محمود الرحبي
ينبهنا وليد النبهاني في كتابه البحثي التوثيقي”من تاريخ الموسيقى في عمان” إلى أننا بإزاء معرفة أخبار جديدة لم نكن من قبل على دراية بها. وهو بذلك يرى أن من أجل هزيمة (الجهل والغياب) لابد من التنقيب في معرفة تاريخ الموسيقى في كل بلد. فالفنون كما قال محمود درويش تهزم الموت. وهو المقطع الشعري الذي استله الكاتب ووضعه مفتتحا به كتابه:” هزمتك يا موت الفنون جميعها” .
في المقدمة يحدثنا الكاتب بأن الدراسات التاريخية المتعلقة بالموسيقى في عمان تعد قليلة جدا، وكانت البداية في الثمانيات ” إذ أمر السلطان قابوس بجمع التراث الموسيقي”.
بحث “النبهاني” رغم قصره، ينم عن مجهود تقني تنقيبي مكثف، يضاف إلى المجهودات البحثية في جيونولوجيا الموسيقى في العالم العربي، حيث يرى الباحث أنه لا توجد كتب مستقلة تاريخية عن الموسيقى في عمان (على شاكلة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني مثلا)، إنما جاء الباحثون بعد ذلك ونقبوا ونبشوا حتى في متون التراث الفقهي من أجل استخراج مؤشرات ودلائل موسيقية كما حصل في كتاب (الموسيقى العمانية مقاربة توثيقية وتحليلية) لمسلم الكثيري. ونحن نعلم أن الجزء الأكبر من التأريخ يصب في ما هو سياسي وحربي، ولكن في تضاعيف كل ذلك يمكن للباحث أن يلتقط اسم آلة موسيقية أو فرقة موسيقية، حتى وإن تم وضعها في خانة اللهو ومضيعة الوقت، كما هو الحال مع آلة موسيقية اسمها “الدهر” ذكرت في كتاب فقهي عماني قديم.
يذكر الكاتب أن السلطان برغش بن سعيد (ثاني السلاطين العمانيين في شرق إفريقا) كان يسمي الفرق الموسيقية بالمقامة، حين كان يراها في زياراته السلطانية، وقد سعى إلى أن تكون في دولته فرقة موسيقية تعزف الأناشيد الحماسية الوطنية. وإذ كانت الفرق التي رآها تؤدي الكلمات بلغات غير عربية، فقد سعى السلطان إلى البحث عن من يكتب الأناشيد بالعربية، فأرسل إلى القس صابنجي صاحب مجلة النحلة في بيروت، الذي أسعفه بقصائد عربية من تأليفه استحسنها السلطان، فأنشئت فرقة موسيقية سميت بمقامة الدولة الزنجبارية، وكانت تعزف مرتين في الأسبوع على باب قصر السلطان برغش، كما تعزف في جميع المناسبات والأعياد.
كما يذهب الباحث في تنقيبه وبحثه إلى أن الموسيقى في زنجبار كانت موجودة حتى في زمن المؤسس السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، وقد ثبتت أجزاء من ذلك الأميرة سالمة بنت السيد سعيد في كتابها “مذكرات أميرة عريبة” حين كانت تجتمع العائلة في صحن القصر، ويأتي الحكاء ومعه آلة موسيقية خفيفة وأحيانا تغني امرأة عريبة اسمها عمرة.
كذلك هناك من الطرائف ـ المتعلقة بعمان في السياق الموسيقي ـ أن الخليفة العباسي الواثق بالله غضب من أحد المغنين فكان عقابال له أن أمر: ” ينفى الساعة إلى عمان” وهي قصة طويلة وردت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
وقد عرف عن الخليفة الواثق حبه للغناء، كما كان يجيد الغناء، ويجمع أحيانا المغنين من كل مكان لكي يستعرض عليهم صوته. لذلك في زمنه ازدهر الغناء وبرز صوت إسحاق الموصلي حتى قال عنه الواثق: ” وإن إسحاق لنعمة من نعم الملك لم يحظ بمثلها؛ ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بنصف ملكي” ـ من كتاب الأغاني ـ .
ويرى الباحث بأنه يكاد لا يخلو كتاب فقهي عماني عن ذكر آلة من آلات العزف، ومنها أن أحد المغنين جاء من الهند في زمن الإمام المهنا بن جيفر وعزف من آلة اسمها الدهر للجيش والمحاربين، ولكن أحد الفقهاء استنكر عليه، وكان هذا سببا موضوعيا في ذكر هذه الحادثة في كتاب فقهي وبالتالي حمايتها من الزوال. وقد فتش الباحث عن آلات مختلفة في هذه المتون الفقهية، مثل الكبارات والعود والدف والطنبور والقصبة، كما ذكر بأن بعض الفقهاء أجاز استعمالها في عمان ولكن بغير غناء، كما ورد عن بعض الفقهاء عدم استقباحه للدف والطبل وخاصة أيام الحروب. (حسب ما أورده المؤلف). يورد الكاتب كذلك قصائد عديدة للشاعر الكلاسيكي راشد الحبسي يرد فيها الغناء والمغنين، من ضمنهم مغني اسمه ابن عمار السعالي، تم إيراد قصيدة جميلة له في هذا السياق. نرى الأمر نفسه في قصائد شاعرين مفلقين وهما اللواح والستالي، ولكنه بعد ذلك يدعو للاعتراف أن الشعر لا يعد وثيقة أو مرجعا تاريخيا ثابتا يعكس واقع العصر الذي دبجت فيه هذه القصائد، بقدر ما يكون تعبيرا عن شعور وتخيلا جماليا. وهو ما يذهب إليه الكاتب، لذلك فإن هذا الكتاب جمع بين إشارات واقعية عكستها الكتب الفقهية، وأخرى خيالية جمالية عكستها أقوال وقصائد الشعراء، حيث يعد الجنوح التخيلي جزءا من عبقريتهم الإبداعية وسرا من أسرار خلودهم.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/بحث-توثيقي-ل-تاريخ-الموسيقى-في-عمان