إيهاب الملاح
– 1 –
بعد ثلاث سنوات تقريبا من صدور كتابه المهم «مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية» (وقد خصصنا لقراءته حلقة من حلقات مرفأ قراءة في 2019) يطل علينا المؤلف جمال عمر بما يمكن أن نعتبره جزءا ثانيا من مشروعه الكبير في كشف وإضاءة الملامح الفكرية والنظرية التي قامت عليها ما يسمَّى بالمشروعات الفكرية (النقدية) العربية منذ منتصف القرن الماضي، وحتى وقتنا هذا.
عبر ما يقرب من ثلاثة عقود كاملة فُتن جمال عمر بفعل المساءلة والتفكير النقدي متأثرًا بقراءاته العميقة، وتعرفه الإنساني والعقلي على أبيه الروحي وأستاذه الفكري نصر حامد أبو زيد، ثم علي مبروك من بعده. وجمال عمر لمن لا يعرفه من القراء الشباب والمقبلين على التعرف على كتاباته في هذه المنطقة المعرفية والفكرية المثيرة، مثقف مصري مغترب، يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ سنواتٍ بعيدة، لكنه يعيش بعقله وجوارحه همومَ ثقافته التي ينتمي إليها لغةً وفكرًا، ويمارس في سبيل ذلك جهدا قرائيا وبحثيا متميزا منذ أن تعرف على كتب نصر أبو زيد وأفكاره، منتصف تسعينيات القرن الماضي، وصار من أقرب تلاميذه إليه واتصالًا به، وأكثرهم دأبًا ومتابعةً لكل ما يكتب نصر، ثم تعرف على أعمال المفكر الراحل وأستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي المرحوم الدكتور علي مبروك.
ومن خلالهما معًا (نصر أبو زيد، وعلي مبروك)، ومن خلال تعمق قراءة أعمالهما، بتأن وفهم واستيعاب، انفتح جمال عمر على كامل المشاريع (أو المشروعات) الفكرية العربية؛ المشرقية والمغربية على السواء (محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وطيب تيزيني، وهشام جعيط، وغيرهم) والتي قاربت إشكال قراءة التراث (ونقده)، وتصدت لسؤال النهضة والتخلف، منذ المحاولات الأولى المبكرة لرفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وصولًا إلى الأفغاني ومحمد عبده.
– 2 –
في كتابه الجديد «الخطاب العربي في متاهات التراث» ينطلق جمال عمر في قراءته من مفهومه المركزي “العلائقية”، ويركز على كيف يرى كل خطاب من الخطابات المنتجة الخطابَ الآخر، كيف يراه وكيف يقرأه؟ وما هي الاستراتيجيات والإجراءات التحليلية والأداتية التي اعتمدها في عملية القراءة؟ يقول جمال عمر “من مهم لنا دراسة أي ظاهرة ودراسة خطاب أي مفكر؛ كعلامة، دلالتها مرتبطة بمنظومات التعبير والتدليل في الثقافة، وسياق الظاهرة وسياق الخطاب، والسياق هنا بمعنى أوسع من السياق اللغوي لتركيب العبارة أو الجملة، فالسياق معنى أرحب من ذلك بكثير”.
ويركز الكتاب تحديدا على كيف رأى خطاب جيل جورج طرابيشي خطابيْ حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري. وكيف رأى خطاب علي مبروك، التالي لهم، خطابات الثلاثة كممثل لجيل أحدث تال. ثم بعد ذلك كيف يرى جمال عمر نفسه خطابات الأجيال الثلاثة، مركزا على فكرة “العلائقية” التي قدم لها مهادا نظريا في كتابه السابق «نقد التراث والأشعرية»؛ والتي يلخصها بقوله “أي شبكة العلاقات المتداخلة والمتراكبة في إنتاج هذا الخطاب أو ذاك، وعلاقته ما سبقه من خطابات تداخلت معه أو توازت أو تقاطعت”.
هو أشبه ما يكون في عمله هذا بمدارس الأدب المقارن التي تبحث عن علاقات التأثير والتأثر بين أدبين أو ثقافتين أو لغتين، هو هنا ينطلق من ذات المفهوم لكن مطبقا إياه على خطابات نوعية بذاتها؛ يدرس تكوينها وتأثيراتها.. إلخ.
– 3 –
تاريخيا تنطلق قراءة جمال عمر لمجمل ما أنتجه الفكر العربي المعاصر من خطابات معرفية ونقدية للتراث ولإشكالات العلاقة الملتبسة بين التراث والتجديد، والواقع المعيش، من اللحظة الجارحة التي ضربت الوجدان والعقل العربي في مقتل في الخامس من يونيو 1967. ويكاد لا يختلف عمر مع غيره من مؤرخي الأفكار والنظم السياسية والفكرية والأنساق الثقافية في تأسيسية هذه اللحظة واعتبارها حدا فاصلا بين ما قبل وما بعد.
هكذا يبدأ عمر في عمله لرصد ووصف ما أسماه “مراجعات في ضوء الهزيمة” انطلاقًا من اللحظة التي تزلزل فيها الوعي العربي، وتلا ذلك حزمة من الأعمال الفكرية والنقدية التي حاولت أن تبلور منظورا للدراسة والقراءة أولا (مشكل المنهج ونظرية القراءة وآلياتها).
وثانيا أنها طرحت الأسئلة المسكوت عنها في الثقافة العربية، ولم يكن من الممكن الاقتراب منها قبل الحدث المزلزل، باستثناءات تؤكد السائد ولا تنفيه. ثم ثالثا، تعدد جوانب ومنظورات التناول والقراءة بحسب الأساس التصوري والنظري لصاحب كل مشروع على حدة.
يتوقف جمال عمر تفصيلا أمام توصيف ما اعتبره (وأنا أكاد أتفق معه في هذا الاعتبار) المشروعات الفكرية والنقدية الأهم التي تلت عام 1967، واستمر إنتاجها وظهورها وتواليها طوال العقود التالية (السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات) وتكاد تختتم هذه المرحلة بغياب أصحاب المشاريع الأبرز في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وأبرز هذه المشروعات يمكن ردها إلى الثلاثة المشهورين بين المشرق والمغرب.. حسن حنفي صاحب مشروع (التراث والتجديد) في مصر، ومحمد عابد الجابري صاحب مشروع (نقد العقل العربي) في المغرب، وأخيرا جورج طرابيشي صاحب مشروع (نقد نقد العقل العربي) في سوريا.
– 4 –
يمكننا القول إن الكتاب ينقسم هيكليا إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
الأول؛ مراجعات في ضوء الهزيمة، وفيه ينطلق عمر كما ذكرنا من لحظة انشراخ الوعي واهتزازه بفعل الهزيمة في 67، ويرصد عمر تكون وتبلور المشروعات الأهم التي تلت الحدث؛ وهي:
خطابنا المعاصر بين المشرقي والمغربي، وحوار المشرق والمغرب، ونقد العقل العربي في ثلاثة عقود، وأخيرا نقد العقل العربي بين التراث والتجديد.
الثاني؛ مراجعات على مراجعات، وهي التي تتناول ما يمكن أن أسميه أنا بدوري “قراءات على قراءات”؛ بمعنى ما أنتجه كل مشروع فكري من قراءة نقدية موازية؛ على سبيل المثال قراءة ونقد جورج طرابيشي المسمى (نقد نقد العقل العربي) الذي بناه على مناقشة ونقد مشروع محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي) في أربعة أجزاء.
الثالث: أما بعد، وهو بمثابة دعوة لممارسة فعل القراءة والنقد مجددا لكل ما سبق؛ فإذا كان علي مبروك قد مارس الفعل ذاته على قراءة طرابيشي لمشروع الجابري، فإن جمال عمر نفسه يغرس بذورا (ستثمر قراءات ودراسات أخرى بالتأكيد) لمراجعة ونقد قراءة علي مبروك وأشباهها في الخطاب العربي المعاصر.
– 5 –
ولا يفوتني التنويه بالنزعة التوثيقية الببليوجرافية الأصيلة لدى جمال عمر؛ فقد استقر في ضميره أن الخطوة الأولى الضرورية والأساسية قبل أي بحث أو قراءة أو دراسة هو ترسيم حدود المادة التي ستكون موضوعا للدراسة، وقد استوعب عمر جيدا أدبيات هذه الخطوة ربما بتأثير نصر أبو زيد أو بتأثير من اهتمامه وانغماسه في درس ما أنتجه قسم اللغة العربية (جامعة القاهرة) بشكل أخص طوال تاريخه.
من هنا تأتي أهمية الملحق التوثيقي الذي أطلق عليه (سجل كتابات حسن حنفي) الذي جمع فيه شتات المادة الهائلة والإنتاج الغزير لمفكر وفيلسوف لم يكف طوال عمره المديد عن الكتابة والتأليف والترجمة والنشر إلى آخر يوم في عمره.
ينضم هذا السجل إلى ما سبق أن أنجزه عمر من عمل توثيقي مشابه ودقيق إلى حد كبير جدا لكل من نصر أبو زيد وعلي مبروك، ولعلي ممن يتابعون جمال عمر وتحديثاته طوال السنوات الماضية؛ فهو لا يكف لحظة واحدة عن تحديث هذه السجلات الوافية كلما توفر له جديد، أو تسنى له العثور على مقال منسي هنا أو هناك أو إشارة مطمورة لم يلتفت إليها أحد.. إلخ.
في ظني، فإن هذه السجلات (توثيقا وببليوجرافيا) هي خرائط إرشادية مهمة وضرورية لكل طالب وباحث ودارس يعن له من قريب أو بعيد قراءة أو درس جانب أو أكثر من جوانب إنتاج هؤلاء المفكرين والنقاد الكبار.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/مرفأ-قراءة-متاهات-التراث-في-الخطاب-العربي-المعاصر