البطء في التعافي من الحرب

آمنة الربيعي

ما الحرب؟

“إنّها تُثقل القلب”

باختصار مؤلم لكنه مكثف وصادق وحقيقي يصف الشاعر أمل دنقل صورة الحرب، بقوله: قَد تثقل القلب! وإذا كان الشاعر يستحضر في قصيدته الخالدة المعروفة “لا تصالح” بعنوان ثانوي آخر “أقوال على حرب البسوس، تلك الحرب الرعناء التي دامت طويلا بين قبيلتي “بكر وتغلب” بسبب ناقة! فإنّ وصف الحرب بالثقّل، أبلغ وأحدَّ من شفرة السيف البتار. وصدق الشاعر عندما وصفها “بالثقل”، لأن باطن القول في اتخاذ قرار الحرب إنّما تكون هي “الخفّة”، فلا يُمكن أن يُعقل أن يتخذَّ قرار الحرب رجلٌ رشيد أو إنسان عاقل!

وينطبق وصف الحرب “إنها تثقل القلب” على جميع الحروب التي يُمكن حدوثها في العالم، لكنّ الحرب بنوعيها -الكلامية الإعلامية أو التجهيزات العسكرية على الحدود- المُزمع قيامها بين روسيا وأوكرانيا، التي نستيقظ منذ أيام على تصريحات السياسيين وتهديدات العسكريين أو الحلفاء أو الكارهين للحرب، هي حربٌ لا أحدًا يريد قيامها إلّا المستفيدين منها، كما أنّها تعدٌّ حربا أخرى غير الحرب أريد الكتابة عنها اليوم.

يقع معنى الحرب التي أكتب عنها في المسرح. كيف تناول المسرح الحرب؟ وكم عدد الحروب التي تناولها مسرحنا العربي؟ هل يُمكن إحصاؤها؟ ما الكيفية التي تناولت بها النصوص المسرحية أنواع الحروب؟ هل هناك أنواع مختلفة للحروب؟ أيّ الجماليات الإخراجية كانت الأكثر اشتغالا على ثيمة الحرب في المسرح: المسرح الواقعي أم الطبيعي أم الملحمي أم التجريب في المطلق أم المونودراما أم صيغ ما بعد الدراما؟ هل كانت النصوص المكتوبة أو المُعدة التي قُدمت وأُنتجت عن حروبنا جاءت في مستوى الحدث العظيم؟ كم عندنا من حروب عظيمة ومصيرية زلزلتنا؟ كم عدد القتلى والشهداء والسجناء والأسرى والمتنفذين فيها؟ والمستفيدين منها ومن هم صناعها؟ وأين وقف النقد منها؟ هل نتذكر حروبنا القريبة؟ هل نسينا حروبنا القديمة؟ هل تعلمنا الدروس؟ هل أفقنا، هل ما زلنا نؤمن بمقولة إننا لن نعرف السلام إلا بعد أن نذوق الحرب؟ هل هناك دور حقيقي وفاعل للنخب المسرحية المثقفة في الحوار الديمقراطي تحت قباب البرلمانات؟ هل انتهت الديمقراطية فبدأت الحرب بجميع أنواعها وأسلحتها وترسانتها؟ وبصريح العبارة هل هناك ديمقراطية ما، وهل هناك حمائم سلام أو رُسْل للتفاوض لإبطال قرار الحرب؟

بالعودة إلى ذاكرة المسرح وتناوله لثيمة الحرب وتأثيراتها على الحياة والإنسان من جميع النواحي، نشير إلى مهرجان الكويت المسرحي الخامس عشر 14 ديسمبر 2014م حينما عقدت ندوة بعنوان: “المسرح والحرب”، تحدث فيها الباحثون والأكاديميون وقدموا أوراقا بحثية في جلستين، الأولى بعنوان: “المسرح والحرب الأبعاد الدولية، قُدمت فيها ثلاثة أبحاث عن “المسرح والحرب في الفكر الإنساني”، أما الجلسة الثانية فكانت بعنوان: “المسرح والحرب البعد العربي” وناقش فيها الباحثون: “المسرح وحرب التحرير في دول المغرب العربي، والمسرح وحرب تحرير الكويت، والمسرح العراقي والحرب”.

وعطفا على ما سبق، عرف العراق وسوريا مع أحداث ثورة الربيع العربي، أحداثا مرحلية تاريخية مهمة، ابتدأت بالشارع وصولا إلى خشبة المسارح، سواء في داخل مدنها العريقة بالمسرح وبالحرية، أو في بلدان المهجر. فمن العروض المسرحية التي تناولت الثورة والحرب السورية (“نزوح” للراقص والمصمم مثقال الصغير وجرى تقديمه في زيورخ أغسطس 2017م. وعرض “حليب بورتريه الغياب” للكاتب والمخرج المسرحي محمد العطّار، وعُرض في برلين سبتمبر 2017م، وكذلك عرض “هُنّ.. مرثية نسوية” تأليف وإخراج آنا عكاش وجرى تقديمه ضمن أعمال الدورة العاشرة لمهرجان المسرح العربي بتونس يناير 2018م.

“إنّها الحرب” نص مسرحي قصير للمؤلف حسين العراقي، يُمكن التمثيل به على أعطاب الحرب والبطء في التعافي من ويلاتها. نصٌّ مكثف وحاد لا يخلوا من إنسانية متوعكة. يتكون النص من شخصيتين هما: الرجل والمرأة. وتجري الأحداث في “بيت أكلت منه الحرب”. يصور لنا المؤلف الفضاء الدرامي لحال هذا المكان وللكائنين البشريين المجردين من الأسماء، إلا من تفاصيل معيشتهما لآلام الحرب وتبعاتها على النحو الآتي: “وميض ضوء، صوت انفجار، صوت صفارات إنذار، دخان، غبار، تخفت الأصوات ويعم الهدوء ويضاء المكان إضاءة خافتة. يظهر من بين الدخان والغبار رجل جالس على كرسي متحرك (مدوّلب) وامرأة خلف الرجل تدفع بذلك الكرسي وهما يسيران ببطء وغطتهما الأتربة، وفي اليمين صورة لشاب وُضع في زاوية بروازها شريط أسود. وفي الطرف الآخر بدلة عسكرية علقت على الجدار، وآلة عود وضعت على الكرسي.”

إنّ صورة الحرب في النص المسرحي عبارة عن” حروب غبية”، ولكن على الرغم من غبائها إلا أنها موجعة “ولم تهزمنا لأن طعم الهزيمة لا يتلاءم معنا”، رغم مرارة اللحظات التي كانت تسري بنا ووصل مرّها إلى حلق الرجل. لكن المرأة تُدرك أن الإنسان الذي كان قبل الحرب إنسانًا لم يعد ذلك الإنسان، بل صار كائنا مشوها وملامحه متغيرة، ومعيار الحرب أنها تأخذ ولا تُعطي، تقتل ولا تُحيي، تسحق وتحرق ولا تزرع.

من الحيل الفنية التقليدية المتصلة بالحرب على الرغم من اتصالها بالواقع، هي ثيمة الانتظار! انتظار الحبيب أو الزوج أو الأب أو المحارب، أو المسافر. في النص ينتظر الزوجان ابنهما لإجراء مراسم زواجه، ويستذكران في الماضي أحد لحظات فرحتهما بالمستقبل السعيد القادم الذي تنتظره الأسرة الصغيرة من خلال ضحكات طفل، لكن كلّ ذلك الجمال قد تبدد لأن الحرب عادت تقف على عتبات الأبواب وهي فاتحة فمهما تريد أن تلتهم الجميع، وبات عليهم مغادرة البيت.

إن الهروب حل من الحلول المتوفرة، لكن فكرة البقاء والمقاومة سوف يترتب عليها أشياء كثيرة. فالهروب من زاوية نظر الزوج معناه التعرض للهزيمة، فالتفتت إلى أجزاء مخذولة كئيبة! أما البقاء من وجهة نظر الزوجة فمعناه الوقوع في دائرة الجحيم. يستطيع المتلقي أن يتفهم حوار الزوجين، ومخاوفهما المتكررة من مآلات حرب غبية بلهاء عقيمة لا تخلّف من ورائها إلا الدمار والفناء. لذلك يلجأ المؤلف إلى عرض وجهتي النظر السابقتين، إما الهروب والنجاة أو البقاء والمقاومة. ثم نكتشف من خلال حوارهما، ذلك العطب النفسي الذي فشلت الحرب في طمسه، أو محوه، فالزوج كما تقول له زوجه إنه ما زال يبحث “عن ملامحه التي تشعبت بها أخاديد الألم وبارود الحروب وجراح فقد الضنى حين ودعته بصمت موجع”، وهكذا، لا يبقى أمام الزوج المعتدّ بنفسه وأمله وألمه سوى التدليل على ذلك العطب، الذي وإن بدا ظاهرا على السطح في كلام الزوجة، فهو محفور في طبقات شعوره برجولته وكرامته في آن، قائلا لها: “لأنني أومن أن العار ليس أن يدخل عدوا إلى دارك رغم أنفك، بل العار أن يخرج سالمًا أمام عينيك.”

إزاءَ تلك الأسئلة التي طرحناها، وانطلاقًا من حروب خاسرة خاضتها شعوبنا العربية في العراق وسوريا، وأمام دماء تراق على الشوارع وفي الطرقات لأناس أبرياء، وأمام مناظر لجثث تارة متفحمة وتارة مقتولة بدم بارد، وأمام خطابات سياسية تُعلي من قيمة الحياة لكنها تفرض الموت، وأمام مناظر لمدن كانت مفعمة بالحياة والجمال والفرح والمحبة صارت عبارة عن مقابر وبيوت منكوبة يصعب فيها وجود معنى حقيقي للإنسانية أو للحياة، تعترف الزوجة أنها لا تخاف الحرب بل تكرهها وأنه لم يصبح عندها متسع للمزيد من الخسائر، يخلص الزوجان إلى أن الأحزان التي أكلت منهما الكثير وأن جسديهما قد ابتليا بالوهن، لم يعد أمامهما إلا طريقين، يراه الزوج في ارتداء القميص العسكري والذهاب إلى الحرب، بينما تراه الزوجة في زرع الأمل وانتظار المطر أن يغسل أوجه البنايات من بقايا البارود.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/البطء-في-التعافي-من-الحرب