يرى المسرحي اللبناني البروفيسور جان داود المختص بالسينما والمسرح (الدراماتورجيا والإخراج)، ومؤسس المنهج الكلي منذ العام 1981م، ودُرِّسَ منهجه منذ ثمانينات القرن العشرين في قسم علم النفس بالجامعة اللبنانية، أنه بمشاهداته ومعايشته لمهرجان المسرح العُماني في دورته الثامنة ـ كونه حاضرًا ـ في برامجه، والذي أقامته وزارة الثقافة والرياضة والشباب في سبتمبر الماضي بمسقط، لمس زخمًا واعدًا وبنية وخططًا واستراتيجية تضع المسرحيين والمثقفين والأكاديميين أمام فرصة ذهبية للارتقاء بفنهم.
وقال البروفيسور جان داود: إن “المسرحيين في سلطنة عُمان أمام فرص لمتابعة بحثهم وتدربهم واختباراتهم في مخطط طليعي لإدارة المسرح والقائمين على المشروع (حلقات تدريب غير تقليدية، تكوين مكونين في التأليف، الدراماتورجيا، الإخراج، السينوغرافيا، تذوّق الفنون) انتقالًا بالمسرح إلى دوره في التربية الإبداعية، وتحصين الفرد ووعيه وإكسابه مناعة على المستوى النفسي، وتجاه البيئة، كما على مستوى المواطنة وبناء السلام، إلى جانب وظيفة المسرح الاحتفالية المجتمعية والتثقيفية، وهو أمر واعد إن رأيت كاتب النص في منافسة حتى مع نفسه، وكاتبات يفزن بجوائز على نصوصهن”.
وحول اطلاعه على حضور الهوية الثقافية والفكريّة في الفعل المسرحي بسلطنة عُمان يوضح داود: “مسألة الهوية تفترض منا الكلام بإسهاب على مفهومها والنظرة إليها، خاصة وأننا على حافة هاوية إلغاء هويّات قادم بما يحمل من تهديد، أما بشأن النص المسرحي في سلطنة عُمان فيمكنني الكلام أنه على مقاربات مُتعمّقة ملتزمة بقضايا الإنسان والإنسانية، والتُراث العُماني حاضر في النص المكتوب كما في العرض”.
ويضيف: “عرفت المزيد عن النص المسرحي في سلطنة عُمان، عبر أطروحة جامعية للدكتورة رحيمة الجابرية، في الجامعة اللبنانية، حيث تؤكد وصول المسرحيين العُمانيين إلى تحديث ينطلق من القضايا المحلية ومحاولات ذات طابع واقعي ورمزي وملحمي، ونلاحظ بوضوح ارتقاءً سريعا من تجربة المسرح في المدرسة في سبعينات القرن العشرين، إلى تجارب مسرح الشباب في الثمانينات والدور الريادي لكل من عبد الكريم بن جواد ومحمد سعيد الشنفري، إلى تجارب التسعينات واختصاص المسرح في جامعة السلطان قابوس، ووفورة النصوص بتنوعها، وحضور للمرأة في الحركة المسرحية مع رحيمة الجابرية وبدرية البلوشية وآمنة الربيع”.
ويشير بقوله: “التنويه واجب بدور مهم قامت به المؤسسة الرسمية بإيفاد من تخصص في المسرح، ودعمت المهرجانات، وأقامت قسما للمسرح، بالإضافة إلى وجود الأوبرا السلطانية مسقط، مرورًا بالمشروع الفكري الثقافي الاستثنائي، مجمع عُمان الثقافي، الذي سيضم بلا شك المسرح الوطني، مقرونا بدعم مفتوح، يُذكّر بدعم الفنون في أزمنة ملوك ساهموا عبر دعمهم بصناعة ثقافة وحضارة وهوية ثقافية في أوروبا النهضة، ومما يعِد بحركة ناهضة عرفنا مثلها في ستينات القرن العشرين في لبنان عندما كانت بيروت أجمل رابع مدينة للعيش في العالم، وعندما استقطبت مهرجانات بعلبك ومسارح لبنان حركة عالمية في مجال المسرح والموسيقى والرقص والغناء، وكانت قلعة بعلبك محطة يفتخر الفنان (عالمي أو محلي) أن يقدّم عرضا أو عملا بين هياكلها مثريًا سيرته الذاتية”.
وعن روح المسرح المتوقدة في مخيلة مُريديه، وكيف استطاع هذا المسرح في بلادنا العربية مواكبة حكاياتنا وأفكارنا وثقافتنا وتطلعاتنا يقول داود: “غالبا ما يشعر إنسان بأنّ هناك أمرًا ينقصه من دون أن يعي ما هو، وغالبا ما تشعر أنّ أمرًا يجذبك ولا تعرف لماذا، وقد تنتهي إلى هذا الأمر، أو الشيء، بلعب أو بحث أو صدفة وتستجلي صورته وتعي خلفيته وماهيته، مدفوعا ببحث أو بإحساس بالحاجة أو غير ذلك، انتهى الإنسان إلى احتفاليات وطقوس، وارتقى إلى تأطير جديد لتلك الاحتفاليات والطقوس فكانت نصوص وعروض، وتنوّعت أشكالها مدفوعة بهَمٍّ ماورائي حينا، أو بمتعة الاحتفالية وطاقتها حينا آخر، أو بدافع من الطاقة الحيوية الباحثة والدافعة بالإنسان إلى جوهر كينونته وسببيتها حيث في أركان الكينونة هَمٌّ جماليّ أو غير ذلك، لكنّي أربط وأريد أن يكون الدافع إلى المسرح في احتفاليته وكينونته، المسألة الجمالية، من هُنا تحديدي للممثل إنه الإنسان الباحث عن مُطلَقه وجوهر كينونته، ومن هُنا تحديدي للمسرح بأنّه حال بحث فلسفية بالجسد والروح، بالفرد والجماعة، وبكليّة الإنسان، عبر منصّة: هي الاحتفال المسرحي وفضاءاته ونصوصه ومسارات التكوين”.
ويضيف المسرح كما أراه في كتابي: “في ماهية المسرح”، ضرورة وحتمية وسيأخذ شكله انطلاقا من ارتقاء الوعي ومنتهياته، فيبات من معايير الرقي والحضارة والتطلعات وجوهر وماهية الدولة نفسها، إننا كشعوب في هذه المنطقة عرفنا المسرح في احتفالياته التي هي أصل من أصوله، قبل الإغريق أنفسهم، فكانت في لبنان احتفاليات البعل، والخصب، كما أن هناك بعض الملاحم تحمل في “الديداسكاليا” توجيهات للمؤدين، واحتفالات ديونزوس التي سبقت ظهور المسرح في اليونان القديمة هي فينيقية في الأساس، نثبت ذلك في كتابنا “بيت المشهديات”.
ويوضح: “هذه الاحتفاليات لم تتطور إلى شكل مسرحي في منطقتنا، في حين تطوّرت في أثينا الديمقراطية وفي زمن الفلسفة اليونانية إلى أشكال مسرحية مع سوفوكل، أسخيلوس، يوريبدوس، أرسطوفان، وسواهم، أما المعوِّق لتطوّر المشهديات والاحتفاليات والطقوس إلى مسرح بمفهوم وشكل المسرحية اليونانية فكان انشغال شعوب المنطقة بغريزة البقاء في مواجهة العنف والحروب التي أتت من مستعمرين وغزاة، نذكر من تلك الحروب غزو الاسكندر المقدوني الذي بلغ مصر وأسس مدينة الإسكندرية، والغزو الروماني، وحروب الإفرنج، والفتح العثماني، الذي استمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى”.
ويبيّن: “كنا كشعب في فينيقيا في أصل الاحتفاليات التي نقلت الاحتفالات الديونوزية إلى اليونان، ولكننا تحولنا إلى شعب ينقل المسرح من أوروبا مع مارون النقاش في مسرحية “البخيل” في العام 1847 (ومدرسة عين ورقة في لبنان) لتأخذ حركة المسرح حيّزًا واهتمامًا في المدارس، وتنشأ الفرق المسرحية، وتنتشر في مصر وسوريا، ويأخذ المسرح مكانة مهمة في العالم العربي، وتنشأ إلى جانب الحركة المسرحية معاهد لتدريس المسرح، إن انتقالنا من شعوب تنقل المسرح إلى شعوب تصنع مسرحها، وتذهب إلى التأسيس لدور جديد وعميق للمسرح نفرض عبره شراكتنا في رسم معالم إنسان المستقبل وحضارته”.
وحول منهج دور المسرح في بناء إنسان المستقبل، يتحدث المسرحي اللبناني الأستاذ الدكتور جان داود عن هذا المنهج وأدوات عمل المسرح في هذا البناء فيؤكد: “رأيتني بدافع عميق معنيًّا بالمسرح في جوهره، فقاربته في مرحلة أولى كمنصة تحمل قضايا أردت الدفاع عنها، ثمّ كمسار ارتقائي بالذات الإنسانية، ومن منطلق كلّية الكينونة، وأتى تحديدي للممثل بأنّه الباحث عن مطلقه الممكن، ورأيت أنّ كلّ إنسان مبدع ما لم تقضِ ترسّبات أو تراكمات على المبدع في ذاته، وهذه الترسبات والتراكمات غالبا ما تبدأ في الطفولة، فرأيت ضرورة استصفاء الذات كمدخل للبحث عن هذا المبدأ، واشتققت لمنهجي بداية اسم المنهج الصوفي (في اشتقاق مخالف لقواعد اللغة من الصفاء)، والصوفية هذه هي الصوفية الفنّيّة والمدنيّة؛ إنّها صفاء الذات والسمو بها، وصفاء الوعي واستصفاء اللاوعي، في نبل الغاية من الفن، هي صوفيّة مدخل إلى صفاء المقاربة والنتاج في مختبر الدراماتورجيا والتمثيل والنصوص، حيث أسست لمفاهيم تتخطى استهلاكيةً دارَ المسرح في فلكها لأزمنة، وامتدّ بحثي ومنهجي من تكوين الممثل والمخرج والدراماتورج، إلى تكوين المبدع (أبعاد تربوية)، وإلى تكوين النفساني (وهُنا فتح على مستوى علم النفس بدأته في العام 1981). استمريتُ بمنهجي تطويرا وثمارا على مدى أكثر من أربعين عامًا من العمل بحثًا ومكتشفات وتدريبًا ونتاجًا فنّيًّا”.
وفي السياق ذاته يشير داود بقوله: من أركان المنهج: الجسد، الصفاء المدرحي، دراماتورجيا المشاعر، الارتقاء بالوعي، ومن سبل الارتقاء بالذات وبناء الجهوزية، الصفاء، المرونة، الإبداعية، والارتقاء بالوعي، يطول الكلام في منهجي وفلسفته واكتشافات واختبارات أثرته، وقد تمّت دراسته والكتابة عنه في أكثر من كتاب وأطروحات دكتوراه، ومؤتمرات وندوات علمية، أكّدَت جميعاً فاعليته العميقة وأصالته، أكان في تكوين الممثل والسعي به نحو مطلقه الممكن، أو في الارتقاء بالحركة المسرحية أكاديميّاً ومحترفيّاً، أو في دوره في النهوض الإنساني والمجتمعي وبناء السلام، أو في مجال التربية الإبداعية، وبشكل خاص في كونه منهج يبني النهوض المستدام ويحصّن ضد الهشاشة النفسية ويؤمّن أفضل السبل لعمل المعالجين النفسييّن”.
يرى داود أن المسرح يحمي ويرمّم باستمرار الصلة بين الإنسان وجانبه المهدّد بالانحسار والضمور في ظل مع التطور التكنولوجي، هنا يوضح هذا السياق ويبيّن ما يمليه علينا الذكاء الاصطناعي بتجلياته وتوجهاته وهو يشق طريقه بعمق نحو الفنون بشتى أنواعها ويقول: “رغم التقدّم العلمي الهائل أفترض أنّ حاسوبًا عملاقاً لن يتمكّن من محاكاة اللاوعي في لامنتهاه، وأن التلاعب به ممكن، وهُنا مخاطر مستقبلية، فوعيُنا محدود جدًّا أمام اللاوعي مهما نمت المعرفة، وفرص إدراك اللاوعي قائمة بالبصيرة وليس بالعقل وحده، وأفترض أنّ دماغ الإنسان رغم أهميته محدود، والركون إليه في الإطار المعرفي والإبداعي محدود النتاج. وحصننا المنيع في مواجهة مخاطر التكنولوجيا وتحصين اللاوعي واستصفاء الوعي والذات هي البصيرة، فأغلب طلابي العاملين في تدريب الممثل، يستخدمون منهجي وقد اختبروه بشكل حيوي وميداني لأشهر أو سنوات، وتراهم يعملون بموجبه بشكل مسؤول ويحققون نتائج رائعة، وعندما تطرح عليهم السؤال عن آلية عمل المنهج أو تسألهم إجابة علمية بشأنه عقلوا المنهج بشكل لا واع، عقلوه بالبصيرة، والجسد، والمشاعر بالإدراك خفي، انطبع فيهم من خلال التجربة حيث التكوين قائم بالجسد وعقله، وباللعب، وبناء الإبداعية”.
ويضيف موضحا: “في بحثي عن صفاء المتدرّبين، أحاول عبر اللعب إقصاء العقل بحثا عن الطفل المبدع تحريرا له لينمو بصفاء في بحثه عن مطلقه الإنساني وما بعد الإنساني. وتأتي في منهجي مرحلة تكوين العقل بالنسبة للممثل (الإنسان الباحث عن مطلقه) ما بعد اللعب والفن والإبداعية، وتتمّ في شق رئيس منها عبر تكوين البصيرة والجسد”.
ويتنبأ بالقول: “الواقع الجديد الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي، سيؤدي بشكل ما إلى نتاجات فنية تغيب التجربة الإنسانية الحية عن خلفيتها، فنكون أمام فنّ مُعلّب مُستنسخ، يحرم المسرحي والمتلقي من الغنى الكائن بالجسد وعبره، ومن ارتباطه بالجسد واللاوعي، ومن الحفاظ على الصحة النفسية، وسيكبح أو يصيب المخيلة بكسل وترهل، فتبرز الحاجة إلى المسرح بما يحققه في بناء إنسان المستقبل، إنّه سيحمي خصوصية الإنسان في عمق ماهيته وكينونته، ويصون علاقته بذاته بعمق هذه الذات، وفرادتها، وخصوصيتها، وقدرتها بالتالي على صون ذاتها من الأخطار، وصون وبناء الإنسان في مجتمعها”.
وفي شأن ماهية الفلسفة وارتباطها بالمسرح، ماذا أخذت منه وماذا أعطاها هو الآخر، وأدوات التقاطع بينهما يقول داود: “أطرح هذا الموضوع بإسهاب في كتابي “في ماهية المسرح”، فمن الكلام على التداخل بين المنطق والغريزة الفنيّة، يتفرّع كلام على العلاقة والتداخل بين المسرح والفلسفة، باعتبار أنّ الفلسفة قائمة في جانب منها على المنطق، وباعتبار أنّ الفلسفة تسعى إلى إثبات حقائق ونقض أُخرى استخلاصاً للحقيقة، فالمسرح بدوره وبمنطق خاصّ بكلّ حالة وبكلّ كائنٍ فنّيّ، وبمنطق له خصوصيّات كينونته، يسعى إلى الجوهر، إلى ملامسته، إلى صدم الواقع، إلى تعرية الحقيقة من كلّ زغل، وهو يحمل في تداخله مع الفلسفة، والى الفلسفة نفسها، أكثر من فرصة حياة وأكثر من دلالة وأكثر من بساطة وأكثر من إثبات وأكثر من بُعد، عبر الكائن الفنّي وأو عبر مكوّنات المسرح. وأفترض أنّ البحث عن الحقيقة عبر المسرح هو شكل من أشكال الفلسفة “الحية”، التي يمكن أن تولد عنها مباشرةٌ محسوسة ليست من المباشرة الوعظية القاتلة”.
ويوضح أن: “تكوين الممثل، وإدارة الممثل، ودراماتورجيا الممثل، وكتابة النص، مدفوعة بِهَمٍّ فلسفي، كما أنّ بناء العرض لن يحقّق غايته إن غابت عنه الفلسفة، وتكوين الممثل جزء جوهري في العمل بالمسرح، فيه يكتشف المتدرب ذاته ويبني وعيه وأدواته وعقل الدراماتورج، كما يكتسب القدرة على التواصل العميق مع مشاعره وأفكاره، ما يعزز إبداعه ويرقى به ويطوّر ذاته، ولا تكوين ممثل من دون فلسفة للقائم بالتكوين، التكوين يُمكّن الأفراد من اكتشاف أنفسهم وتطوير إبداعيتهم، فيبني باحثا فيلسوفاً”
ويصف داود منهجه قائلا: “منطلقات عملي في تكوين منهجي عمل فلسفي بحد نفسه، وعندما طرحت الأسئلة عن ماهية الممثل وماهية المسرح وأوجدت السبل والأدوات لتحقيق الصفاء وبناء عقل الدراماتورج ليبني المشهد بصفاء وكوّنت الممثل والمعالج النفسي والمربي المبدع، فكلّ ذاك مدفوع بأسئلة فلسفية، استخدام اللعب وفهم الروابط بين الجسدي والنفسي عمل فلسفي، طرح أية قضية لعلاجها في نص مسرحي وطُرُق المعالجة عمل فلسفي، كذلك هي مناهضة العنف وتعزيز العدالة الاجتماعية والسلام بالمسرح”.
ويشير: “أرى المسرح خط الدفاع الأول في حماية إنسانية الإنسان في زمن الرقمنة والمادية المتزايدة، قولي بتكوين الإنسان المبدع عبر المسرح موقف فلسفي واقعي ومثالي، إنّه موقف فلسفي أيضا، ووجب ألا يكون آنئذ فقط أداة ثقافية، بل أيضًا مختبرا للوعي والحماية من طغيان التكنولوجيا التي قد تهدد البعد الإنساني في حياة وكرامة البشر، ولا يقتصر كلامي على حماية الكرامة الإنسانية وتعزيز القيم الإنسانية في عالم متغيّر إنّما أُشير إلى خطر وجودي بنيوي مؤكّد على المدى المتوسط والبعيد”.
وحول ما يجده “داود” في شأن أن الممثل هو الفيلسوف بالجسد والروح، وهو حي بهما والمتمكن من دراماتورجيا الجسد والروح أو ما يشار إليها بـ (الوظيفة الأيديولوجية)”.
وهنا يوضح: “لطالما كان الجسد أسير الأيديولوجيا، وما زال أسيرا لها في أكثر من مقاربة ومفهوم، بات علينا كباحثين أن نبني الإيديولجيا بالجسد: الممثل الذي أعمل على تكوينه بمعنى الباحث عن مطلقه، وبما يجب أن يكونه كلّ ممثل: الممثل-الدراماتورج (بمفهومي) يؤكد مقولتي: الجسد هو أصل الفلسفة. فللجسد وعيه، وطاقته، ولاوعيه، ورغبته في تخطي المحدود حتى إن بقي محدودا، والمسرح عمل وتعبير فلسفي ممكن بالجسد كما بالكلمة، وبين المسرح والفلسفة تداخل وجودي عضوي. وإن كان من سخط أو رفض أو عجز عن إدراك أو نظرة مشوَّهة أو مشوِّهة فذاك يُشكّل الخطأ الذي يقود إلى الصواب”.
ويضيف: “أسئلة المسرح والمسرحي وعقلهما مهد للفلسفة، ومن دون بُعد فلسفي كلّ مسرحية أو مسرح لن يكون نفسه، وأُعمّم طرحي وأقول بضرورة الفلسفة حتى في تكوين الممثل-الدراماتورج القادر على التجديد بفلسفة الجسد والروح معا، وبالتالي إنّ معركة الفلسفة تحريرُ العقل، وكم من معارك في الفلسفة محكومة بعقول غير صافية وبقلوب غير صافية، تلك جذور في مأساة البشر وحركة الإنسانية، من هُنا ضرورة المسرح، وبرأيي لا تحرير للعقل إن لا نحرر الجسد حتى الصفاء، الجسد فاعل في صفاء الوعي نفسه، وهو شريك في بناء الفلسفة: جسد متألم سيحملك إلى فكر وفلسفة ما، وهو الطريق بالمشاعر إلى بناء تلك الفلسفة، أما المسار فمفتوح في الاتجاه المعكوس في دراماتورجيا الممثل”.
ويوضح: “لعلّ البحث في الجسد وبه من أبرز وأهمّ المداخل إلى الارتقاء بالوعي عبر الفنّ حيث خارطة الطريق: من الجسد، إلى العقل، إلى الوعي (أو من الجسدي إلى الذهني والعقلي، ومن الذهني والعقلي إلى وعي ارتقائي ما فوق وجودي)؛ وهذا ما بدأ علم الأعصاب بالتطرق إليه، بالتالي، ما الجسد فقط ذاك الكيان المادي الظاهر بوظائفه البيولوجية، ولعلّ البصيرة – وهي أرقى من العقل الحسابي – قائمة في الجسد غير المادّي، وفيه عصب الحياة والمشاعر والإرادة. وإن نحصر الجسد بالكينونة المادية نكون كمن يريده جثة متحركة أو روبوتا من مادة حية، حتى روبوتات المستقبل عندما ستتمكن من امتلاك المشاعر لن تقبل بأن تكون مجرد روبوتات”.
ويختتم حديثه بقوله: “الممثل فيلسوف بالجسد، طرح قد يبدو معقدًا ولكنه بمنتهى البساطة أيضًا، ويعكس في عمقه ربطي للجسد بالعقل والبصيرة وبالوعي واللاوعي، وبمسألة التفكير والتصور وحتى التخيل والإبداعية، ومن أجل إدراك عميق وشراكة في مقاربة هذا المفهوم، تظهر أهمية تحليل العلاقة بين الفلسفة – التي تهتم بالتفكير، التأمل، واكتشاف المعاني – وجسد الممثل كأداة بحث وتوليد لمضامين وأشكال التعبير عن الأفكار والمشاعر. وقد أذهب إلى القول إنّ العقل (عبر الدماغ) يرصد ما يستولده الجسد، فيكون الجسد أساس الحراك الفلسفي، والممثل فيلسوف بالجسد، لأنّه يستخدم جسده كما يستخدم الفيلسوف عقله؛ لاستكشاف معنى الحياة والوجود والتعبير عنهما، الجسد يصبح وسيلة للتفكير والتعبير عن الأفكار والمشاعر بعمق، ويطرح الأسئلة الكبرى حول الحياة والوجود من خلال التجسيد الحركي والتفاعل مع العالم، وكم من مرّة أثبتنا ذلك في التكوين كما في بناء الدور، وكان الجسد لنا مفتاح مسار جديد في أكثر من جانب، إنّه وسيلة لفهم الذات والعالم من خلال التجربة المباشرة، والممثل يعبِّر عن أفكار معقدة ومشاعر عميقة من خلال جسده، ويستخدم جسده لفهم هذه الأفكار من الداخل، فيصبح الجسد شريكاً في عملية التفكير الفلسفي، وجسد الممثل ليس مجرّد كتلة مادّية تنفّذ تعليمات، إنّما هو شريك في التأمل والبحث وصناعة المعنى تعبيراً عن التجربة الإنسانية. وهو ينتهي إلى حكمة خاصة يكتسبها من التفاعل مع العالم المادي والشعوري، ويتفاعل مع المفاهيم والتجارب، ويرصد الكينونة ويعقلها وهو يبني الفعل ويأتي بردود الفعل، إنّه فلسفة وطريق إلى الفلسفة، وفي عدم حصر دور الجسد في شقه المادي ارتقاء بمفهوم الكينونة والحياة. جسد الممثل يصبح فيلسوفاً بذاته، لأنه يشارك في البحث عن المعنى ويشارك في بناء الجمل، ويقدمّ منظوراً مميزاً للوجود من خلال حيويته وحريته وجماليته وتجاربه الحسية”.