محمد بن سليمان الحضرمي
صورة تسكن مخيلتي أشبه بالحلم، ولا أظن أنها تقترب من الحقيقة، وكأني التقي بالشيخ خلفان بن جميِّل السيابي في مسجده الصَّغير بسمائل، ثم بعد سنوات يحدثني جدي: إن الشيخ مدفون في ضاحيته، وحين كبُرت، كانت كتبه تقرِّبني منه أكثر، وتنوب عن لقائه الجسدي، وكنت كلما مررت على سمائل، أتذكر ذلك اللقاء الحُلُمي البعيد؛ يتجلَّى فيه شيخ نحيل البدن، كث اللحية بيضاء، تمتزج مع ضوء النهار، وكأنها أهداب من فِضَّة.
في صيف عام 2017، ذهبت إلى سمائل، للوقوف على مساجدها الأثرية، والكتابة عنها، وسألت عن بيت الشيخ خلفان المجاور لضاحيته «المشجوعية»، قلت في نفسي بعد أن بلغته: آن لي أن ألقى الشيخ، فطرقت الباب، وكأنَّ الشيخ سيفتحه، أو أحد من كبار أبنائه، لولا أني تأخرت نصف قرن، فاتصلت هاتفيًا بحفيده الصديق الشيخ محمد بن يحيى، فأذن لي مشكورًا دخول البيت، والوقوف على قبر صاحب «القطرة الغيثية».
في الطريق إلى قبره، مررت على نخيل سامقة، وبئر ليست معطلة، تسقي الضاحية بمائها العذب، وقصر غير مشيدٍ، بل بيت متواضع، أصبح اليوم مهجورًا، فساءلت الجنَّة السيابية الخضراء: هل غرَسَ الشيخ هذه النخيل قبل أكثر من 50 عامًا؟، وساءلت الأشجار كذلك وأراقها الخضراء، هل أورقت من قطرته الغيثية دائمة التسكاب؟ وساءلت البئر غير المعطلة، هل شرب الشيخ من مائك؟
خطوات قليلة تفصلني عن القبر المتواري في أطراف الضاحية، تظله نخلة ما تزال «بَكْسَة»، وكان بعض من السَّعف الجاف المقطوع يغطي القبر، فأخذت أنظف المكان، وأبعد منه السعف المترامي فيه، حتى تكشَّف لي بسوره الصغير، مساحة لا تزيد على مترين، فجلست بمحاذاته، أشبه بكهل أرهقته الحياة وألهثته الأيام، رحت أشكو للشيخ ضعف حيلتي وقلة بضاعتي من العلم الشرعي والأدبي، وتمنيت أن لو تتلمذت على يديه.
كانت شمس الظهيرة ترسل أشعتها الحارة من بين سعف النخيل، وأنا صامت أمام قبر صامت، وصاحب القبر عُرف عنه الصَّمت وقلة الكلام، وجال في خاطري أن أكسر السُّكون بأن أقرأ عليه الأبيات الأولى من قطرته الغيثية، فأنا أحفظ بعضًا منها، فقرأتها بالطريقة السمائلية الباكية:
على بابِ مَنْ أهْوَى
يَلُذُّ ليَ الذلُّ
فيا عِزَّ قومٍ
تحت أعتابهِ ذلُّوا.
أحِبَّتنا
أنَّ الصُّدودَ مُعذِّبي
ولكنْ عَذابي مُرُّه
فيكمُ يَحْلو
أجُودُ بنفسِي في هوَاكُم
وإنها لمِنْ عِندِكم
والفرْعُ مَرْجعُه الأصلُ.
فإنْ تقبلوها
فهي لِي غايَة المُنى وإلا فوا وَيلاهُ إنْ دُفِعَ البَذلُ.
سالت القطرات الغيثية من ذاكرتي، وسالت معها ذكريات عن الشيخ، سمعتها ممن التقى به، وقرأ عليه، الذكريات كثيرة لو تُسَجل من أفواه الناس الذين عرفوه والتقوا به وزاروه في مسجده، وفي منظوماته التي نثر زهرها في دروب الحياة، طوال النصف الأول من القرن العشرين، و82 عامًا هي حصاد عمره المبارك، قضاها في صحبة الكتب والتأليف، فقد توفي الشيخ عام 1972م، وبرحيله سقطت ورقة من الشجرة التعليمية للشيخ نورالدين السالمي (ت: 1914م)، وإن لم يكن قد درس على يديه، إلا أنه حتمًا تعلَّم على كتبه، واستفاد من مدرسته وتلاميذه، كالإمام محمد بن عبدالله الخليلي (ت: 1954م)، والفقيه حمد بن عبيد السليمي السمائلي (ت: 1971م) وآخرون.
عمل الشيخ خلفان بن جميَّل قاضيًا، وعرف بين الناس فقيهًا وأصوليًا ومفتيًا، وترك كتبًا ومؤلفات، أهمها كتابه «سلك الدُّرر الحاوي غرر الأثر»، وهو أرجوزة في 28 ألف بيتًا، صدرت في جزأين كبيرين، وله «فصول الأصول»، في أصول الفقه، وجمع ما تبقى من فتاويه في كتاب «فصل الخطاب»، وله «بهجة المجالس»، أشبه بديوان شعري، لكن الشيخ لا يكتب الشعر للشعر، وإن كانت لغته تنحو إلى ذلك، وإنما كان يرد على من يسأله في مسائل الشريعة بقصيدة تشاكلها وزنًا وقافية، وقد سَأله تلاميذه بقصائد شعرية، من مثل: النحوي حمدان بن خميِّس اليوسفي (ت: 1965م)، والأديب محمد بن راشد الخصيبي (ت: 1990م)، والمؤرخ سالم بن حمود السيابي (ت: 1993م)، والشاعر علي بن جبر الجبري (ت: 1995م)، والفقيه حمد بن سيف البوسعيدي (ت: 1998م)، والأديب موسى بن عيسى البكري (ت: 2003م)، والفقيه سعيد بن خلف الخروصي (ت: 2017م)، وآخرون، ووجه سؤالًا واحدًا لقرينه الشيخ سيف بن حمد الأغبري (ت: 1961م)، فبهجة المجالس تجمع أسئلة نظمية للشعراء الفقهاء، وله منظومة لامية طويلة في فنون العلوم والحِكَم والمواعظ.
وقصيدة «القطرة الغيثية والوسيلة الإلهية»، من عيون شعر السلوك والتصوف، روح شعرية ممزوجة بحس صوفي، تلامس سقف السَّماء، بمعراج القصيدة المؤلفة من 201 بيتًا، وفيها تتناثر مناجاة الشيخ السيابي، يعبر في استهلالها شوقه إلى الله، فهو المُرتجى والمُلتجى، يتودد إليه كما يتودد المحب، يجود بنفسه في هواه، وقبوله غاية مناه، وقد تقطعت كل الأسباب إلا أسباب وصاله والوصول إليه، تقطعت حبال الوصل إلا إليه، ورثَّت عرا آماله إلا أمله به، وسُدَّت دونه الأبواب، فلا باب سواه يقصده، ولا ملجأ له غيره، وليس له من معوِّل سواه، وكل الكائنات قد دفعته إليه دفعًا.
فيا الله، لا فوق أو تحت يُلاذ ويُلتجى بك، لا قبل ولا بعد، لأنك قبل القبل، وبعد البعد: (فمن ثم فيه ينطوي البَعْدُ والقَبْلُ)، وكنت قبل الكون والكائنات، فكوَّنت الكون وخلقت الكائنات، بكُنْ التي هي بلا لفظ أو حروف أو شكل، وإنما إرادة إلهية، ولقد تعاليت يا الله عن الأسئلة وإجاباتها، تعاليت عن: كيف وأين ومتى، (تعاليت عن كيف وكيَّفت كيفنا).
ويا إلهي، لك المُلك الذي لا تحيله صروف الليالي، ولا يخشى عليه استلاب السالبين، لك الملك المؤبد، والبقاء السرمد، ولك العز الذي لا ينفد، لك الملك الذي لا ينقضي، ولك الخلق الذي أبهر العقل جلالًا، ولم يبلغ كنه، إلهي: لك الخلق العظيم، والمجد الجسيم، لك الأمر العميم، لك الفضل، لك التدبير في الكون، لك الحكم القويم، ولك العدل.
60 بيتًا، أو نحو ذلك بقليل، يطلق فيها الشيخ خلفان بن جميل مناجاته بمفردة: «إلهي»، تتسنَّم مطالع أبياته، ليرصِّعَها في بساط القُرْب من الله، نجمة تنبعث من سُويداء القلب إلى حضرةِ القُرْب.
وعن عيوب النفس، بل عن بعضها فقط، تحدث الشيخ في 15 بيتا متتالية، مناشدا التخلي عن النفس الخسيسة: (تخلو عن النفس الخَسيسَة إنها.. لشر عدو، إنها في الحَشَى صُلُّ)، والصلُّ هو الثعبان السام، (ولولا عُيُوبُ النفس ما انحَطَّ قدرُنا)؛ عن الرسل والملائكة، وما خُلِقت لظى، ولا سُلِك الجَهل، ولا امتاز شريف ومشروف، ورفيع وذليل، ولا غوى إبليس، ولا عصى قابيل بقتل أخيه، ولا غرق الملأ بطوفان نوح، ولا عتى نمرود وأشغل نارا للخليل، ولا قذف أخوة يوسف في الجب، ولا قذفته زليخا، ولا ادعى فرعون الألوهية.. الخ، تضراع رقيق، يفيض موجه عن بحر القصيدة، ويسيل في سواقي الوجد، وواضح من جملة «ولولا عيوب النفس»، تأثر الشيخ خلفان بقراءته لكتاب إحياء علوم الدين.
أنهيت صمتي وتمتماتي، وارتشفت قطرات من نهر مناجاته، وودعت الشيخ، فالظهيرة حامية، لولا الظلال الباردة في ضاحيته، الممتدة بين بيت الشيخ وقبره.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-أمام-قبر-خلفان-بن-جميل-أرتشف-القطرة-الغيثية