بين يدي سالم بن حمود أقرأ «عمان عبر التاريخ»

محمد بن سليمان الحضرمي
أضاميم
التقيت بالعَلَّامة المؤرخ سالم بن حمود السيابي في ليلة من الليالي الثقافية عام 1989م، التي كان «المنتدى الأدبي» يحييها في مقره بالسيب، كان الشيخ لا يفوِّتُ على نفسه حضور تلك الأمسيات، وقد كرَّمه المنتدى في أمسيتين، أقيمتا بتاريخ 17 و18 أكتوبر 1989م، وكنت أذهب للقيام بمهمة التغطية الصحفية، في تلك الأيام كنت أسمع عن الشيخ سالم بن حمود، فقد كان له حضور ثقافي وإعلامي بارزين، وذائع الصيت لدى بعض الآباء في البلد، قاضيًا وفقيهًا وناظمًا، وللقاضي والفقيه محبة تفرضها علميَّته ومؤلفاته، ويتناقلها الناس بينهم.

ومرة قابلت الشيخ سالم بن حمود في مكتبه بوزارة التراث القومي والثقافة، حين كان عضوًا في «لجنة تحقيق التراث»، ذهبت إليه للحديث عن «بُوشَر»، المدينة العريقة بمواقعها الأثريَّة، وبعد حديث معه أخذته بالسيارة إلى منزله في «الوشيل» بمطرح، وأضاف لحديثه المكتبي امتدادًا آخر، حول مؤلفاته التي فقدها، وليس لديه منها نسخة، من بينها مؤلف في أنساب القواسم، ثم ظهر لي أن له كتابًا مطبوعًا عنوانه: «إيضاح المَعالم في تاريخ القواسِم»، لكني لم أقف عليه، ولا أدري أهو ذات الكتاب الذي يعنيه أم غيره، كما حدثني عن كتب أخرى ضاعت منه، بعضها بسبب انتقاله قاضيًا في أكثر من ولاية عمانية، فتضيع منه كتب ورسائل، وما أكثر الرسائل التي لو لجمعت لحوتها مجلدات.

في الطريق إلى منزله، ذكر لي بعضًا من عناوين كتبه والقائمة طويلة، فهو من بين أغزر المؤلفين العُمانيين في تأليف الكتب، وقد عاش عمرًا سمح له بذلك بلغ 85 عامًا، وقد بدأ في التأليف في سن العشرين، أما قائمة عناوين مؤلفاته، فبعدد سنوات عمره 85 مؤلفا أو تزيد، بين شعر ونثر، ومخطوط ومطبوع، بعض عناوينه في خمسة أجزاء، وبعضها في ثلاثة، وبعضها في اثنين، وبعضها مفردة، وهو أكثر ناظم في التاريخ الثقافي العماني، إذ إن مؤلفاته النظمية تصل 25 عنوانًا، بينها خمسة عناوين مطبوعة، ككتابه «إرشاد الأنام في الأديان والأحكام»، في خمسة أجزاء كبيرة، وواضح من التسمية أنه في الفقه، وكذلك كتابه النظمي في الفقه: «العُقود المُفصَّلة في الأحكام المُؤصَّلة»، في ثلاثة أجزاء.

ومن بين هذا التراث الكبير الذي تركه الشيخ سالم، طبع منه 18 عنوانًا أو نحو ذلك، وما تزال أكثر من 40 عنوانًا في عِداد المخطوطات، والبقية في جملة المفقودات، يبلغ عددها بحسب القائمة المنشورة في مدخله الخاص به بالموسوعة العمانية 20 عنوانًا، وهو نتاج ضائع ليس باليسير، بل إن الجزء الرابع من كتابه النظمي «إرشاد الأنام» من المفقودات، وعسى أن يظهر يومًا في خزائن أصدقائه من الفقهاء والأدباء، مثلما جادت الأيام بكتاب مفقود، وهو: «ثالث القمرين في الأدب والدين»، سيصدر قريبًا عن النادي الثقافي، بتحقيق الأستاذ سند بن حمد المحرزي.

وتكررت لقاءاتي بالشيخ سالم بعد ذلك، وكنت أراه يمشي في شوارع روي، بعمامته وخنجره، حتى توفاه الله ظهر الجمعة: 18 رجب 1414هـ، في آخر ليلة من ليالي سبتمبر 1993م، ودُفن في أطراف ضاحيته بسمائل، مجاورًا لقبر الشيخ خلفان بن جميِّل(ت: 1972م)، ولا يفصلهما سوى جدار طيني صغير.

وأمام قبر الشيخ، أقف وكأني ماثل بين يديه، فتذكرت كتابه: «عُمان عبر التاريخ»، المطبوع في أربعة أجزاء، وقفت أمام صاحب الكتاب، الذي أصبح اليوم جزءًا من التاريخ، وصفحة من صفحاته المضيئة بالعلم، فيه جمع صفحات عن عُمان، مستخدمًا أسلوب النقل والتأليف والتعليق على بعض الأحداث، وفي نقله يذكر اسم الكتاب ومؤلفه، فينقل عن الإمام السالمي، وأبي الحسن البسياني، وابن رزيق، وعبدالقادر زلوم، والمسعودي، وغيرهم من المؤرخين والجغرافيين، مستأنسا بآرائهم، وهو أسلوب نهجه كثير من المؤلفين الموسوعيين الأوائل.

في الجزء الأول من الكتاب، نقرأ حديثًا أشبه بسيرة ذاتية عن «مالك بن فهم»، القادم من تخوم اليمن بجحافله، إلى مدينة «قلهات» ثم يتجه إلى عُمان الداخل، أو ما يعرف بـ«أرض الجو»، ويطيب له المقام في «منح»، ثم إلى مدينة «سَلُّوت بهلا»، ليدخل في حرب ضروس مع الفرس، تنتهي بنصره، وهذه القصة تناقلها المؤرخون العُمانيون في كتبهم، فقبل السِّيابي نقلها السَّالمي في «تحفة الأعيان»، وقبله سرحان الأزكوي في «كشف الغُمَّة»، والعوتبي في «الأنساب»، وكلهم نقلوها عن ابن الكلبي، المتخصص في تأليف القصص والحكايات بأسلوب المؤرخين.

ومن مشاهد الفروسية لابن فهم في العصر الجاهلي، إلى دخول أهل عمان في الإسلام، ولقاء مازن بن غضوبة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى المؤتمر الذي عقده مَلِكي عُمان: عبد وجيفر للنظر في الدعوة النبوية، ودخول عمرو بن العاص عمان، نسيج قصصي ورد ذكره في الكتاب، وينقل لنا الشيخ السيابي مشاهد من عمان في زمن الخلافة الراشدة، لتتالى فصوله مع توالي العقود من السنين والقرون، وأول عامل للحجاج على عُمان، وهو الخيار بن سبرة المجاشعي، ومشاهد من عُمان في عهد الإمام الجلندى بن مسعود.

وفي الجزء الثاني من الكتاب يتناول المؤرخ تفاصيل الإمامة الأولى، وانتقال الحكم من آل الجلندى إلى آل اليحمدي، والأئمة الذين تعاقبوا على الحُكم، وافتراق أهل عمان إلى «رستاقية» و«نزوانية»، وتبعات هذا الانقسام.

وينقل المؤرخ شيئًا من تفاصيل الصراع بين الملكية والإمامة، وظهور زعامات داخلية، ولمحات من الطغيان آنذاك الوقت، حتى استتباب الأمن في عمان الداخل، مع بزوغ فجر القرن العاشر الهجري، وإمامة محمد بن إسماعيل الحاضري، ثم ظهور زعامات قبلية أدت إلى تفرُّق مُلك عُمان، والعودة إلى ملوك النباهنة المتأخرين، كفلاح بن محسن وعرار بن فلاح، وحديث عن الأعمال الغاشمة لابن المظفر، ثم التهارُش بين أبناء العم من النباهنة، والانقسامات الداخلية بين تلك الزعامات، وظهور العهد اليعربي، بتنصيب الإمام ناصر بن مرشد عام 1624م، وسال الحديث عن أوضاع عمان في عهده، بحيث أخذ أكثر صفحات الجزء الثالث، ثم نقل مشاهد من إمامة سلطان بن سيف اليعربي الذي بنى «قلعة نزوى»، والإمام بلعرب بن سلطان، وبنائه التحفة المعمارية «قصر جبرين»، وينتهي بإمامة «قيد الأرض» سيف بن سلطان اليعربي.

ويخصص الجزء الرابع والأخير، للعقود الأخيرة من دولة اليعاربة، بعد أن حكمت عمان 117 عامًا (1624 – 1741م) وحتى قيام الدولة البوسعيدية، بتنصيب الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، وانتهى الكتاب في فترة حكم ابنه سلطان بن الإمام أحمد (ت: 1804م) الذي بنى «حصن الفليج» في السنوات الأخيرة من حكمه، وإذا كان المؤرخ سالم بن حمود قد أكثر من النقل في كتابه التاريخي، كغيره من المؤرخين، الذين يكتبون عن التاريخ بتوسُّع، فإن إبداعه النظمي والشعري متقدِّم على مؤلفاته النثرية، وفي منظوماته رُوح شعرية تجاوزت النظم العلمي والفقهي، وقصائد وَصْفية وصُوفية شفيفة وصور بليغة، وعسى أن يُحظى تراث السيابي بتقدير يستحقه، لأنه يقف في مصاف العلماء الموسوعيين.

وها أنا أستريح بجانب قبره، وكأنني أمْثُل بين يديه، مُستعيدًا ذكرى تلك الساعات الجميلة، من اللقاءات السَّريعة به في دروب الحياة، وذكرى أحاديثه الممزوجة بالدعابة والدَّهاء، هنا آخر المقام يا الشيخ سالم، فلقد عُدْتَ إلى رحم الأرض، وإلى دفء الضاحية التي عشت فيها، إلى جنة «الوقيف» السَّمائلية، والاسم يشابه في جرسه وإيقاعه «جنة العَريف» الأندلسية، وكأن سعف نخيلها، ترفع لك أكفُّ الدعاء، لتكون في جنة السَّماء.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/بين-يدي-سالم-بن-حمود-أقرأ-عمان-عبر-التاريخ