جمال القصاص: قصيدة التسعينيين وصلت إلى حدود الابتذال !

حوار: حسن عبد الموجود
يرى أن على الشاعر ترك نفسه لرياح التغيير

«أصوات» ليست جماعة بالمفهوم العلمي وإنما ردة فعل لـ«إضاءة»
كنت مسكونا بقلق ما يصل أحيانا إلى الخوف من الشعر
الشعر ينبع من عثرات الحياة وملعقة البن وبائعة الخضروات العجوز
أكره الإجابات الفجة التي تدَّعي الاكتمال وامتلاك الحقيقة واليقين
النظر للماضي ينشِّط الذاكرة ويحميها من الشيخوخة

يعتبر جمال القصاص واحدا من أهم شعراء جيل السبعينيات في مصر والعالم العربي، الجيل الذي حرَّك الماء الراكد، ورفع شعار «الكتابة للمستقبل» فاتهمه الآخرون بالانفصال عن الواقع.

القصاص المولود عام 1950 أصدر عددا كبيرا من الدواوين، أولها «خصام الوردة» 1984، وأحدثها «مثل قبلة وأكثر» 2022، وشارك في تأسيس جماعة «إضاءة» ومجلتها «إضاءة 77» التي آمنت بالقومية العربية بينما قنعت جماعة «أصوات» التي ظهرت كرد فعل لها بالانعزال في الثقافة المصرية.

في هذا الحوار نعود مع جمال القصاص إلى فترة السبعينيات وصراعاتها وماذا تبقى منها، كما نعرج معه على تجربته الكبيرة وكيف ينظر إلى القصيدة الجديدة وماذا ينقص الشعراء الجدد ليصيروا كبارا.

نبدأ من أحدث دواوينك وهي على الترتيب «تحت جناحي عصفور» و«بالكاد يعبر الشارع» و«مثل قبلة وأكثر».

في هذه الدواوين رائحة وطعم القصيدة الجديدة، وهذا يعني أنك استجبت للتطورات الحادثة في الشعر ولم تنغلق مثل آخرين من جيلك على ما قدموه في تجاربهم السابقة. ما رأيك؟ وهل الشاعر عليه أن يتطور ويغير جلده باستمرار؟

– نعم، على الشاعر أن يتغير، وأن يعي أن الحياة والعالم من حوله في حالة من السيولة الجارفة، وعليه في كل هذا أن يسابق وعيه، ليس بالجمود والنفي أو الوقوف منطقة رمادية يتساوى فيها المع والضد. إنما ليكن شعاره الخاص والحميم: «كن ضد نفسك، حتى تستطع أن تكون ضد الآخر»، تعرف كيف تحتويه وتتمثله. ليس هناك شيء زائل يتجدد، فالأشياء لا تستنسخ نفسها كالموضة بمظهرها الخاطف البراق، إنما تتجدد بالرغبة الدائمة في التجريب والتغيير والمغامرة. كما أن الخطأ الذي لم ينضج في أوانه هو محض ثمرة، لم تجد من يقطفها قبل أن تسقط وتذبل.

هكذا كانت استجابتي للتغير، وما زلت أعيشه في شعري، ألمس في غباره نفسي، وأفرح بمشاغباتي الصغيرة في سبورة الحياة.

ما الذي ميز تجربتك كشاعر سبعيني عن بقية زملائك في الجيل.. وما الذي تغير في تلك التجربة حتى الآن بعد عدد كبير أصدرته من الدواوين؟

– دائما كنت مسكونا بقلق ما، أحيانا يصل إلى الخوف من الشعر، هذا القلق ومع دراستي للفلسفة تحول إلى سلاح شديد الرهافة والحساسية، أصبحتْ لديَّ القدرة على النفاذ فيما وراء الأشياء، أراها من نافذة خاصة جدا، تتسع يوما، وتضيق يوما آخر، لكنها لم تُغلق أبدا. في ظل هذا القلق، أحب اللعب مع الأشياء الصغيرة، مع الألوان في سكونها المشمس، مع الرائحة في طزاجتها وهي تدغدغ الحواس بطفولة، وتجر الخيال إلى آفاق أرحب، مع اللغة وكأنني أتهجاها لأول مرة.. ومن ثم، سعيت إلى دمج الشعر بالطبيعة، فالطبيعة ليس لها بيت، والشعر له أبواب عديدة، عليك أن تدرك طبيعة الطرق عليها، بحيث يبدو ثقيلا في خفته، وليس مزعجا، كأنك تنقر على فضاء الجسد والروح معا.

الذي تغير في هذا المشهد، أنني لم أعد مكتفيا بمراهقة المنظر، وسرقته خلسة من جراب الطبيعة، إنما أصبحت ذاتي هي المنظر نفسه، أطل عليه يوميا بمحبة طفل، لا يزال يحلم أن يكون شاعرا.

لم تتخل بالكامل عن المجاز لكنه أصبح مثل سُحب خفيفة تظهر على فترات في قصيدتك.. ما الفارق بين مفهومك للمجاز منذ خمسين عاما والآن؟

– المجاز وعلاقاته المتشابكة هو ابن حياتنا، كل شيء له مجازه الخاص، بداية من الكناس في الشارع، إلى المفكر والعالم والفنان. حينما أقول لك: صباح الخير، هذه الجملة ليست محض عادة أفرزتها الحياة بإرثها الاجتماعي وأعرافها وتقاليدها، إنما هي عتبة أولى لمجاز من الألفة والونس، تنمو وتتسع وتصبح رمزا للبهجة، حين يقترن الصباح بالفل والورد. فمثلما اللوحة في الفن التشكيلي هي عبارة عن خط ولون ومساحة، أيضا في لوحة المجاز، ثمة علاقة فطرية مضمرة ما بين المرئي واللامرئي، ما بين التجسيد والتجريد. المجاز طاقة للخيال، على الشعر أن يكون محفزا له، ليس فقط على سطح الصورة إنما في العمق أيضاً. هنا يكمن الفارق في تعاملي مع المجاز، وكيف أصبح بمثابة جدلية شفيفة للخفاء والتجلي، تذهب أبعد من البداهة الأولى، بدلالاتها المادية المباشرة، وتصبح رمانة الميزان، ما بين الحلم والذاكرة والواقع.

في ديوان «بالكاد يعبر الشارع» تستدعي ذاتك بوضوح في قصيدة «سأعمل لدى جمال القصاص».. هل كانت القصيدة محاولة منك للنظر في المرآة أو لرسم صورة موضوعية لنفسك؟

– كلنا نحلم أن نتخلص من أعباء الحياة ومتطلباتها اليومية الرتيبة، لنتفرغ لكينونتنا كمبدعين وشعراء. المحزن أن هذه الرتابة أصبحت شعورا متكررا وبشكل ضاغط، يتسع يوميا إلى حد الإحساس بالاختناق، حتى صرنا نتحايل على الحياة، ولو بوهم العيش فيها، ولو بالفرار منها. لكن إلى أين، ومرآتها المطموسة الملامح لا تزال تحاصرني؟ أحس أن شيخوختي تاهت في ضبابها، وأن عليّ أن أبحث عن مرآة أخرى أكثر صفاء ووضوحا، فقط لا أرى وجهي معكوسا على صفحتها بشكل آلي، وإنما أحس أنها تبتسم لي بحب، وتكاد تحتضني وتسلم عليَّ بشجاعة ونبل. ذاتي في هذه القصيدة، ليست وجودا قائما بذاته، وإنما مجرد وسيط بين وجهي والمرآة، بين القناع والموضوع، بين الفكرة والحلم. بيني وبين جمال القصاص الشاعر الذي لا يعرف كيف يشفى من اسمه، أمس واليوم وغدا، وحين يموت. أحب هذا التطوح، أحب الانقسام على ذاتي، بدلا من اللعب مع آخر لا أفهمه، ويترك لي فقط غباره، وأنا بالكاد أعبر الشارع.

من أين ينبع الشعر بالنسبة لك؟

– من كل شيء، من حفر الحياة وشقوقها وعثراتها، من ملعقة البن وأنا أصنع قهوتي الصباحية، أحس أنني أقلِّب بها حياتي، أقيس المسافة بيني وبينها، من بائعة الخضروات العجوز على ناصية الشارع، وصراعها اليومي مع اللون الأخضر، ونظرة الأسى في عينيها حين يذبل وينطفئ وتجف أوراق الخس والجرجير. الشاعر سيظل صياد أسئلة، وأنا أكره الإجابات الفجة التي تدَّعي الاكتمال وامتلاك الحقيقة واليقين، أسئلتي لا تزال تحلق حول البئر الأولى، حيث مصادفة الحياة والوجود والشعر، قوتي اليومي، وزادي في هذه الرحلة الشاقة.

الآن وأنت في الثانية والسبعين من عمرك هل تنظر خلفك برضى؟ لو قُدرت لك العودة إلى بدايات الشعر هل كانت اختياراتك أو قناعاتك ستتغير؟

– النظر للماضي أو الخلف، ينشِّط الذاكرة تلقائيا، ويحميها من الوقوع في فخ الشيخوخة. أعي ذلك جدياً، وأدرك أن هذا الماضي عشته، فرحت بالخطأ فيه قبل الصواب وأعتز بكوني شاعرا. هذه نعمة تستوجب الشكر.. وربما في هذه التفصيلة الشعرية على ظهر غلاف ديوان «مثل قبلة وأكثر» ما يوثِّق هذه الإجابة:

«في هذه السن المضطربة ليس أجمل من أن أحلم/ ألملم العالم في كفي/ أكتب مرثية لنفسي/ لذكرياتي لأحلامي/ لنساءٍ خبأنني في ثيابهن/ لأصدقاء غادروا سريعا/ لبحر لم يعد يشبهني/ ليد لم تبرح أكرة الباب».

من هم أساتذتك مصريا وعربيا وكيف أفدت منهم؟

ـ أستاذي الأول الشاعر محمد عفيفي مطر، كان يُقلِق حواسي ووجداني بصوره الممعنة في الغرابة، وانفتاحها الغض على الخرافة الشعبية، وبراح الطبيعة والقرى والحقول، وبدرجات متفاوتة تأثرت ببدر شاكر السياب، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وسعدي يوسف، ولديَّ إعجاب خاص بنزار قباني، فهو الوحيد الذي يمكن أن أعتبره صاحب مدرسة خاصة في الشعر العربي الحديث. وفي العامية المصرية، شكَّل فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي نوعا من الخلاص بالنسبة للشعر بالنسبة لي، حين أضج منه وتضيق بي نوافذ الحياة.

يقول الشاعر عبدالمنعم رمضان إن أفراد جماعة «إضاءة» كانوا يساريين يتغنّون بقوميتهم العربية، ويؤمنون بأن الشعر المصري جزء من الشعر العربي، وضرورة صناعة الجسور التي تصل هذا بذاك، وكانت جماعة «أصوات» تضم يساريين ضد الانتساب لتلك القومية. ما الذي جعلكم تقنعون في «إضاءة»، وأنت أحد مؤسسيها، بفكرة القومية العربية في الشعر؟ وما الذي أضافه لكم ذلك؟ وما الذي خسره شعراء «أصوات» بانكفائهم داخل حدود بلدهم؟

-لا أوافق على هذا التصنيف وأراه مجرد محاولة للبحث عن تميز فكري ولو أيديولوجيا. لا بأس بذلك، لكن في رأيي أن «أصوات» ليست جماعة بالمفهوم العلمي الصحيح، وإنما كانت ردة فعل لجماعة «إضاءة» ومجلتها «إضاءة 77»، التي ظهرت قبلها بسنوات. لقد طرحنا أفكارا جديدة ومهمة في الشعر وطرائق تذوقه والنظر إليه نقديا وجماليا، وأصدرنا 16 عددا، جُمعت في مجلد كبير، احتفلنا بصدوره في ندوة حاشدة على مدى ثلاثة أيام بأتيليه القاهرة، كان على رأسها إدوار الخراط، ومحمد عفيفي مطر، والدكتور عبد المنعم تليمة وغيرهم. وفي المجلة نشرنا نصوصا لشعراء من «أصوات» واحتفينا بهم. كما نشرنا بقروشنا القليلة دواوين لنا. في النهاية، ماذا تبقي من «أصوات»؟ مجرد عدد واحد يتيم من مجلة سمّوها «الكتابة السوداء». المدهش هنا، أننا حين فكرنا في جماعة «إضاءة» لم يخطر ببالنا اسم واحد من شعراء أصوات، برغم أن ثلاثة منهم على الأقل في متن وقلب جيل السبعينيات الشعري، وهم: عبد المنعم رمضان نفسه، وأحمد طه، ومحمد سليمان. كنا أصدقاء، لكن يبدو أن إحساس التجانس لم يكن ناضجا بالقدر الكافي بيننا.

ما الذي أضافته قصيدة محمد الماغوط وأدونيس للقصيدة العربية؟ وكيف استفدتم من منجزهما؟

ـ أدونيس جذر أساس في الحداثة الشعرية العربية على مستوى النظر والتفكير والرؤية، والبحث عن زمن الشعر وتحولاته ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، لا أحد ينكر ذلك، وقد تجلى هذا في كتابه «الثابت والمتحول» وهو في الأصل أطروحته للدكتوراه، فكَّك أدونيس عناصر ومقومات الثبات والتحول في تراث هذه الشعرية، في بيئتها الاجتماعية والثقافية، ووضعها بين أقواس لافتة من الموازاة أو التجاور أو التقاطع أحيانا، لكن ظلت هذه الثنائية الضدية المعرفية رهينة وجودها الهش، ولم يُلتفتْ إليها من منظور فلسفي مغاير، حيث كل ثبات يحمل في داخله ضده، يتقنع به، ويتعايش معه، بل يقيم نوعا من التصالح الزائف معه أحيانا، ما يعني أن الثبات قناع لموضوع ما، وأن هشاشته الضدية جزء من هذا القناع، هنا تكمن صيرورة الثبات والتحول بمعناها الوجودي، فكل تحول هو ابن ثبات بالضرورة، والعكس صحيح أيضا. وربما ذلك ما جعل حداثة أدونيس مرتبطة أكثر بأنساق لغوية علوية مفارقة للواقع، على عكس صلاح عبد الصبور التي ترتبط حداثته بالأرض، ودبيب البشر فوق ترابها.

أما محمد الماغوط، فقد قدم صيرورة لـ«الثبات والتحول» من داخل نصه الشعري بتلقائية وعفوية، وفي مغامرة رائدة، أسست لقصيدة النثر، باعتبارها رافدا من روافد تراث الوجدان العربي أدبيا وشعريا، وظل يراكم تجربته، ويدفع بها حتى حافة الواقع، مجسدا من خلالها تناقضات الواقع نفسه، وأحلام البشر في الحياة والحرية والمعرفة. لقد صنع الماغوط للقصيدة حوض ماء عذب، لكنه لم يحبسها فيه، وإنما تركها حرة تسبح كيفما تشاء، أما أدونيس فقد صنع نهرا بلا ضفاف، وحين أراد أن يغير مجراه استبدل به موجة في بحر هادر. يكفي لهذين الشاعرين الرائدين أنهما حتى الآن لا يزالان قادرين على إثارة الأسئلة والدهشة.

في عدد مجلة «الكاتب» الذي صدر برئاسة تحرير صلاح عبد الصبور في أكتوبر 1975، كتب جابر عصفور مقاله الشهير «حالة وخم شعري» مهاجما الشعر المصري كله، مؤكدا استرخاء الشعراء الرواد، مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل، وعفيفي مطر، واستثنى عصفور الشعراء العرب من مذبحته فهم كما ذهب يتجاوزون ما أنتجوه، ومنهم سعدي يوسف وأدونيس وحسب الشيخ جعفر وعبد العزيز المقالح وعلي عبد الله الخليفة وممدوح عدوان.. ما رأيك في ذلك المقال بعد مرور نصف قرن تقريبا على نشره؟

– قرأت هذا المقال في حينه ولم أعتد به، وأعتقد أنه كان مقالا مغرضا، ولا يخلو من نبرة انتقامية. كان جابر عصفور أكاديميا نمطيا حديث التخرج، لم يلمع نجمه النقدي بعد، وأظن أنه أراد أن يلفت الأنظار إليه بهذه النظرة المتعسفة إلى الشعر المصري ورواده، إذ كيف يستقيم الميزان إذن ولا تختل المعايير، حين يضع عصفور، الشعراء: عبد العزيز المقالح، وعلي عبد الله خليفة، وممدوح عدوان، وهم برأيي شعراء محددو الموهبة والقيمة رغم احترامي لهم، في موازاة مع صلاح عبد الصبور وحجازي، ومطر، وأمل دنقل؟ إنه العبث بعينه، ولا شيء أكثر من ذلك.

نشرتم ملفا في مجلة الكاتب في منتصف السبعينيات عن الشاعر علي قنديل الذي مات شابا في حادثة سيارة.. لو كان علي قنديل قد نجا وعاش هل كان سيصل إلى ما وصل إليه الشعراء الكبار خاصة وقد اتفقتم جميعا على أنه كان صاحب موهبة عاتية؟ وما رأيك في هجوم حسن طلب عليكم وخاصة أنت؟ هل كان مبرره الغيرة الشخصية منكم؟

– علي قنديل كان موهبة شعرية مبشرة، وكان سيثري المشهد الشعري بكل تأكيد. أما موقف حسن طلب، فلا يختلف كثيرا عن موقف جابر عصفور.. ثمة واقعة في هذا السياق أكشف عنها هنا للمرة الأولى بمناسبة الحديث عن حسن طلب. كنا في بداية عملنا في مجلة «إضاءة 77» بحاجة ماسة لناقد أدبي موثوق يسند تجربتنا الشابة الواعدة. ذات ليلة وفي أحد مقاهي حي الدقي، المفضل لنا آنذاك، اجتمعنا نحن الشعراء الأربعة المؤسسين للجماعة. فوجئت بأن ثمة توافقا ضمنيا من قبل حلمي سالم وحسن طلب، على الدكتور جابر عصفور، فاشتطت غضبا، وكدت أن أنصرف من الاجتماع، وقلت بصراحة إنني أرفض وجود هذا الرجل في إضاءة بأي شكل من الأشكال، لأسباب كثيرة، للأسف منها ما يتعلق بأخلاق المهنة، وقد تضامن معي رفعت سلام. وبقوة التنوع من داخل الكتلة، الركيزة الأساس التي بنينا عليها حلمنا، أنهينا خلافنا بسرعة، وهرعنا في الليلة نفسها إلى الدكتور عبد المنعم تليمة، وعرضنا عليه الأمر، فرحب أيما ترحيب، وكتب لـ«إضاءة» ثلاث مقالات مهمة، تعتبر من عيون علم الجمال، وتأسيس عتبة جمالية جديدة لمغامرة الشعر في الواقع والحياة بعنوان «الشعر ينبئ ويتنبأ».

من أقرب شعراء جيل السبعينيات من مصر والعالم العربي إليك ولماذا؟

– الشاعر حلمي سالم رفيق الدرب، وصديقي الجميل الشاعر اللبناني بسام حجار، رحمهما الله. في شعرهما ثمة اعتصار للحظة الشعرية بخفتها وثقلها، وتوهجها وانطفائها، حتى آخر نفس في القصيدة لتظل منفتحة بقوة وطفولة على قوسي البدايات والنهايات.

ما رأيك في القصيدة الجديدة التي تُكتب «التسعينيات وما بعدها» وما أبرز ملاحظاتك عليها؟

– ملاحظاتي عديدة هنا، ولعل أبرزها، أنها قصيدة لم تستطع أن تؤسس لخصوصية ما تشكل وعاء جماليا لها، وعوضا عن ذلك انزاحت في الشائع والمألوف إلى حد الابتذال والاستنساخ. لقد صارت متنا فوضويا يجتر نفسه ويكررها برتابة. لكن وسط كل هذا ثمة استثناءات نادرة، بها ملامح تميز، في تجارب بعض الشعراء هنا وهناك.

هل تشعر بأنك أخذت حقك نقديا؟

– إلى حد ما، سعيد أن يصبح شعري مدارا للبحث العلمي الرصين، في أطروحات للماجستير والدكتوراه. أيضا في حقل الترجمة لعدد من اللغات. وأعتبر ما يُكتب عن شعري من مقاربات نقدية لبعض النقاد، محاولة حثيثة للطرق على باب القصيدة.

هل يعاني الشعر مقارنة بالرواية والقصة من عزلة ومخاصمة الإعلام والجوائز في العالم العربي؟

– نحن في زمن الصورة، يصنعها الرسام، والشاعر والقاص، والمسرحي والموسيقي ومنسق الحدائق والزهور، كلٌ بطريقته الخاصة، لكن ذروة الدراما والجمال في كل هذه الأنواع الأدبية والفنية يصنعها الشعر. الشعر ينقذ اللوحة من التجريد الأصم المغلق، وحين يرتفع سقف الصراع في المسرح يتشرّب الحوار بروح الشعر، وفي السرد الروائي والقصصي، يحفظ الشعر للغة بهاءها، ويمنح الصراع خفة التحليق في أجواء النص والعالم والواقع.. لا يختلف الأمر في الموسيقى، فالشعر مكتف بنفسه موسيقيا، وحين يتحول إلى أنشودة أو أغنية، يفيض بها في فضاء أكثر رحابة واتساعا، والتصاقا بأشواق الإنسان.

أخيرا.. ما المقولة التي تعمل بها؟

ـ «حين ترفع صوتك عاليا لن تصغي لنفسك، بل سيصغي إليك الآخرون».
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/جمال-القصاص-قصيدة-التسعينيين-وصلت-إلى-حدود-الابتذال