لماذا الجدل الطويل على الشكل الشعري ؟

تحقيق- شذى البلوشية
بين موسيقى قافية العمودية ورمزية الأبيات النثرية..

د.إسحاق الخنجري: ” على الشاعر أن يتخلى عن سطوة القالب الشعري ويذيب الشكل في وطأة حضور اللغة الهامسة و المتحركة”

عبدالله الكعبي: “الشعر عالم خلاق وصانع الاختلافات.. وكلما احتدم العراك فإن التجديد يعلو في النص”

سلطان المعمري: “الشعر النثر ما هو إلا الشكل الآخر من الشعر العموديّ”

عبدالله السليمي: ” شكلي الشعر أشبه بعينين في مرآة الجمال الأدبي”

عثمان العميري: “الجدال نابع من ظن بعضهم أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين الشعر والنثر”

رغم الحرب الباردة بين قصيدة النثر والقصيدة العمودية، والجدل الكبير بين المنتصرين للقصيدة العمودية، والمتعصبين لقصيدة النثر.. من يرون العمودية أم الشعر وأساسه، وقصيدة النثر -بطوفان جمهورها- روح الشعر… من يوقن أن للقصيدة العمودية ضوابطها وقيودها، وقصيدة النثر أكثر تحررا، إلا أننا نعود لنتساءل دوما، حتى متى هذا الجدل الكبير، ألا يمكن أن يبقى مصير القصيدتين على اعتبار أن لكل منهما شعراءه وجمهوره، بلوغا لفكرة أنهما مكملتان لبعضهما؟

نفتش من خلال حديث الشعراء عن مهد هذه الحرب، ونخوض نقاشا معهم في مصير القصيدة العمودية في عمان.

احتدام الأشكال الشعرية

الدكتور إسحاق الخنجري يؤكد على استمرارية الجدل بين أشكال الشعر، وإن كان يخبو حينا أو يتلاشى، مشيرا إلى أن ذلك ما هو إلا رهين ثقافة وفكر وتجدد، وانغماس مع مرايا الحياة المختلفة، وليس مجرد اختيار ذاتي في البقاء على شكل معين للشعر، وأضاف الخنجري: “الشاعر يكتب وفق ما تمتلك روحه من هواجس و رؤى نحو الواقع والوجود، ومدى إدراك حداثة الأشياء وتغيرها عبر الزمن. لهذا ستظل الأشكال الشعرية جميعها في احتدام مستمر، فهي تمثل نمو الحياة وتطورها وفهمها وتباينها بين النمط التقليدي والحداثي.

وحقيقة أرى أننا لابد أن نتجاوز فكرة الشكل الشعري إلى فكرة عمق الشعر وبريقه المستمر، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا تخلى الشاعر عن سطوة القالب الشعري الذي يتبعه ويذهب إلى حرية اللغة وحساسيتها الشديدة؛ كي ينتج شعرا حيويا ومرنا في التداول والتلقي، ويتجرد من إحساسه أن الشعر يجب أن يؤطر في جدول ما سواء العمودي أو غيره، فالشعر الخلاق تجاوز كل ذلك، فهو نوع من الفناء في الطاقات السحرية للغة على حد تعبير إدجار آلان بو وهذا يجعلنا نتأمل الفاصل الحقيقي بين الشعر والنثر وهو مقدار هسهسة اللغة وكثافتها لدرجة الوصول إلى صور حلمية رمزية لا يتطلب منا تفسيرها قدر ما نتماهى معها روحيا دون وعي؛ لأن الشعر لابد أن يقيم في المتخيل الخاص البعيد؛ ليعبر الزمن ولا يستقر، فهو ليس واقعيا تماما ولا تأريخيا تماما، ويتطلب منا دائما ملاحقته ومطاردة صوره الرمزية المتحركة؛ حتى نبتهج في ظلاله وننسجم معه”.

ويؤكد الخنجري أن أزمة تلقي قصيدة النثر تكمن في إشكاليتين: الأولى بنيوية ماثلة في عدم القدرة على الانسجام مع التناغم الصوتي الخارج عن مسارات العروض والتمازج مع فضاء اللغة التصويرية المختلفة، والأخرى معرفية تظهر في التوجس الكبير من الدخول في عوالم الحداثة ظنا أن الحداثة تسعى إلى هدم الأنساق الثقافية والاجتماعية وهي ضد الاستقرار الحياتي وهذا كلام غير صحيح مطلقا؛ لأن الحداثة هي الخروج عن التفكير النمطي المكرور للحياة والنظر إلى الأشياء برحابة وتأمل وانفتاح وتطور.

تطور القصيدة العمودية

في حين أنه يرى أن القصيدة العمودية تطورت كثيرا، فيقول: “القصيدة العمودية لدينا دخلت في عوالم متعددة وفسيحة أكثر من السابق وتسعى بفضاءاتها أن تتجاوز السياقات البيانية الخافتة التي تحد من جمال الشعر وبريقه وبالتأكيد مع مرور الوقت ستتسامى مع المتخيل الحداثي المختلف، وتشكل لها حضورها المماثل مع الأشكال الأخرى، بحيث لا يكون هناك فارق في الخطاب الشعري، وهذا ما يحدث مع شعراء رائعين استطاعوا إذابة الشكل في وطأة حضور اللغة الهامسة والمتحركة التي تعطي زهوا متقدا للشعر، وما يحز في النفس أن نرى بعض الشعراء يكتبون النص النثري أو التفعيلي بروح حداثية فاتنة ويتراجعون إلى روح جامدة وواهية حينما يكتبون النص العمودي، وهذا يحيل إلى عدم إدراك حداثة الشعر بكل صوره وحالاته”.

وما يجب الالتفات إليه في الكتابة الشعرية هو ترك الذات تحدس في الوجود دون محاولة ربطها بأي هاجس شكلي يؤطرها، و لا يتم ذلك ـ في حديث الدكتور إسحاق الخنجري ـ إلا بالتخلص من فكرة أن المتلقي لا يفهم أو أنه يريد نمطا معينا، فالفن بشكل عام يطارد الزمن وخارج جدران المكان، والواقع؛ حيث تتجلى قوته وعمقه وفتنته في قدرته على النفاذ من تقادم العصور.

ويدعو الخنجري الشعراء للإبحار في جماليات الشعر دون التوقف أمام الأشكال فيقول: “على الشاعر ألا يكون رهين شكل ما طوال حياته، متوهما أن الأشكال الأخرى لا تقدم شعرا، وليس لها حضور في التلقي لدى المجتمع، وأحيانا يتوهم الخصومة والعداء من الآخرين الذين لا يشبهون هاجسه الشعري، فعليه أن يتحرر من كل هذه الأفكار الجامدة التي تمنعه من اكتشاف أعماق الشعر الحقيقي، حيث الانكشاف على الوجود بكل تفاصيله”.

ظاهرة الاختلاف صحية

الشاعر عبدالله الكعبي يرى أن الجدل تلاشى اليوم وقال: إن الحقل الحجاجي بين قصيدة النثر والعمودية أشبع بحثا ونقاشات منذ لا يقل عن خمسين سنة أو أكثر، وما يحدث من عراك ليثبت أن الشكل هو الذي ينافس الآخر، وكانت تلك المعارك بين جمهور وجمهور ومبدع ومبدع، اليوم نستطيع أن نزعم أن الشكل تلاشى وتداخلت الفنون وعلت سلطة المعنى وما عاد للاختلاف بقاء.

فكم من قصيدة عمودية تحمل بداخلها حداثة كبيرة جدا تفوق القصائد النثرية وكم من نثرية تفوق عن أي قصيدة عمودية في جمال الموسيقى الداخلية.

كلما ظهر هذا العراك واحتدم يعني أن التجديد يعلو في النص”.

وحول واقع الشعر العماني بأشكاله قال الكعبي: “عمان تحوي بداخلها التسامح والتعايش لذا نرى أنه من الطبيعي أن تلد مبدعين على الصعيدين العمودي والحر.

وظاهر الاختلاف صحية بل حتى العراك… فهذا التعايش الجميل يخلق تنافسا في الإبداع.. ولا يمكن لنا رفض الماضي والابداع ولا الحاضر وابداعه”.

الشعر هو الفيصل

وحول الاختلاف في شكل الشعر قال الكعبي: إن الشعر عالم خلاق وصانع الاختلافات. على مر التاريخ بل حتى في الحضارات القديمة مثل اليونانية نجد إخراج الشعر من المدينة الفاضلة والبعض اعتبرهم أساس الفضيلة… وظهرت مدارس قبل التاريخ تناقش ما الشعر، وهل الوزن هو الفيصل فيه.

يحق للعموديين التشبث بمبادئهم ولكن لا بد من الانتباه أن الفيصل هو الشعر لا الشكل. فهناك فرق بين الشعر والنظم، وهذا ما انتبه له شعراء القصيدة العمودية في جيل الشباب وعرفوا أن القصيدة العمودية لها حس عصري وشرعوا يطورون من أصواتهم الشعرية مستفيدين من تجارب القصيدة النثرية، بل ربما يظن من يقرأ هذه النصوص الرائعة أنها أكثر حداثة من قصيدة النثر.

كما أن قصيدة النثر هي الأخرى دخلها تجديد كبير وجدنا اقترابها من الجمهور وذلك بوجود أدوات ابتكار أو أدوات خاصة في الاقتراب من المتلقي.

الاشتعال الحالي من الطرفين على ابتكار أدوات جديدة للتطور. وهذا يعني أن الاختلاف في النهاية أدى إلى اجتهاد وتطور”.

حديث شعراء الملتقى الأدبي والفني

ويبدو أن الشعراء المشاركين في الملتقى الأدبي والفني في دورته الخامسة والعشرين يجدون أن الشعر مهما تعددت أشكاله فهو ليس إلا حالة تعبيرية تخالج نفس الشاعر وتأخذه من شكل إلى آخر .. فالشاعر عبدالله السليمي يرى أن قصيدة النثر تتيح للشاعر مزيدا من الحرية وهو ما أكده من خلال الظهور اللافت لشعراء قصيدة النثر وتزايد عددهم، وعلل ذلك بقوله: “ربما لأن قصيدة النثر تفتح للشاعر المجال ليعبر كيفما يشاء، على عكس القصيدة العمودية التي ربما تقيّده وتقيّد فكرته على قافية ووزن، فيجد أن فكرته التي أراد إيصالها لم تخرج كما أراد، على عكس قصيدة النثر.

وفي اعتقادي أن قضايا مثل تراجع القصيدة العمودية أو بروز قصيدة النثر، ثم الجدل الواسع الذي أثاره ذلك لا يستحق أن يضخم إلى هذا الحد، فالشاعر له الحرية في الكتابة كيفما يشاء وحيثما يجد نفسه، فمن يفضّل العمودي فليكتب في العمودي، ومن يفضل كتابة قصيدة النثر فليكتب كذلك”.

وحول تجربته الشعرية يقول السليمي: “أنا أكتب القصيدة العمودية ولكني في الوقت ذاته مُحب لقصيدة النثر، وأُشبّه النوعين بعينين في مرآة الجمال الأدبي، وأنَّ كل نوع منهما يحمل سرّه وجماله، وكلاهما يفضي إلى الشِّعر بمعناه الأسمى الذي يتجاوز الجوانب الشكلية”.

ويضيف السليمي عن القصيدة العمودية ومستقبلها في عمان: “القصيدة العمودية في عمان باقية وسوف تبقى محافظة على وجودها في الساحة، فليس الأمر أن شكلا لا بدّ أن يزيح شكلا آخر ليتربع وحيدا في مضمار الكلمة، وفي الجيل الحالي أسماء مبشرة وقادرة على أن تمزج بين العمودي والنثري، أي أنها تكتب في الشقيّن وبشكل جميل جدا، وهذا أيضا يعزز من بقاء القصيدة العمودية في الساحة الأدبيّة والساحة الشعرية بالأخص.

ما نحتاجه هو أن نتجاوز هذه الجدالات التي لا تفضي إلى شيء، ونركز على سؤال الشعر وحده: كتابته ولذته، وأن نعمل جميعا شعراء ومتلقين ونقادا على خلق فضاء رحب يستوعب كل أشكال الكتابة الشعرية، وأثق أن الجيل الحالي من الشعراء على وعي بأن الأشكال إذا لم توصل إلى الشعر الحقيقي فلا أساس للحديث فيها أو الجدل حولها. فلندع كلا يكتب ما يشاء، وسنلتقي حتما تحت مظلة الشعر الوارفة التي تسع الجميع”.

ويقول “سلطان المعمري”: “الشِّعر مرآة الحصيف الآيب من رمال رمضاء الصحراء الأبدية الحارقة اللاذعة، يقفُ النحريرُ أمام محيط الصحراء العظيم بدهشة الديمومة اللوذعية، الصوت، النداء الكليم للوطن المفقود، حتى يخرُّ في محرابه عابثاً بالترنم التراجيدي والإيدولوجي والميثولوجيّ معه غناءٌ يعلو وينخفض ينبسطُ كالأرض الواسعة، يحتضن شعر النحرير الجارم؛ كأنه ارتكب خطيئته الهالكة وقادته للخلاص الأخير، ها هو ذا يصعد صومعتهُ الباسقة للسماء، يرتلُ مزمورة الهوى بصوت طائر الفردوس يغرقُ في المجهول البعيد، فلا يُرى ولا يروى عنه أنه كما لم يكن في ذاته سوى طائر قبرة الصحراء”.

يتحدث المعمري عن تجربته فيقول: “لطالما حملتني الأشواق في ذاتي أن أكتب الغناء الشعريّ فأراه ينبلج وينفلقُ كالطود المهيب، أكتب الشعر، فيكتبني معه، يحملني إلى وطني المغتصب، ليكتب كل واحد منا مذهبهُ الشاعريّ شريطة ألا ينخرط في التجريح والتجريم، والإساءة للذات الإلهية، فليس من الحكمة تسمية الشعر الهزيل المسموم شعرًا ؛ لأنه بذلك فقَدَ بصيرتهُ، وانهوى في قعرٍ بلا قرار. ملحمات آتية من أعماق الطوية المظلمة، تصوّر لك مشاهد ومعارك طاحنة وضحيتها الشِّعر والشاعر”.

وبين العمودية والنثر يتحدث المعمري: “مدرسة الشعر النثر، ومدرسة القصيدة العمودية، يسيران في خطين متوازيين يلتقيان في نهاية القصيدة، يتراقصان لأغنيات الشهيد، فهما ولادة النحرير. كان لابد من الانصات لكلا الحزبين العظيمين، بدون إلحاق الضرر للآخر وطمس هويته، وهدم عظمة بنائه الشامخ، أن يعطى للشاعر حرية وجوده الحسي الملموس، ككونه رسول الشعر المنفرد بمدرسته التي أنتمى إليها ولأرضها التليدة، كما عاشَ فيها صراع شقوته تحت سياط الشمس الحارقة.

الشعر النثر ما هو إلا الشكل الآخر من الشعر العموديّ، هما وجهان لعملة واحدة مهما اختلفا في البناء والتكوين، والنواميس المشرّعة تحت شريعة الشعراء القدماء، فكل ما يتلونه هو الحق المطلق فلا نواكب التجديد، والعصر الحديث فنظل غارقين في الماضي السحيق، فهنا بدوري لا أقلل من فصاحة وجزالة الشعر العمودي ومكانته الميمونة، فهو شعرٌ لا يقلُّ بدوره عن الشعر النثر، ولكن التعصب الفكريّ للشعر لا يقودنا سوى لحربٍ لا نخرج منها بفائدة سوى النفور والتعصب، والقدح بالشعراء، فالأيام الماضية كما رأيناها في وسائل برامج التواصل الاجتماعي ظهور فئاتٍ تسيء لمدرسة شعر النثر والأخرى للقصيدة العمودية، فلا أعلم حقيقة أن سيقودنا هذا الصراع الذي لم يبان لنا نهايته، هل إلى القمة أم الهاوية؟ ولكنني مع ذلك أؤمن بأنهما سيستمران معاً نحو الحقيقة الوجودية والحرية المختبئة في صدر النحرير. وعُمان هي مأوى الشعراء والشعر فلا يموت فيها أغنية الرجل الشهيد.. إنني أقول دائماً ” الشعراء هم رسل القصائد ” .

فيما قال الشاعر عثمان العميري: “بالإمكان أن تتكامل القصيدتان، فهما ينشدان الوجهة نفسها وهي تجويد التعبير الشعوري لأي تجربة إنسانية يمر بها أي مبدع، ومهاجمة البعض لقصيدة النثر تنبع عن نظرتهم لعدم إمكانية الجمع بين النقيضين الشعر والنثر، فهم يعتبرون أن الشعر له خصائصه وحدوده التي لا ينبغي خرقها، وكذلك الحال مع النثر، أما الدمج بينهما فمن وجهة نظرهم فهو من الاستحالة بمكان”.

وأضاف حول مصير القصيدة العمودية في عمان: “ما زال للقصيدة العمودية محبون يكتبون تجاربهم عليها وهذا ما شهدتُ عليه في الملتقى الأدبي والفني الخامس والعشرين، وهذه التجارب الجديدة في القصيدة العمودية لدى الشباب تحاول أن يكون لها حضور وتفرُّد مغايريين عن ذي قبل”.
المصدر : جريدة عمان

تصوير: يحيى البريكي