كتب ـ عاصم الشيدي
لم تعش فرحة أن تكون “فتاة غلاف” مجلة العربي
من مفارقات القدر الغريبة أن تكون صورتك غلافا لأشهر مجلة في العالم العربي، توزع ما يزيد على مليون نسخة من كل عدد من أعدادها وتطوف بكل البلاد العربية يتلقونها بلهفة ورغبة لمعرفة أحوال البلاد العربية، ولا تعلم بذلك إلا بعد مرور نصف قرن من الزمن، تكون أيقونة من أيقونات التحول في بلدك ولا تعلم ذلك، لا تعيش متعة أن تكون على الغلاف في وقت لم يظهر فيه الإنترنت ولا وسائل التواصل الاجتماعي ولم يعرف أحد بعد صورة “البروفايل”.
وعندما تعلم بالأمر تكون ملامحك قد تغيرت، وحفر الزمن ندوبه على وجهك، وترى صورتك فلا تتعرف عليها بسهولة.
حدث هذا الأمر مع محفوظة الرواحية التي كانت حديث وسائل الإعلام الأسبوع الماضي، بعد أن بدأت مجلة العربي التي كانت قد وضعت صورتها عندما كانت صبية صغيرة على غلافها الأول. وحكاية محفوظة بدأت في عام 1971 عندما جاء كاتب الاستطلاعات الشهير في مجلة العربي الكويتية سليم زبّال وبصحبته مصور المجلة المعروف أوسكار متري إلى السلطنة لعمل استطلاع حول المتغيرات التي تحدث فيها مع وصول السلطان قابوس بن سعيد إلى سدة الحكم. وزار سليم زبال عدة مدن عمانية من بينها نزوى التي التقى فيها بالوالي السيد هلال بن حمد السمار والذي كان يبرز في القلعة وفق ما تشير إليه الصور المرفقة في المجلة، وصحار التي تحدث مع قاضيها الشيخ مالك بن محمد العبري ومن بينها سمائل التي وصفها سليم زبال “بجنة عمان”. وفي سمائل التقت مجلة العربي بواليها في ذلك الوقت الشيخ محمد بن زاهر بن غصن الهنائي.
إلا أن الحدث الذي يرتبط بالموضوع محل الحديث هنا هو مرور سليم زبّال على أطفال يتعلمون القرآن الكريم على يد الشيخ محمد بن منصور الشامسي في سمائل. وهناك دارت بينه وبين الشامسي بعض الأحاديث حول تعليم الأطفال. يقول إنه لا يتقاضى أي راتب على تعليمه القرآن للأطفال إلا أن أحد المحسنين كان قد أوقف 25 نخلة للمدرسة، استلمها الشيخ منصور بعد الشيخ الذي كان قبله، يقوم بالعناية بها وما يحصل عليه من بيع ثمارها يكون بمثابة راتبه السنوي.. ويشير كاتب الاستطلاع أن مردودها يصل إلى ما يعادل 20 جنيها استرلينيا في السنة “عشرة ريالات بسعر هذا الوقت تقريبا”.
كانت تحضر في درس الشامسي فتاة صغيرة لم يتجاوز عمرها سبع سنوات كما تبدو ملامحها في الصورة. كانت ترتدي على رأسها “ليسو” أخضر اللون، وبين يديها مصحف، وعلى جبينها “زج” من المحلب والزعفران، وكانت نظرة عينيها تقول الكثير من الحديث الذي يستشرف المستقبل. شدت نظرات هذه الفتاة المصور أوسكار متري فأخذ لها صورة منفردة، رأت المجلة أنها تستحق أن تكون غلافا للمجلة في العدد الصادر في شهر يونيو من عام 1971.
بعد أكثر من 50 عاما ستعرض صورة مكبرة لذلك الغلاف في الرواق الخارجي من معرض مسقط الدولي للكتاب، وتطلب المجلة المساعدة في الوصول إلى هذه الفتاة إن كانت ما زالت على قيد الحياة. وفور وضع كاتب هذه السطور صورة غلاف المجلة على موقع “تويتر” والقول إن المجلة تبحث عن صاحبة الصورة ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بصورتها وأصبحت حديث الجميع. لم يمضِ وقت طويل حتى شدّت الصورة “جارة” صاحبتها، وقالت لا يمكن إلا أنها تعرف هذه الفتاة، إنها جزء من ذاكرة طفولتها.. وقد تعرفت عليها وقالت بصوت مسموع “هذه محفوظة هي ما حد غيرها” وعند ذلك استعادت كل تفاصيل الطفولة ومرابعها، وذكريات مدرسة القرآن. وعلى الفور تواصلت مع جارتها وقالت لها: “وينش المجلة تدورش أوين؟”.
كنت أتمنى أن أكون في الرواق الخارجي لمعرض مسقط للكتاب عندما تصل محفوظة الرواحية إليه وتلتقي للمرة الأولى بصورتها، لأرى لحظة الدهشة، لحظة العودة بالذاكرة إلى نصف قرن إلى الوراء، والدهشة أن صورتها كانت قد شغلت الناس في مرحلة لم تكن تعلم ما يحدث أبعد من بيت صديقات طفولتها. لكن ذلك لم يحدث! لم تأت محفوظة إلى معرض الكتاب، بل ذهبت وأسرتها للقاء ممثلي مجلة العربي في مكان آخر. لذلك رأيت أن أتواصل معها عبر الهاتف لأستطلع تلك الدهشة، وبعضا من تلك الذاكرة. ووفقا لحسابات بسيطة فإن عمر محفوظة الآن على مشارف الستين دون أن نتورط في طرح مثل هذا السؤال عليها.
تقول محفوظة عبر الهاتف: لم نكن نعلم أن أحدا كان سيأتي في ذلك اليوم ويصورنا، أصلا لم نكن نعرف ماذا يعني التصوير وكيف يمكن أن تظهر صورنا لاحقا، مضى زمن حتى أدركنا ماذا يعني التصوير والصورة.. كل ما في الأمر أن مجموعة من الغرباء جاءوا فجأة ونحن نتعلم القرآن وتحدثوا مع المعلم الشيخ محمد بن منصور ثم ذهبوا وانتهى الأمر عند هذه النقطة، ولم يعلق منه شيء في الذاكرة. وقبل يومين تواصلت معي جارتي وقالت بشكل مباغت: هذه صورتك! في البداية لم أتعرف على نفسي، وبعدين “حي فؤادي” (أي أن ذاكرتها عادت لها لتتعرف إلى نفسها). وتضيف الرواحية وهي تتحدث بكل تلقائية عبر الهاتف: الصورة أفرحتني كثيرا وكذلك أفرحت أبنائي.
وعندما سألتها إن كانت قد انتقلت من مدرسة تعليم القرآن إلى الدراسة النظامية في ذلك الوقت قالت: مع الأسف لم يحدث ذلك! قلت لها: لماذا؟ فأجابت: خوفونا في ذلك الوقت. وفي الحقيقة هذا الجواب يتناغم كثيرا مع ما جاء في الاستطلاع من القول أن الكثير من الأوهام كانت ما تزال تسري بين الناس حول كل شيء. وتكمل محفوظة حديثها بالقول: تعلمت خمسة أجزاء من القرآن الكريم وعدت إلى بيتي. بينما تعلم أبنائي لاحقا في المدارس ودخلوا الكليات والجامعات وحققوا ما لم أستطع تحقيقه في طفولتي.
لكن فكرة التعليم بقيت في “فؤاد” محفوظة ولذلك بعد مضي 47 سنة من تلك الحادثة دخلت وبعض جاراتها وصديقات طفولتها لمدرسة محو الأمية التي فتحها في سمائل الشيخ حمد بن عبيد السليمي وهذا الفصل يتبع مبادرة تنظمها مكتبة السليمي، وكانت معها في هذا الفصل مجموعة من النساء اللاتي كنا معها في الصورة التي ظهرت في الصفحات الداخلية لمجلة العربي.
وبعد أن أغلقتُ الهاتف من عند محفوظة الرواحية التي لم تعش فرحة وجودها على غلاف المجلة قبل نصف قرن ولكنها عاشت تلك النجومية بأثر رجعي الأسبوع الماضي ذهبت إلى مكتبتي وبحثتُ عن عدد المجلة الذي يعود إلى عام 1971وبدأت اقرأ ذلك الاستطلاع الذي احتل 24 صفحة من صفحات المجلة ووجدته تحفة تستحق القراءة لمن أراد أن يعرف كيف كانت عُمان في تلك المرحلة من مراحل التاريخ. فقد تضمن توصيفا دقيقا للوضع في عمان من الوهم إلى الأمل، إضافة إلى معلومات مهمة وأسماء لولاة وقضاة كانوا نجوما في تلك الفترة الزمنية من تاريخ عمان.. فإضافة إلى صورة السيد هلال بن حمد السمار هناك صورة للقاضي الشيخ مالك بن محمد بن حمد العبري الذي كان حينها قاضيا في ولاية صحار والشيخ محمد بن منصور الشامسي وصورة للشيخ محمد بن زاهر بن غصن الهنائي والي سمائل في ذلك الوقت.
وهكذا استطاعت صورة قادمة من التاريخ القديم أن تعيد فتح صفحات التاريخ، وأن تشغل تلك الصورة معرض مسقط الدولي للكتاب.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/صورة-فتاة-عمانية-تعود-لنصف-قرن-تشغل-وسائل-الإعلام