أضاميم.. قرية منضمة بين أجنحة الجبال اسمها: ضَمْ

محمد بن سليمان الحضرمي
أهدي هذه الإضمامة، إلى روح الشيخ: عاصم بن عدي الهنائي، فقد زرت قرية «ضم» لأول مرة قبل سنوات بصحبته، رحنا معاً إلى هذه القرية، التي هي آخر الرَّوضَات الواقعة في الأطراف الشرقية لعبري، بعد أن قطعنا بالسيارة «وادِي العَين»، وواجهنا «جبل مشط» الأشم، ثم إلى هذه القرية المنضمة بين أجنحة الجبال، والمحاطة بالضواحي والبيوت الطينية القديمة، والمساجد الصغيرة، فلروح الشيخ عاصم سلام ترحُّم وأشواق ومحبة.

الزائر لقرية ضم، يستقبله برج أثري، شُيِّد على قاعدة من الحجارة الكبيرة، صففت مع بعضها دون أن تشذ منها حجرة، شُيِّد فوقها حصن من «الطفال» الطيني، وبمرور القرون، تداعت جدران الحصن، وبقيت أسسه الكبيرة، تحدِّث عن تلك السواعد التي نقلت هذه الحجارة من سفوح الجبال، ولا أسهب كثيراً في وصفه، لأني تناولته بالحديث سابقاً في إضمامة بعنوان: «الضفور القديمة معالم ضاحكة لحضارة الحجر»، نشرتها في هذه المساحة بتاريخ: 13 مارس هذا العام.

وليس الحصن وحده ما يلفت نظر الزائر، بل إن داخل القرية حارة صغيرة، هجرها الأهالي وشيدوا بيوتاً في مناطق أخرى، فتركوا بيوت الطين، بما تحويه من أواني فخارية متنوعة الأحجام والأشكال، ومثلها توجد في عمان مئات الحارات، مهجورة ببيوتها ومساجدها وحصونها وغيرها، لم يعد الناس تحب العيش داخل الحارات، لشعورهم أنها تنتمي إلى زمان غير زماننا، أو لأنها ما عادت قادرة على تلبية رفاه الإنسان، الذي يميل أكثر إلى النمط العمراني الحديث.

بجانب حارة القديمة في قرية ضم، يوجد مسجد طيني، يسمى «مسجد مسعودة»، وقد عرفت اسمه من التقييدات المكتوبة في بعض الكتب، والتي أوقفها أصحابها، لتكون خاصة لطلاب العلم، ومرتاديه من المصلين، فقد رأيت في أحد رفوفه نسخة من كتاب «جوهر النظام» للشيخ نورالدين السالمي، الطبعة الرابعة، القاهرة/ 1381هـ، ونسخة من كتاب «طلعة الشمس»، للسالمي أيضاً، وهي الطبعة الأولى الصادرة في القاهرة أواخر القرن التاسع عشر/ 1899م، والطبعة الأولى من كتاب «شامل الأصل والفرع»، للشيخ محمد بن يوسف اطفيش، صدرت عن المطبعة السلفية بالقاهرة/ 1348هـ، وكتب أخرى من المطبوعات القديمة لوزارة التراث القومي والثقافة، كشرح ابن وصَّاف لدعائم ابن النظر بغلافه الأصفر، المطبوع في القاهرة عام 1982م، وبجانبه نسخة مصورة من «مخطوطة شرح ابن وصاف»، لعل أحد طلاب العلم أوقفها للمسجد، وبعد تقليبي لهذه الكتب، وجدتها مثقلة بالتراب، وقد اهترأت وتمزقت أوراقها، ولم تعد تصلح للقراءة، وهذه بعض من تلك التقييدات المكتوبة في الأغلفة والأوراق الأولى للكتب المذكورة، وهي برأيي مهمة للباحث، لأنها تعكس اهتمام الناس بتوقيف كتبهم للمساجد:

جوهر النظام:

هذا من كتب العبد لله مسعود بن خلف بن سيف البحري، كتبه العبد لله حمد بن عامر بن حمد البحري، يوم حادي المحرم 1385هـ، بيده.

شرح طلعة الشمس:

قد أوقفت هذا الكتاب، لمسجد مسعودة، ببلد ضم، لا فيه بيع ولا شراء، ولا أيمان أبداً، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)، وأنا العبد لله تعالى سالم بن هاشل بن رشيد البحري الهنائي بيده، يوم 9 ربيع الآخر عام 1380هـ.

شامل الأصل والفرع:

قد أوقف سعيد بن حمود البحري هذا الكتاب، جلده وقرطاسه، لمسجد مسعودة، بقرية ضم، لمن أراد أن يقرأ منه، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قد أوقف سعيد بن حمود البحري، هذا الكتاب المُستطاب، لمسجد مسعودة، بقرية ضم، لمن أراد أن يقرأ منه، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، كتبه سالم بن محمد بن علي البحري بيده.

يوم 17 شوال 1344 توفي الأخ سعيد بن أمين، كتبه العبد لله محمد بن أحمد بن سعيد، رابع رجب الموافق يوم الجمعة، 1347هـ.

توفي الأخ خلف بن سيف بن حمود البحري، يوم 14 صفر 1347، بقلم العبد لله محمد بن حمد بيده.

أوقف سعيد بن حمود البحري، هذا الكتاب، المُستطاب، لمسجد حارة ضم، لطلبة العلم، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وكتب بأمره عبدالله بن سعيد بيده، بتاريخ اليوم 7ج2 1348هـ.

وعلى أحد أخشاب سقف المسجد تقييد آخر، مكتوب بخط الشيخ علي بن ثني الهنائي، المشهور في القرية بخطه الجميل، وتعليمه للقرآن الكريم سنوات طويلة من عمره، وكثيرة من الوثائق والصكوك التي يحتفظ بها الأهالي مكتوبة بخط يده، فهو معلم وخطاط ماهر، وقد لفت انتباهي هذا التوثيق الرائع لتسقيف المسجد، وكل من يدخل المسجد يرى الوثيقة الخطية المنقوشة في أحد الأخشاب، وما يزال المسجد على هيئته كما زرته قبل سنوات، والشيخ علي بن ثني على قيد الحياة، حتى كتابة هذه الإضمامة، ولكن الشيخوخة أخذت كثيراً من صحته.

أما التقييد المكتوب في تلك العارضة الخشبية فهو: (انهدام المسجد في ليلة العاشر من شهر رمضان، 1374هـ/ 1955م، وأعيد بناؤه يوم العاشر من شهر رجب 1378هـ 1959م، على يد صانعه سالم بن خميس القسيمي، بأمر من الشيخ عبدالله بن زاهر بن غصن الهنائي، وله الأجر إن شاء الله).

وفي داخل القرية مسجد صغير آخر، يطلق عليه اسم: «مسجد الحاجر»، يقع بمحاذاة ساقية الفلج، ووجدت فيه نسخة قديمة من كتاب: «جامع أركان الإسلام»، لمؤلفه: سيف بن ناصر بن سليمان الخروصي، وفيه هذه التقييدات:

هذا الكتاب لا يُرهن ولا يُباع ولا يُوهب، لمسجد الحاجر، موقَّف لقراءة المسلمين.

هذا الكتاب «جامع أركان الإسلام»، مسجد الحاجر، لا يباع ولا يرهن، حتى يرث الله الأرض، هذا والسلام، راقم الأحرف عبيد بن عبدالله البحري.

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى جانب الشيخ المحب الأكرم المكرَّم، الأخ ناصر بن محمد بن علي البحري.

ومما قيل من نظم الإمام المقدام إبراهيم بن قيس الحضرمي:

فعَزائِمِي صَعُدَتْ إلى طلبِ العُلا

وَرَمَتْ بكلِّ خُدَلَّجٍ وَرُدَاحِ

وطريقُ مَنْ طلَبَ العُلى فعَن الهَوَى

مُتَحَرِّفٌ فتيَقَّنِي بروَاحِ

عَلقَ الفُؤادَ بأن أكونَ أنا الذي

نَشَر الهُدَى بقَواضِبٍ ورِمَاحِ

علقَ الفؤادَ بأن أُحَاسَبَ في غَدٍ

ومِنَ الدِّمَاءِ تدَفقٌ بجِرَاحِ

وبجوار مسجد الحاجر فلج صغير، يسيل في سواقيه باستخدام نظام «غَرَّاق – فَلَّاح»، حيث تصب ساقية الفلج في ساقية تنزل إلى عمق الوادي، ثم تسير أسفله لتصعد من الجانب الآخر، على ارتفع يبلغ عشرة أمتار، زوايا أضلاع الساقية 90 درجة، ويتساوى المصب والمنبع، فيندفع منها الماء إلى اتجاه المنبع في الجهة المقابلة.

هذه المشاهدات هي جزء من تكوين الحياة في هذه القرية، الحصن والجامع والفلج، والنظام الزراعي الرائع، لكن القرية اليوم مهجورة، إلا من بعض العمال الآسيويين، وبعض الأهالي الذي يترددون إليها، في حركتهم اليومية بين المزارع والبيوت.

وبين ضواحي النخيل، يظهر مسجد كبير متصدع الجدران، يبدو وكأنه جامع، شُيِّدَ في تلة تبدو أعلى ارتفاعاً من مستوى ضواحي النخيل، يبلغ سُمْك جدرانه أكثر من متر، وأسقفه مقوَّسة، لم يستخدم مهندسوه فيها الأخشاب، ومن الحال الذي يبدو عليه المسجد الكبير، فهو مهجور منذ عقود من السنين، وقد تصدَّعت أركانه، وتهاوت أسقفه المقوَّسة، يتألف صحنه الداخلي من ثلاثة أقسام، جدران كل قسم على ارتفاع ستة أمتار، وتنتهي بسقف مقوَّس، بلا أخشاب، ومثل هذا البناء وجدته في مسجد صغير بولاية أدم، يطلق الأهالي عليه اسم: «مسجد باني روحه»، كاشفة عن هندسة معمارية بنظام دقيق، تتناسق فيه المسافة بين الجدران، لتتلاقى عند السقف الذي يبدو أشبه بقوس.

ويبدو جامع ضم من الخارج كبيراً، وضاعت مساحته في الصحن الداخلي، بسبب سُمْك الجدران التي تصل إلى مترين تقريباً، ولم ألمس في محرابه نقوشاً زخرفية، وبعض أبوابه الخارجية مزخرفة بنقوش محفورة باليد.

ثم أنهينا الزيارة لقرية ضم بزيارة الشيخ المُعلِّم علي بن ثِنَيْ، الذي أخذنا في أحاديث عن تاريخ القرية، وعن تعليم القرآن، ونسخه لبعض المخطوطات بيده.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-قرية-منضمة-بين-أجنحة-الجبال-اسمها-ضم