البحث عن سلوت

خميس العدوي
الإنسان القديم.. في أرض عمان؛ أسبق من الهجرات إليها؛ بما فيها اليمنية والفارسية، فقد كانت في الحقب الغابرة أرضا خصيبة، ذات حضارة عريقة، سكنتها أقوام منذ عشرات آلاف السنين، آثارهم تدل عليها أطلالهم الباقية ورسماتهم الصخرية ومعابد أديانهم الفانية، وقد جذبت إليها الأنظار، وطمع فيها الطامعون. وفي ظل التمدد الفارسي وصراعه مع البيزنطيين، ومحاولة توسعة نفوذهما في شبه الجزيرة العربية، كانت عمان موضع أقدام الفرس الذين عبروا منها إلى جزيرة العرب؛ لاسيما.. اليمن، يقول جون ولكنسون في كتابه «الإمامة في عمان»: (رأت القوة البحرية الساسانية أن تأخذ بالتوسع الجديد في حروبها ضد الإمبراطورية البيزنطية، فقد قامت ببسط نفوذها حول مدخل البحر الأحمر، وقد أسس الفرس نظاما عسكريا جديدا في عمان، وهم في طريقهم لمهاجمة الأحباش في اليمن)، بيد أن هذا النظام لم يتعدَ الساحل إلى الداخل.

بمرور الزمن حصلت «نهضة عربية» قادها الأزد، سعوا للقضاء على الفرس المنتشرين في نواحٍ من سواحل جزيرة العرب؛ من العراق حتى عسير. هذه «النهضة» لم تكن قومةً واحدة، بل استطالت ردحا من الزمن، كان الصراع فيه سجالا بين الطرفين، وهو ما قد يفسّر النزوح الأزدي إلى عمان وصراعه مع الفرس. يذهب الرواة الكلاسيكيون.. أن الهجرة الأزدية كانت بقيادة مالك بن فهم الأزدي، وأنه نزل بقومه في قلهات على الساحل، ثم تحرك نحو صحراء سلوت، وهناك عسكَرَ، ثم شرع في التفاوض مع الفرس ليتركوه يقيم في إقليم عمان، إلا أنهم رفضوا، ثم نشبت بينهم معركة فاصلة عُرفت بـ«يوم سلوت»، فتقلّص نفوذ الفرس في الساحل إلا من صحار، ثم أعادوا تسليح أنفسهم بإمدادات من فارس، لكن مالك بن فهم عاجلهم فقضى عليهم، منهيا وجودهم من عمان، ثم عادوا مرة ثانية فاستمروا حتى مجيء الإسلام، فأخرجهم العمانيون نتيجة توحّد قبائلهم باعتناقه.

تحدث عبدالله السالمي في «تحفة الأعيان» عن «يوم سلوت»، ومما قاله باختصار: (تقدم مالك بن فهم في قبائل الأزد معه إلى عمان، فوجد بها الفرس من جهة الملك دارا بن دارا بن بهمن، والمتقدم عليهم المرزبان عامل ملك فارس، فعند ذلك أنزل مالك من كان معه إلى جانب قلهات من شطّ عمان، ليكون أمنع لهم، وترك عندهم من الخيل والرجال من يحفظونهم، ثم سار ببقية عساكره وصناديد رجاله، وأرسل إلى الفرس يطلب منهم النزول في عمان، وأن يفسحوا له ويمكّنوه من الماء والكلأ ليقيم معهم، فتشاوروا في أمره، ثم أجمعوا على صرفه. وقالوا: لا نحب أن ينزل هذا العربي معنا فيضيّق علينا أرضنا وبلادنا. فلمّا وصل جوابهم إلى مالك أرسل إليهم أنه لا بد لي من المقام في عمان، فإن تركتموني طوعاً نزلت في قُطِرٍ من البلاد وحمدتكم، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، وإن قاتلتموني قاتلتكم، فأبت الفرس وجعلت تستعد لحربه. وأن مالك بن فهم أقام في مدته تلك بناحية الجوف حتى استعد لحرب الفرس وتأهب للقائهم، وكان معسكره ومضرب خيله وعساكره هناك، إلى أن استعدت الفرس لحربه وقتاله).

وعن نتيجة «يوم سلوت» يقول: (لم يكن للفرس ثبات، وولوا منهزمين على وجوههم، فاتبعهم فرسان الأزد يقتلون ويأسرون من لحقوا، وقتلوا منهم خلقاً كثيرا، ولحق فراهيد بن مالك سفندار ابن المرزبان، وكان من أعظم قواد العجم، فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم علاه بالسيف فقتله، وسارت فرسان الأزد من خف من أبطالهم آثار العجم؛ يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، فما أفلت منهم إلا من ستره الليل فتحمل من بقي منهم من تحت ليله، وركبوا في السفن وعبروا إلى فارس، واستولى مالك على سوادهم فاستباحهم وغنم أموالهم، وسجن من الأسرى خلقا كثيرا، فمكثوا في السجون زمانا ثم أطلقهم، وحملهم في السفن إلى فارس، واستولى على عمان؛ فملكها وما يليها، وساسها وسار فيها سيرة جميلة).

هذا الرواية الكلاسيكية تداولها الرواة، حتى غدت كأنها تأريخ واقع، بل قام عليها التاريخ القبلي والسياسي والديني في عمان، إلى أن نقد أحمد بن سعود السيابي نزول مالك بن فهم في قلهات الساحل، وقال: كيف يتأتى لمالك ومعه قومه بنسائهم وأطفالهم وحمولتهم أن ينزلوا في قلهات الساحل المحصنة بالجبال والبحر، ثم يرحلوا إلى سلوت؟ ويذهب السيابي إلى أن قلهات ليست هي قلهات الساحل، وإنما قلهات بَهلا، وقد حدث التباس بتشابه الأسماء.

ويرى ولكنسون أن الهجرة الأزدية إلى عمان لم تحدث دفعة واحدة، وإنما امتدت حقبة قد تصل إلى الألف عام، (ضُغِطت في حياة مالك بن فهم)، ويمكن أن نقرأ رأيه كالآتي:

1. عدم وجود شخصية ملكت فارس اسمها دارا بن دارا بن بهمن، والذي ينسب إليه أن مالك بن فهم قاتل الفرس في عهده، وإنما هو مركّب من شخصيتين بينهما مدة طويلة، وهما داريوس الأول وداريوس الثالث.

2. بتتبع خارطة القبائل الأزدية المهاجرة إلى عمان، نجدها قد انتشرت في شريط طويل، بدأ من قريات الساحل، ثم قلهات وجعلان، إلى الجوف، حتى قريات بَهلا، وقد اتخذت لها شريطا من الصحراء مواطن، لوجود العمانيين الأصليين في البلدان الداخلية على سفحي الجبل الأخضر وامتداد أوديته، بينما كان الوجود الفارسي على الساحل.

3. الهجرات الأزدية إلى عمان لم تكن عبر البر حصرا، وإنما جرت عبر البر والبحر، وربما هجراتهم البحرية هي الأكثر، فقد قيل: (إذا أزدية ولدت غلاما.. فبشرها بملاح مجيد).

هذا ما يمكن قوله في «يوم سلوت»، وهو يوم لا أقدر على إثباته أو نفيه، ويظل ابن الرواية الكلاسيكية التي لم تجد لها دليلا على واقع الأرض العمانية حتى الآن من خلال التنقيبات الآثارية المكتشفة. بيد أن النقد الذي قدمه السيابي وولكنسون ألقى بظلال الشك على مجرى التاريخ العماني القديم.

«يوم سلوت».. لا يزال يتأرجح بين الواقع والأسطورة، فالواقع.. أن مناطق عدة تحمل اسم سلوت، ووجود هجرات أزدية إلى عمان، كما وجد الفرس على الساحل العماني، لكنه واقع اكتنفته الأسطرة، فحتى الآن لم يُكتشف من الآثار ما يدل على الوجود الفارسي داخل عمان، ولا يمكن كذلك التسليم بحقيقة مالك بن فهم وحربه مع الفرس دون اعتبار ذلك في سياق هجرات تم تكثيفها في شخصية مالك؛ لتعمل عمل الرمز الأبوي للأمة العمانية، كما هو سائد في أنظمة الاجتماع القديمة. بيد أن ذلك أسلمني إلى المزيد من البحث عن «سلوت»، وهذا ما بذلت فيه جهدي منذ أكثر من عشر سنوات، فتوصلت إلى قناعة بأن اسم سلوت أكبر من موقع عرفت به معركة حربية؛ لم يتمكن البحث الموضوعي من إثباتها، فوجود أماكن عديدة -نافت على العشرة- في عمان تحمل هذا الاسم وتصريفاته؛ منها: «سلوت» في بسيا وأخرى في بلاد سيت ببهلا، وثالثة في العارض بالحمراء، ورابعة بالجبل الأخضر، وخامسة في النبأ بالقابل، و«السلوتي» في فرق بنزوى، و«الأسلات» في وادي بني عمر بالباطنة، و«ني صلت» في كدم، و«ني صلت» حارة ببَهلا، و«الصلوت» قريبة من وادي بني خروص، كل ذلك.. يجعلنا أمام مشهد حضاري كبير علينا كشفه والتحقق من أبعاده. راجيا الله أن أخصص أكثر من مقال في تتبعه، كما أننا بدأنا الكتابة عنه ضمن مشروعنا في توثيق جانب من الحضارة العمانية القديمة.

ختاما.. أصل هذا المقال طرحته من قبل في كتاباتي عن «حضارة سلوت»، وهنا تطوير لرؤيتي على ضوء بحثي المستمر عن هذه الحضارة المنسية.

خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ مؤلف كتاب «السياسة بالدين»
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/البحث-عن-سلوت