلقة وعبر الوسائل التكنولوجية الحديثة، تعترف الفرقة بأن تلك العروض تفتقد إلى حيوية العرض المسرحي الحي المباشرة وحميميته، ولكن هذا ما كان متاحًا وهو أفضل من الجمود والاستسلام إلى الجائحة استسلاما تاما.
لذلك خاضت مسرحية «شاهد عيان» تجربة أخرى أو تحديًا آخر هو أن تصور الشهادات بأسلوب «زووم» أو «إسكايب» وتعرض عبر الشاشات عبر الوسائل التكنولوجية، ترى هل نجحت تلك المزاوجة بين الدراما والتكنولوجيا الحديثة في تقديم عرض مسرحي خلاب؟
الحقيقة لا يملك المرء إلا أن يقدر مثل تلك المنافذ في عز سطوة الجائحة ويثني عليها، ولكن يجدر أن نذكر أيضًا أن طول العرض السردي الذي استمر ما يقارب الساعتين، وطبيعته الوثائقية لحدث لم يعايشه أغلبنا بصفة مباشرة، وتكرار الشهادات والتفاصيل للحدث ذاته، أوجد نوعا من الرتابة إن لم نقل صعوبة في المتابعة.
مسرحية أميل هاتشا
أميل هاتشا هو ثالث رئيس لتشيكوسلوفاكيا وهو الشخصية الجدلية التي قادت تشيكوسلوفاكيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وارتبطت بعلاقات ملتبسة بالزعيم النازي «هتلر» اعتمدت على تحالف حذر معه اتقاء لشره ومن أجل تجنيب تشيكوسلوفاكيا ويلات غزو الألمان، لذا اعتبره البعض بطلا قوميا، بينما اعتبره آخرون خائنًا للوطن والأمة لعلاقته تلك مع النازية، وقد حوكم وكان على وشك أن يعدم لولا أنه مات في مستشفى للعلاج قبل الإعدام، ودفن في قبر بغير علائم تشير إليه، وبمناسبة ذكرى وفاته الـ75 عاد الجدل من جديد بين من يصر على إدانته ومن يحاول أن ينصفه ولو جزئيا.
هنا أيضا نجد أنفسنا أمام عرض شبه وثائقي قدمته فرقة مسرح 21 في براج، فالبطل شخصية حقيقة حكمت تشيكوسلوفاكيا في أحلك ظروفها، وهي ظروف مأساوية بكل معنى الكلمة، حرب وغزو وقتال على أشده، ورجل يتلوى ألمًا وفزعًا يُراوغ هذا وذاك ليحمي بلاده من شر مستطير في كل الآفاق، ومع ذلك تنتهج المسرحية نهجًا أقرب إلى الكوميديا الساخرة معتمدة على اثنين من المهرجين «مهرجتين» في ربط الأحداث وتوليفها وتصعيدها والتعقيب عليها، وقد استخدم العرض كل ما عند صانعيه من وسائل مسرحية ليحقق الإمتاع وليقولب مقولته، البيانو والغناء صاحبا العرض في فقرات متعددة، الاعتماد المتكرر على الأفلام الوثائقية والمستندات، الاعتماد على ديكور غير ثابت من مفردات تتركب مع بعضها البعض لتصنع مشهدا جديدا مغايرا في كل مرة وفي كل نقلة زمنية أو حدثية، ناهيك عن استخدام مسرح هو أقرب إلى القاعة الصغيرة المحدودة العدد والقادرة على تحقيق جو من التفاعل الحميمي ما بين المؤدين والجمهور.
مثل هذا العرض دائما يطرح ذلك التساؤل الأزلي ما هي نسبة الحقيقة في هذا العرض المسرحي مقابل نسبة الخيال أو الصنعة الحرفية الفنية باعتبار أننا نشاهد عرضا مسرحيا فنيا؟
في حوارنا كضيوف مع فريق العمل طرحت هذا السؤال، وكانت الإجابة صادمة، إذ قال أحد أعضاء الفرقة إننا قدمنا الحقيقة والواقع بنسبة 99%، لا أعرف إن كانت الإجابة مدروسة أم أنها جاءت هكذا عفوية، ولكنها بالتأكيد هي تتناقض مع أسلوب العرض ومفرداته، ثم إن مثل هذه النسبة قد تكون مقبولة في العمل الفني الوثائقي، وحتى في هذا يكمن نوع من الشك، فكيف تقبل في عمل مسرحي يفترض أن يقدم صياغة فنية تعبر عن موقف جديد ووجهة نظر مغايرة بها من الإبداع ما بها، إن نقل الحقائق كما هي لا يحتاج إلى فنانين مسرحيين بل إلى مؤرخين جادين.
لقطة من مسرحية أميل هاشا (من موقع الفرقة)
قدمت المسرحية فرقة «بود بالموفكو» Pod Palmovkou، وهي فرقة مسرحية مجددة تأسست من مجموعة من الشباب المتحمسين عام 1948م في براج، وقد اتسمت عروضها بالمعاصرة والتجريب حتى في تناول الموضوعات الوثائقية أو طرح الأعمال الكلاسيكية الرائعة كمثل تلك المسرحية «الرائع 265»، وحققت الفرقة في عروضها المتعددة نجاحات مشهودة داخل جمهورية التشيك وخارجها، قد لا يتسع المجال هنا أن نخوض في تفاصيل هذه المسرحية لكثرتها وتداخلها، وإنما نكتفي أن نقول إنها ملحمة شعبية وطنية في مواجهة الشعب التشيكي للنازية، ولعل أبرز ما لفت الانتباه في المسرحية هو ذلك الإخراج الملفت لأحداثها، إذ جمع المخرج كل أحداث وأماكن الملحمة على خشبة المسرح دفعة واحدة مما يسر التنقل والتصاعد وملأ المسرح بالحيوية والحياة المفعمة، وهذا، برأينا، مثال معبّر عن رؤية المخرج الإنجليزي الشهير بيتر بروك عندما تحدث عن شغل المساحة الفارغة على المسرح.
إن النص المكتوب عن الرواية، وسلاسة الإخراج المسرحي، وإجادة الممثلون لأداء أدوارهم كلها وغيرها عناصر تكاملت لتحقيق لوحة فنية مبهرة ذات إيقاع مسرحي فائق البراعة، كما أكد جُل النقاد الذين تحدثوا عن المسرحية بعد العرض.
ما هو ملفت للانتباه في العرض المسرحي أن الحدث الدرامي تبلور كمحور مهيمن على العرض المسرحي وهو ما أعطى للحدث الوثائقي رؤية ملحمية عالية اتخذت مدارات وآفاقًا إنسانية لا متناهية، وقد يعزى بعض ذلك إلى «الدراماتورج» المحترف الذي تكامل عمله مع عمل المخرج.
خلاصة القول
إن التجريب الذي يتحدث عنه التشيكيون في مسرحهم قد يتمثل أول ما يتمثل في تحررهم من الأطر النمطية أو التقليدية لتقديم العروض المسرحية فأغلب العروض تندرج بما يعرف اليوم بالعروض الأدائية، وأغلبها تمضي في أطروحات لا تعرف للرؤى الفنية حدودًا أو محاذير، فالمسرحيون التشيك يتمتعون بشغف واضح بتراثهم وثقافتهم الوطنية، وهم أيضا منفتحون على ثقافات الآخر بثقة واستبصار.
وهذا ما يجعل المسرح التشيكي تجربة مسرحية رفيعة المستوى جديرة بالمتابعة والاستفادة منها.