الصورة بوصفها طريقة لإيلام الآخرين

منى بنت حبراس السليمية
“تشرق الشمس من رقاب الفلاحين”، بهذه العبارة يصف الكاتب والمصور البحريني حسين المحروس لحظة اختراق ضوء الشمس رقبة الفلاح عبدالله خميس من الخلف فيضيء الجزء السفلي من وجهه. هذه اللقطة الذي وثقها بالكلمة والعدسة في كتابه “بستان الأحجار الكريمة” الصادر في 2022، تشبه تماما حياة الفلاحين الذين “يطؤون التراب البارد قبل الشمس، لم يحدث قط أن انتظرتهم أشعة الشمس تحت نخلة”. للمحروس عدسة قارئة، ولغة مُصوّرة وهو يتتبع سِيَر أربعة مزارعين إخوة يُسمّون أنفسهم “أولاد أمينة” نسبة إلى جَدتهم “أمينة”، وهم: عبدالله وجميل وعبدالرسول وحبيب. يتعهد الأربعة -كغيرهم من الفلاحين والمزارعين- بالرعاية والاهتمام تحت ما يسمى بنظام “التضمين” في البحرين.

تلتقي الكتابة والتصوير في نصوص المحروس حتى توشك أن ترى المكتوب وتقرأ المُصَوَّر في آن، ولا تكاد تتبين أيهما يسبق الآخر أولا إلى المتلقي. بدأ المحروس رحلته في تصوير البساتين منذ نوفمبر 2006، واستمرت حتى قبيل صدور الكتاب، خاتما صفحته الأخيرة من يومياته في البساتين بقوله: “سوف أستمر في الحضور وتدوين هذه اليوميات والتصوير قدر الإمكان، والعيش مع هؤلاء الأخوة الأربعة في بستان الشاذبية والأرض التي ليس لها اسم”. ليس المحروس مصورا صرفا وإن كانت الكاميرا رفيقته الدائمة، وليس كاتبا محضا وإن كان قلمه إلى جوار عدسته لا يفترقان، فهو يقدم نفسه في هذا الكتاب -بعد أعمال روائية عدة- قارئا للوجوه، يستجلي خباياها ويعرف أي وجع وأي فرح يصيب القلوب المخبوءة خلف ملامح أصحابها. يقول مستعيرا قول الجاحظ بتعديل يناسب مهمته التوثيقية لحياة الفلاحين: “طالما كتبتُ أن المعاني مطروحة في الوجوه، ولن ينتهي التعبير فيها يوما، ولا عنها، مهما كانت طريقة التعبير أو شكله”. لذا ليس علينا أن نعجب أن يكون تركيز المحروس على الملامح والوجوه، على تعب الأيدي والأقدام وهي تمتزج بالأرض، حتى ليوشك أن يتوقع انشقاقها عن نبتة صغيرة لفرط ما امتزجت بمكونات الأرض حتى غدت منها.

يعلِّمنا المحروس في كتابه معنى أن تكون جزءا، لا فردا طارئا يحمل كاميرا يقتنص بها لحظته ويمضي. يؤمن إن اللقطة -وإن كانت لا تنتظر- ليست أولوية في المشهد، وأن عليك أن تنهل من صبر الفلاح حتى تستحق شرف الصورة. يمرر لنا هذا الدرس بينما يقول: “الجدة في تصوير الزرّاعين، الإنصات للأرض تحت أقدامهم، للأخضر في قلوبهم، للوقت في أعمارهم في عمر النخيل والأشجار من حولهم. هذا هو -في الأصل- كلام الزرّاعين وهذا هو معجمهم”. عرف المحروس أنه لن يصل إلى جوهر حياة الفلاح إذا لم يرتقِ لجديتهم، وإذا لم يلامس تفاصيل يومهم. يقول: “إذا لم تكن جادا لا تذهب إلى الفلاحين، ولا ترفع الكاميرا في وجوههم، أقول ذلك لنفسي، فليس المكان هنا للتسلية، وليس الذين فيه يعرفون معنى التسلية غير موعد تجميل النخيل “الترويس”.

وبسببٍ من هذا الإيمان الذي غرسته فيه صحبة المزارعين، يتوقف عند حادثة وقعت مع المزارع عبدالله خميس لم يشأ ألا يعلّق عليها، فذكرها في إحدى يومياته من عام 2021: “تابعتُ حدث إيقافه من قبل مجموعة من المصورين عند جذع نخلة وتصويره! لم ير واحد منهم كم أنه مُنهَك. لا يهم! تسابقوا لنشر صورهم المتشابهة في الإنستجرام! هذه من اللحظات التي أصدّق فيها جدا أن التصوير الفوتوغرافي اعتداء”. كان هذا الحدث بُعيد إصابة عبدالله خميس بكورونا، وبالكاد استعاد عافيته وخرج من العزل. يشير المحروس في موضع آخر إلى أن المصور محط ريبة غالبا، وأحسب أن الريبة من المصور مبعثها أنه يأتي -ربما- من خارج السياق ليفوز بالصورة الجاهزة، ليظفر بالنتيجة. براغماتية المصور تجعله لا يشعر بأن الفضل ليس له، وأن اللقطة مهما كانت متقنة فهي ليست صنيعته. هنا أيضا يعلّمنا المحروس درسه الآخر: “في حضرة الفلاحين، لا تقل هذه صورتي، قل هذه صورهم. يأتي شرط التصوير منهم: أن ترى، ومن الأرض يأتي شرط الكتابة: أن يستحوذ عليك كلام الأرض”.

يفعل المحروس في كتابه فعل الباحث المحقق بكل ما أوتي من وسائل، وأولى تلك الوسائل المعايشة، وبها عرف أن ما يعيشه ويراه لا تستطيع الكتابة ولا الكاميرا الإحاطة به. يتساءل: “كيف لكاميرا صغيرة العلاقة، جديدة العين، أن تعي هذا المعنى؟! كيف أعي معنى أنهم يعرفون مواسم الغرس بالرائحة، لا بالمواقيت؟! كيف يمكن كتابة ذلك فضلا عن تصويره؟!” ولعل عجزه عن الإحاطة بما أدهش تجربته وبصره ذهب به إلى أبعد من المشاهدة، فقلّب في وثائق إدارات الزراعة المتعاقبة وتقاريرها في المرحلة التي أعقبت ركود تجارة اللؤلؤ وقبيل اكتشاف النفط في البحرين، وتتبع حال الزراعة وأحوال مزارعيها، مقدما إضاءة تاريخية لواقع قطاع الزراعة في فترة زمنية مهمة، مفردا مساحة واسعة لنظام “التضمين” الذي يجبر المزارع أحيانا على ترك الأرض التي تعهدها سنوات لصالح متضمن آخر يدفع أجرا أعلى لصاحب البستان. ينثر المحروس عبارات تصوّر ألم المزارع بينما يغادر بستانا ظن أنه لن يغادره إلى آخر سواه وربما أصغر منه: “أرض تعرف قدميك لا يليق بك تركها”. ولا يفوّت المحروس أن يسرد المشاكل التي تعترض الفلاحين المتضمنين ما أعاق قيام الزراعة بمفهومها الاقتصادي في البحرين في فترة زمنية مضت.

يقترب المحروس من شخصياته الأربع رويدا رويدا. يسبر طبائعها، ويكتشف سبل إذابة الحواجز معها، حتى غدا عارفا بنفسياتها، ويجيد قراءة مزاجها، ويشاركها لحظات استراحتها ويأكل من طعامها ويدخن بمعيتها -وهو الذي لا يدخن- من أجل أن يفوز بحكاية في لحظة صفائها، أو ينتشي بأغنية يتغنّى بها أحدهم، يبادلهم القهقهات والقفشات التي أدخلتهم إلى قلوب القراء، لسرعة بديهتهم ولطف منطقهم وصفاء سريرتهم. يورد المحروس مناداة “حبيب” له بعبارة عذبة: “هلا بالوردة، صحن قلبي إنت والله”. عبارة يثبتها المحروس في يومياته عندما أقبل على “حبيب” بعد سنوات من الصحبة الطويلة، تلك الصحبة التي حدت بالمحروس أن يقرر عدم إنهاء مشروع كتابة اليوميات بمجرد صدور الكتاب.

هل كان المحروس مجرد شاهد على المزارعين الأربعة؟ يخبرنا المحروس أنه لا يليق في حضرة الزرّاعين إلا أن تكون عاملا معهم، وإن كنا لا نعرف ما فعل المحروس على وجه الدقة، ولكن لابد أنه ساهم في حمل السلال، أو في نقل بعض الأخشاب، لاسيما في الأوقات التي شعر فيها أنه من غير اللائق أن يحمل الكاميرا أمام جديتهم. وفي كل الأحوال لا أحد يوجد في البستان ويبقى بلا عمل يقوم به مهما بدا صغيرا، وهذا درس آخر: “ما دمت في البستان، مهما كان عمرك، سوف يُسند إليك عملًا ولو خفيفًا؛ فلا يليق بك اللعب جوار الزرّاعين، تتعلم الأشياء قليلا قليلا بالنظر أكثر منه بالكلام، وليس كأي نظر، النظر الذي يكون بالقلب، تسمعهم يقولون “العمى في القلب”؟! هذا ما يعنونه. عرفت؟!”. وعليه فإن أحدا لن يعلمك ما عليك فعله، وحده النظر يعلمك ما ينبغي عليك فعله، “في البستان لا يمكنك أن تقول أكثر مما ترى”.

وإذا كانت الكتابة قادرة على تحفيز خيال القارئ، فإن للصورة وظيفة أخرى، ليست وظيفة تتلخص في تجميد اللحظة الزمنية وحسب -كما تعودنا أن نسمع عند تعريف الصورة والتصوير- ولكنها تنهض دليل إدانة على أفعال المحو والإزالة. يستخلص المحروس هذه الوظيفة الجديدة للتصوير، وهي إيلام الآخرين، بعد إدراكه أنه تأخر في مهمته، وأن البساتين عندما بدأ في تصويرها في عام 2006 لم تعد هي البساتين نفسها في وقت سابق وقد انكشف غطاء كبير من الأشجار التي ما كان المرء يستطيع أن يرى من خلالها الحد الفاصل بين بستان وآخر، وأن المستقبل ربما سيمحو أثر البساتين التي أسعفه الزمن بتصويرها وإن تأخر. يكتب ذلك في عبارة هي مدار الكتاب كله، هدفه وغايته، يقول: “رأيت أن تجربة تصوير البساتين تشبه تجربة تصوير الصيادين في سواحل البحر في أن كليهما، البساتين والسواحل في طور الغياب أو الزوال؛ فالكثير من البساتين التي صورتها بشكل ممتد، وصورت نشاط الزراعين فيها أزيلت والبحر لم أعد أجده. صارت صورهما في أرشيفي خيالية، لا أظن أن الأجيال القادمة سوف تصدّقها. حدث كل ذلك في فترة وجيزة جدا. هنا -بالتحديد- هذه الصور تحمل معنى يتجاوز الجمالي إلى التوثيقي التاريخي، يصير لها وظيفة أخرى: إيلام الآخرين!! هذا جزء من وظيفة الصورة، بكل هذه السخرية”. وقد بدا أن التصوير هو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها إنقاذ البساتين من الزوال، فحسبها أن تبقى في الصورة، بدلا من أن تغيب من الواقع ومن الصورة معا، فلا يبقى منها شيء في ذاكرة الأجيال القادمة، “ما دام الواقع أصبح ذاك الذي لا نراه إلا في مجموعة صور”.

دخل المحروس عالما قوامه التعب، ولكن من فيه لا يجيدون العيش خارج هذا التعب، ولا يعرفون عنه بديلا. يدركون أن التعب اللذيذ الذي يعيشونه اليوم لن يتكرر، فهو غير قابل للتوريث لأبنائهم وأحفادهم الذين يرتادون المدارس، فمن دخل المدرسة لن يعمل في البستان -كما يقول أحدهم- في رثاء موجع لمستقبل البساتين ليس في البحرين وحدها، وإنما في بلداننا جميعا.

يقدّم كتاب “بستان الأحجار الكريمة” متعة بصرية وأدبية لجانب من حياة البحرين، الجانب الأكثر حميمية المتصل بالأرض، بطهر الإنسان من دون أن تشوّه تقنيات البورتريه نقاء ملامحه وتغضناتها وتعابيرها الحقيقية. وإلى جانب ذلك كله، يقدّم توثيقا لرحلة الزراعة والزراعين، وجانبا من حياتهم الاجتماعية ومكانة المرأة فيها، بدءا من افتخارهم بالانتساب إليها، وليس انتهاء بأدوارها في الأسرة أو في البساتين. ويسلط عين عدسته على ما سمحوا به من حياتهم ومتاعبهم، مخاوفهم وهواجسهم. يصور حسين المحروس ويكتب في آن واحد عن الإنسان البسيط، عن عفوية عبدالله خميس إذ يقول ممازحا المحروس: تحبه لو ما تحبه؟ فيرد عليه المحروس: أموت فيه! فينطلق عبدالله خميس بضحكة مجلجلة، رغم أن المحروس لا يعرف عمن يتحدث بن خميس؛ ولكن رد السؤال -كما يقول- يفسد جمال الأشياء.

يعلّمنا المحروس درسه الأهم، وهو التواضع أمام الموضوع، أمام الصورة التي نظنها مجرد كبسة زر، بينما هي حياة كاملة ارتوت من ماء الصبر، وأن روح الكتابة وعين الكاميرا وجهان لعملة واحدة هي الصدق.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الصورة-بوصفها-طريقة-لإيلام-الآخرين