انطباعات أشادت بجناح سلطنة عمان
كانت الفنانة عالية الفارسية –القيمة على جناح سلطنة عمان في بينالي البندقية- تحتسي القهوة في مقهى رواقها في الرسيل حين طرقت مفردة “ملاذ” على بالها. وبذلت ما تستطيع من جهد بصحبة الفنان عيسى المفرجي وعلي الجابري وأدهم الفارسي وسارة العولقية لتعكس المفردة عبر أعمالهم المتنوعة شيئا مميزا من عُمان كونها الملاذ الآمن للعديد من الحضارات بما يتلاءم مع الثيمة العامة للبينالي “الأجانب في كل مكان”. وتصف المفردة شيئين: الأول شعور الإنسان بالغربة وبحثه الدائم عن ملاذ، والثاني دور سلطنة عمان تاريخيا كقبلة للمهاجرين والبحارة والتجار والرحالة حول العالم. فكان الجناح بفنانيه الخمسة وأعمالهم الرائعة محط أنظار الزائرين في البندقية والذي استطاعوا عبر الفن الذي عكس المفردة أن يتعرفوا على عُمان عبر اللمس والشم كما فعلت أعمال الفنان النحات علي الجابري، ورأوا انعكاسهم في المرايا والمدينة تتمدد لتسع الجميع كما فعلت أعمال الفنانة عالية الفارسية، واقتربوا من السلاحف كرمز للغرباء كما فعلت أعمال الفنان أدهم الفارسي، وعاشوا التنوع والاختلاف الثقافي من خلال ما أبرزته أعمال الفنان عيسى المفرجي، ومن خلال عمل سارة العولقية استشعر الزوار الإشارات الرمزية وما هو غير مرئي.
مدينة للغرباء
استوحت الفنانة عالية الفارسية عملها في بينالي من المدن العالمية التي تبنى بسبب المهاجرين، وتضم تعددا للثقافات وتنوعا في الملابس والطعام واللغات والمعمار، فاخترعت مدينة تسع الجميع من مختلف أنحاء العالم بمختلف أفكارهم ومعتقداتهم وميولهم الثقافية، ووضعت مرآة على أطراف الغرفة لتعطي بعدا لا نهائيا للعمل، وكأن المدينة تتمدد بزيادة عدد سكانها حسب وصف حسن اللواتي مدير الرواق فهي مدينة تتمدد وتحتوي الناس ولا تكتفي من البشر والثقافات بل تتسع للجميع. وسمت الفارسية العمل “أروقة عالية” المستوحى من رواق عالية الذي أقامته كملاذ لعشاق الفن. اتبعت الفنانة أسلوبها المتعارف عليه في في رسم المدن، فهي تحب استخدام قطع من الزي العماني والليسو والحلي والمجوهرات التقليدية مع دمج لبعض العناصر بما فيها الأكريلك والفحم حتى خرجت بهذه اللوحة.
يقول اللواتي إن التفاعل الذي شهده العمل كان جميلا، ولاحظنا حب الناس للتصوير بوجود المرايا وكان شيئا غير متوقع، فهم يصورون أنفسهم في المدينة وهذا ما أعطى انطباعا عن تفرد عُمان المعماري والثقافي.
مصير الغرباء
حاول أدهم الفارسي في فكرة عمله أن يخرج عن المألوف عن طريق طرح مفاهيمي من خلال عمل في مجال فن الفيديو Video Art باستغلال السلاحف كرمز للتعبير عن الغرباء في هذا العمل وعناصر تركيبية مكملة في المساحة المخصصة لعمله الذي حمل عنوان “مصير الغرباء”.
يشير الفارسي إلى أن عمله استغرق من ٥ إلى ٦ أشهر تقريبا بما في ذلك من اجتماعات الفريق لمناقشة التوقعات وأهداف المشاركة.
استخدم الفارسي شاشتين أساسيتين لعرض مشاهد الفيديو الخاص بعمله الفني كما تم استخدام عناصر مساندة لفكرة العرض مثل خامات مختلفة للأعمال المجهزة في الفراغ وكلمة بالحروف العربية “الغريب” بإضاءة النيون تأكيدا للاعتزاز باللغة العربية بالإضافة إلى إضاءات خاصة لتأثير الماء على الأرضية ومرساة حديدية ورمل البحر تم وضعه في منطقة بها منطقة دخول مياه البندقية من أسفلها كونها مرسى صغير لدخول زوار المبنى من خلال القناة البحرية. ومن ناحية أخرى تم طباعة بعض العناصر على مادة الفوريكس كرمز جلد السلاحف في مدخل صالة العرض الخاصة بعمله. ولاكتمال المشهد وإضافة حاسة السمع ضمن التجربة تم استخدام نظام سمعي يغطي المساحة المخصصة لعملي، وذلك لتوزيع الصوت المصاحب لعمل الفيديو من عدة جهات بجودة عالية مناسبة للعرض وكل ذلك تم توصيله بنظام تشغيل متكامل لتكرار التشغيل طوال فترة العرض تلقائيا التي تستمر حتى نوفمبر.
يحكي الفارسي خلال عمله بشكل مختصر رحلة السلحفاة (رمز الغريب) ومصير عدد منها (البعض ينتهي به الأمر إلى الحياة الآمنة في أعماق البحر والتعايش بين مختلف المخلوقات، وتم تمثيلها بمشاهد من أعماق البحر تم التقاطها في جزر الديمانيات والبعض الآخر ينتهي به الأمر إلى المصير المأساوي عندما تخطئ في اختيار الوجهة الصحيحة باتجاه الأضواء المزيفة وبالتالي تضل بعضها الطريق وتفقد العديد من صغارها (أسرة المستقبل) في السواحل نتيجة هجوم الثعالب ونورس البحر وغيرها من المخاطر التي تعتبر أعداء لتلك السلاحف وتم التقاط المشاهد لهذا الجزء في رأس الحد ورأس الجنز والتي تمثلت بمشاهد عظام السلاحف وصغارها. وقال: “من هذه الرمزية أردت أن أربط رحلة السلاحف بتجارب بعض البشر فهنالك بشر يمرون بتجارب شبيهة بقصة هذه السلاحف في هذه الحياة من اختيارات صحيحة تؤدي إلى نتائج إيجابية واختيارات البعض الخاطئة التي تؤدي إلى نتائج سلبية”.
وأشار الفارسي إلى أن عمل الفيديو الذي شارك به لاقى تقبلا “كبيرا” من الجمهور في الأيام الأولى أثناء وجودهم وتفاعلهم مع الجمهور. وأضاف: “عرض فكرة العمل بطريقة مغايرة عن المألوف بالإضافة إلى عرض مشاهد من بيئة عُمان الساحرة بجمالها سواء من الجو والشواطئ وأعماق البحار والذي يعتبر بحد ذاته ترويجا للسياحة في سلطنة عمان جعل عددا من الزوار متلهفين لزيارة السلطنة بعد مشاهدة العمل”.
المعلق في فراغ المكان
“مدد” هو عنوان العمل التركيبي المجهز في الفراغ متعدد الوسائط بمواد مختلفة بالإضافة الإضاءة والصوت الذي عمل عليه الفنان عيسى المفرجي. والذي جاء بشكل معاصر بسيط وعميق أسطواني الشكل من عدة أجزاء معلق في فراغ المكان بإضاءة خاصة للعمل وبلون أزرق ومنحوت بشكل طبقات وبارز من الخارج بالخط العربي بكلمات من القرآن والحكم والشعر التي تعبر عن التنوع والاختلاف الثقافي والتعايش وبداخل العمل صوت الريح والإضاءة والغيوم والآذان، وكما يصف المفرجي يمكن للمشاهد التحرك بين أجزاء العمل ليستشعر فكرة العمل ويكون جزءا منه ليشعر بالترابط والتعايش الإنساني الذي يحفظ استمرارية الإنسان. وقال: “أحاول عبر العمل إدخال المتلقي للإبحار والتأمل لذلك الملاذ الذي يبحث عنه واستشعاره وتجربة الخوض بين تفاصيل العمل من جميع الجوانب وكيف لصوت الريح أن يلامس إحساس كل متلق والاتصال بهذه الحاسة مع الآخر”. وأضاف: “طريقة عرض العمل وإخراجه بالمساحة الموجودة سهلت للمتلقي التحرك والتأمل في العمل بشكل سلس تشعره بقرب العمل منه”.
ذاكرة الرائحة
اختار الفنان والنحات الدكتور علي الجابري تتبع قضية المهاجرين والمرتحلين، وقال: “أعتقد أن هناك سببين للهجرة، إما هربا من واقع أو بحثا عن مستقبل أكثر إشراقا، وفي الحالتين المهاجرون على مر العصور كانوا يبحثون عن الماء وهو النقطة الجامعة بل ويبحثون عن طالعهم في مصادر المياه وانعكاس وجوههم في صفحة الماء، وأعتقد أن رؤية الماء يتشكل معه انطباع وقرار البقاء من عدمه في المكان”.
وأضاف: “اخترت الطالع من خلال الماء وحاولت توظيف التقنيات المختلفة التي تطورت مع اشتغالي على الرخام. استخدمت 5 أنواع من الرخام العماني من محافظات مختلفة تمثل الاختلاف في الرخام كرمز عن اختلاف الناس من مختلف الأقطار الذين قد يجمعهم مكان واحد، ويجمعهم أصلهم وهو الطين مثل ما هو الحجر والرخام مهما اختلف تبقى مرجعيته الأرض”.
وحول ما استخدمه في العمل قال: “الرخام الذي استخدمته مطعم بخشب من الداخل، والخشب ارتبط مع الرخام في علاقة حميمية ما بين متناقضين في قلبه تفريغ طبيعي بسبب التضاريس والتعرية والحشرات التي تأكل الخشب ولكنها تترك تجاويف غير عادية وذات قيمة فنية ووضعت في قلب هذه التجاويف انعكاسات مختلفة تمثل الماء، وكنت أهدف من خلاله إلى الطالع فمن ينظر إلى هذه التجاويف يرى الماء وانعكاس وجهه ومرة يرى ماء داكنا ومرة ترابا، وأضفت إليه رائحة الهيل، لأن المهاجرين يأخذون من بلدانهم البهار والرائحة التي تبقى في ذاكرته وهو يرتحل، فلكل مكان رائحة ولكل مكان عطر ولذلك أحببت توظيف الرائحة واللمس في أعمالي”.
وحول تفاعل الزوار مع أعماله قال: “طالما يخاطب العمل حواسا مختلفة لا بد أن يستثير فضول المتلقي لينظر ما بالتجويف، فالتجويف يشدهم ويستدرجهم لرؤية الأعمال والقطع الأخرى ويستمتع بالمفاجآت في كل قطعة. والأشكال الأسطوانية التي أخذتها من الآبار كانت تثير فضول المتلقين وتشكل لهم صدمة ويخوضوا تجربة مختلفة بشكل متكامل، مشغلا حواسهم الخمس، وكل من اقترب من أعمالي أثارت فيه الذاكرة المرتبطة بالماء والمكان والزمان، فتركت خطاب الحواس تجربة متكاملة وانطباعا جيدا استطاع خلالها الانتقال من قطعة إلى قطعة. وأضاف: “الرخام العماني كان ذا تأثير كبير، الزوار لم يكونوا يعرفوا عن التنوع والاختلاف في الرخام وهذا أضاف قيمة عالية لركني في الجناح استطعت خلاله نقل الرخام من عُمان إلى البندقية وقدمته بطريقة بسيطة مزاوجا بين الرخام والخشب ناقلا العلاقة الحميمية بين الاثنين بطريقة مختلفة ومدروسة.
تمثيل ما هو غير مرئي
قالت الفنانة سارة العولقية إن فكرة عملها تمثلت في تمثيل وتكريم ما هو غير مرئي. وقالت: “نظرًا لأن العنوان كان “الغرباء في كل مكان”، أردت أن أقدم لهم لمحة عن ثقافتنا باستخدام إشارات رمزية لتوضيح معنى عالمي”.
وأضافت: “ما يلهم عملي هو ما أشعر به حاليا، أعتقد أن الفنان يجب أن يعكس دائما الزمن الذي يعيش فيه وهذا اقتباس مشهور. على سبيل المثال، لم يكن البرقع تمثيلا لنا في عُمان فحسب، بل لكل امرأة، خاصة في فلسطين واليمن وسوريا وفي جميع أنحاء العالم العربي وخارجه. إنه قوة ودرع يجب على النساء ارتداؤه بشكل غير مرئي لتحمل الكثير”.
وأضافت: في العمل الخاص بي صُنِعَ من الفولاذ المقاوم للصدأ بنسبة 100%، مع 4000 ملعقة من سوق مطرح تم لحامها يدويا واحدة تلو الأخرى، وتناولت كلمة “ملاذ” في عملي من خلال إظهار العديد من جوانب الاختلاف والتعدد في عُمان. كان والداي أجنبيين ولدا في دول مختلفة، لكنهما اختارا جعل عُمان موطنهما وتأسيس أسرتهما هنا. بالنسبة لي، هي كل ما أعرفه كمنزل، وعندما أسافر، فإن كل شيء في عُمان متجذر في نموي، لقد كانت ملاذا لي ولأطفالي”.
وأضافت: “أنا ممتنة لله لهذه التجربة الرائعة، حيث تمكنت من تحويل فكرة غير ملموسة إلى واقع ملموس. وجودي في هذا العمل الفني في البندقية كان مذهلا بالنسبة لي، كانت لحظاتي المفضلة هي مشاهدة التعابير وردود الفعل من الجمهور عند دخولهم إلى الفضاء، كان ذلك مرضيا لي كفنانة، ما زلت أتلقى الكثير من الحب والثناء على هذا العمل. وبالنسبة لي، يؤثر فيّ رؤية ما أثر في الكثيرين، وآمل أن يستمر في التأثير وأن تتم مشاركته ورؤيته من قبل أكبر عدد ممكن من الناس حول العالم”.