استطلاع – بشاير السليمية
الكتابة العابرة للنوع
حمود سعود: كسر الحدود بين الأجناس الأدبية يحتاج الكثير من الحذر أولًا والذكاء والتجربة ثانيا –
أمل السعيدية: لا يهمني ككاتبة ما يحدث مع نقد هذه الكتابة.. النقد هو عمل إبداعي آخر ومستقل –
وليد الشعيلي: لا نطلق على النص «عابرا للنوع» لمجرد عدم معرفتنا بماذا نصفه –
يونس السيابي: يطالبون الكاتب بتصنيف ما يكتب ليتسنى لهم تذوق الكتابة ونقدها –
مريم الحتروشية: النصوص المفتوحة انثيالات نفس عالقة بين جمال اللغة وحرية الأسلوب –
أمامنا اليوم نصوص مفتوحة غير منتمية لجنس معين، ومع ذلك لا يمكن الإشارة إليها بعابرة للنوع متى ما صعب علينا إدراجها تحت جنس أدبي محدد، ونتساءل متى ما قرأناها عن وظيفة الكاتب أمام ظاهرة تجاوز الأشكال والأنواع الأدبية، أم أنه غير ملزم باتخاذ موقف معين أو ما إذا كان غير ملزم بمعرفة وتمييز حدود هذه الأشكال -أي أنه يكتب وفق رؤيته الخاصة واستجاباته وانفعالاته دون التفكير في تصنيف النص الذي يكتبه- وعن إذابة الحدود الفاصلة بين الأجناس، والاتجاه إلى نصوص جامعة لا تنتمي إلى جنس معين، وهل ثمة ضرورة لمعرفة مآل النصوص من قبل النقاد والقراء وقولبتها في المقابل؟ طرحنا هذه الأسئلة على مجموعة من الكتاب العمانيين الذين يكتبون العابر للنوع.
وظيفة الكاتب
يقول الكاتب حمود سعود الذي كتب هذا النوع في عدة إصدارات: الكتابة العابرة للنوع أو الجنس الأدبي مرتبطة بشكل كبير بالكاتب ووعيه بالأجناس الأدبية، وتعاطيه مع معظم الأشكال الإبداعية، وليست فقط الكتابية، وهذا التعاطي ليس بالضرورة ممارسة هذا النوع من الإبداع، ربما التعاطي هنا الاقتراب من هذه الأنواع الإبداعية والكتابية، حيث إن هذا النوع من الكتابة الذي يكسر ما يسمى بالتجنيس الأدبي ليس سهلا أو في متناول اليد، حيث يحتاج إلى الكثير من الاشتغال الذاتي أولًا في فهم كل جنس أدبي وأدواته وحدوده، ومدى قدرة الكاتب على دمجه بصورة إبداعية مع جنس كتابي آخر. وهذا الدمج والصهر وكسر الحدود بين الأجناس الأدبية يحتاج الكثير من الحذر أولًا، والذكاء والتجربة.
وتقول الكاتبة مريم الحتروشية في وصفها للنص المفتوح: النصوص المفتوحة الجامعة قولٌ لم يعرفه موروثنا؛ لأنها انثيالات نفس عالقة بين جمال اللغة وحرية الأسلوب، نصوص ولدت بهيكلة جديدة للغة الإنسان المعبِّر بها عمّا يختلج في داخله، بعد أن أخذ كفايته من الاطلاع على الموروث، وبعد أن سعى لتغذية ذائقته من آداب الأمم الأخرى.
فيما قال الكاتب يونس السيابي حول وظيفة الكاتب أمام ظاهرة تجاوز الأشكال الأدبية: الذي يكتب ولا يحدد اتجاهه في الكتابة هو يُفرغ ما في أفكاره وشعوره، ويسرد أحداثه اليومية بشتّى أنواعها الحزينة والسعيدة، وهو بذلك يُصنّف كاتبا لكن بنوع جديد من أشكال الكتابة وهو العابر للأنواع أي لا يلتزم بشكل محدد، وأحيانًا يكون قريبا من نوع معيّن أو نوعين من أشكال الكتابة الإبداعية المعروفة لدى النقاد والمحّكمين.
أما الكاتبة أمل السعيدية صاحبة كتاب «مدخل جانبي إلى البيت» الفائز بجائزة الإبداع الثقافي عن مجال العابر للنوع فتقول: لا أظن أنني اخترت الكتابة العابرة للأنواع، لا أعتقد بأن هذا ممكن، فبالنسبة لي الكتابة هي واحدة من الأشياء السحرية التي تردع طوفان هذا العالم المادي، إنها دليل على أن هنالك احتمالات لا نهائية، فرص لا تزال مكتومة في قصص لم تكتب بعد. ولا يمكن للسحر أن يُحدَد أو يُشار إليه، إنه ببساطة لانهائي أي حر، لذلك وجدتُ هذه الطريقة الآن الأفضل للتعبير عن نفسي. لا يخلو الأمر من طابع سياسي بالطبع، لقد حطم آباؤنا كل الأصنام والتقاليد ولم يتبقَ لنا شيء، أتذكر هذه الإشارة بوضوح في كتاب «اللاطمأنينة» لبيسوا، إننا نتعامل اليوم مع عالم منفلت، وفي سياق ما بعد حداثي لا يوجد سرديات كبرى، إن التفكير والكتابة لعب؛ لأنه ما من طريقة لإصلاح العالم بالضرورة، لكننا نحاول أن نذهب بعيدًا فيه، وهذا كل ما يمكن أن نفعله.
ويقول الكاتب وليد الشعيلي: ربما ليس لدي تعريف شامل وجيد للكتابة العابرة للأنواع غير أنها خارج التصنيف، وأنني أكتبها لأنها أكثر حرية وأكثر وصولًا للقارئ العادي أو النهم. شخصيًا أرى أن الأدب هو الجمالية والقوة الروحية التي يمكن بها الهروب من كل قبح وخراب العالم وبؤسه، ومحاربة كل هذا بالأدب، أيّا كان شكله ليس بجديد ربما لدى الكثيرين أن نقول: إن الأهم من تصنيف وتعريف الأدب هو الخطاب أو المعنى الذي يسعى الأدب للتعبير عنه أو بلوغه. وأظن أن الأدب في الغالب يقفز من البنية والإطار إلى المجتمع والأحلام والآلام والنشوة والحالة النفسية للقارئ حينها.
وأضاف: ينتشر الآن أدب نوعي يعكس دواخل الإنسان وارتباكاته ونفسياته وفلسفاته وأعماق ما يفكر فيه، ويمكن إيصال ذلك عبر أنواع شتى من الكتابة، لم يعد الأدب يسرد الماضي والتاريخ والمحيط فقط، إنه يغوص في دواخل الإنسان، والخروج من عوالم ضيقة وبسيطة إلى عوالم وأحلام مفتوحة على كل شيء، والكتابات المفتوحة والعابرة للأنواع يمكنها ملامسة ولسع قلب القارئ بكل ذكاء بلغة ومشاهد قريبة جدًا من روحه.
موقف الكاتب
أما عن موقف الكاتب من هذا النوع من الكتابة، وهل بالضرورة أن يأخذ الكاتب موقفًا منها؟ يشير حمود سعود إلى أن هذا ليس ضروريًا، معللًا ذلك بقوله: «لأن لكل كاتب نظرته وزاويته الخاصة لموضوع الكتابة بشكل خاص والأجناس الأدبية بشكل عام وقناعاته الشخصية كذلك. وهناك من يتعصب لشكل كتابي واحد ويظل مخلصًا له ومحبا له، وهناك من يذهب إلى مناطق التجريب في الكتابة متسلحًا بوعيه الخاص والمختلف، وقراءاته المتعددة والمتعمقة في الأجناس الكتابية الأخرى، وفي جوانب الإبداع. لذا لكل كاتب نظرته الخاصة لموضوع الكتابة العابرة للنوع، ومدى مقدرته على التجريب بوعي في هذا النوع من الكتابة».
وأضاف: يوجد كُتّاب على مستوى العالم كتبوا وأبدعوا في أكثر من جانب كتابي وإبداعي، ولم يجربوا الكتابة الخارجة عن التصنيف، وهذه ملاحظة مهمة علينا أن نذكرها، لذا علينا أن نفرق بين الكاتب الذي يكتب في أكثر من جنس أدبي وإبداعي، وبين كاتب له المقدرة الخاصة والفنية في الدخول إلى عوالم الكتابة العابرة للنوع والتجريب فيها، وهناك من يستسهل الكتابة في هذا النوع من الكتابة وهو ما حدث مع كتابة قصيدة النثر.
أما السيابي فيقول: الذين يدخلون عالم الكتابة ليسوا ملزمين أن يحددوا أي شكل يجب عليهم أن يتوجهوا في كتاباتهم، أفكارهم هي التي تُملي عليهم توجههم وليس النوع الأدبي، والكاتب المبتدئ يجد شيئا من الصعوبة في تحديد كتاباته إلى شكل محدد كرواية أو شعر، ولكن لا يستطيع أن يكبت مشاعره أو لحظات الحزن والسعادة التي تمر عليه في حياته ويجد شيئًا من الراحة في البوح بها عن طريق السرد والكتابة.
وتصف أمل وضعها مع كتابة هذا النوع قائلة: أعرف بأنني أستسلم في العادة لإيقاع اللحظة أثناء الكتابة، أنا لا أوجهُ نفسي، لكنني لا أريد هذا أيضًا، أحبُ أن «أتقن» هذه اللعبة السحرية، ولأنني جزء من هذا العالم بطبيعته كما نعيشها كل يوم أجد في هذه الكتابة تناغمًا مع ما يحدث، إنني ببساطة أتحدث من موقعي التاريخي من خلال طريقة الكتابة هذه، وأظن بأنني أعكسُ التمزق الذي يشعر به جيلي إن كان لي أن أتحدث عنهم.
أما وليد الشعيلي فيقول: الجيد من هذه النصوص ليس سهلًا كتابته وتكثيفه وخلق جوّه النفسي والروحي واللغوي وسرده الأخاذ، ووضع يده على جرح المتلقي وقفلته في فقرة واحدة. وفي عُمان توجد كتابات عابرة للأنواع أخاذة وشهية تأخذك لعوالم حالمة وصادمة بلغة شهوية وفلسفية ساحرة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر: الكثير من كتابات عبدالله حبيب وصالح العامري وفاطمة الشيدي، بها لذة عابرة وجامعة وشاملة لكل الأنواع والأشكال والمضامين في نص وعالم واحد.
إذابة الحدود
يشير حمود سعود في موضوع إذابة الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية وصهرها في نصوص جامعة إلى أن هذه النصوص جديدة في التجربة الكتابية العربية، وأضاف: «هناك أسماء على مستوى الوطن العربي تشتغل على هذا النوع إلى أي مدى ستنجح هذه التجارب؟ فهذا يعتمد على مدى فنية ما يُنتج في هذا النوع من الكتابة أولًا، ومدى تقبل المتلقي العربي لهذه النصوص ثانيًا».
أما مريم الحتروشية فترى أنها نصوص مفتوحة لتماهي الإحساس، وليس من الضرورة أن يتم إنشاء قالبٍ ما، أيّا كان مسماه لنحشر فيه ما سعى الأديب لخلقه في صورة غير قابلة للتأطير.
النقد ومآل النصوص
وحول تعامل النقد مع هذا النوع من الكتابة تقول أمل: لا يهمني ككاتبة ما يحدث مع نقد هذه الكتابة، النقد هو عمل إبداعي آخر ومستقل، إنه رحلة جديدة تماما، وأظن بأن دوري ينتهي منذ اللحظة التي يصبح فيها الكتاب بمتناول يد القارئ. كقارئة أجد بأن لكل جنس أدبي جاذبيته، كما لانعدام شكل محدد للنص جاذبيته أيضًا وخصوصيته التي على الكاتب أن يصنعها من خلال سياق يبرر فيها هذا الشكل بالمضمون.
ويشير السيابي إلى أن الراسخين في الأشكال الأدبية يُطالبون الكاتب قولبة كتابته تحت صنف واحد ليتسنى لهم تذوق الكتابة ونقدها بنظرهم الثاقب، أما القراء على مختلف طبقاتهم فلا يظن السيابي أنهم يُطالبون الكاتب بتحديد نوع كتاباته بقدر ما يسعدهم وجود نص أدبي جميل يلفت الانتباه.
وأضاف: في رأيي الشخصي لا يمكن تقييد الكتابة مهما كانت وأينما كانت، فالإنسان البدائي خلق الكتابة بأسلوبه وأدواته المتوفرة في ذلك الزمن أنواع الكتابة الأدبية معروفة لدى الجميع، وهناك نتاج غزير منها قديمًا وحديثًا، ولها حدود معينة لدى النقاد والمحكّمين، ولا يمنع أن يكتب الشباب الصاعد ما يشاء سواء وافق أسلوب الكتابة الأدبية أو لم يوافق الشروط.
إلزامية معرفة وتمييز
حدود هذه الأشكال
يجيب حمود سعود على سؤال هل الكاتب ملزم بمعرفة وتمييز حدود كل شكل من أشكال وأجناس الكتابة الإبداعية؟ بقوله: بالطبع هو ملزم بذلك، ليس فقط، لكي يميز بين جنس وجنس آخر، ولكن لكي يستطيع معرفة مواضع الدمج في النوع الكتابي مع النوع الآخر أولًا ومناطق التوظيف، ولكي يدرك كذلك مساحات التمازج في الأجناس الأدبية. فحين يستخدم السارد مثلًا تقنية الصورة السينمائية في كتابة نصه السردية؛ فعليه أن يدرك تقنيات السينما في ذلك، أو على الأقل له معرفة بذلك.
ويخالفه السيابي في الأمر قائلًا: لا يصل إلى درجة إلزام الكاتب أن يعرف كل أشكال حدود الكتابة، لا شيء يلزمه لذلك، لكن لكي يدخل عالم الكتابة عليه أن يكون على اطلاع على أدوات الكتابة الإبداعية وأشكالها ولو بحصيلة يسيرة. المواقف اليومية ممزوجة بمشاعر حزن كفقد قريب عزيز أو تجارب حياتية قاسية هي التي تدفع الإنسان لتخليدها وتقييدها عن طريق الكتابة وفق رؤيته الخاصة بغض النظر عن أنها تتجه إلى نوع محدد من أشكال الكتابة أو أنها عشوائية.
فيما يرى وليد الشعيلي أن الكتابة العابرة للأنواع « بالنسبة لي على الأقل أظن أنها خليط من اللغة العذبة والشعر والشذرة والنص القصير والقصة القصيرة جدًا، نص قصير ليس بطويل، به كل التكثيف والقفلة الحالمة أو الصادمة، وبه تصوير سينمائي وفلسفة وجودية، إذا طال كثيرا النص وخلا من الإثارة والمجازات، وما يشبه القصة والشعر فأظنه أحيانًا يصبح مقالًا أو نصًا نثريًا عاديًا مطولًا أو سردًا مطولًا، الكتابة العابرة للأنواع هي نص مفتوح على كل شيء ومزيج وخليط من كل شيء، نص محكم وقوي ومكثف وقصير نوعًا ما غالبًا، وليس لأنه لم نعرف أن نصنفه فقط نطلق عليه «عابر للأنواع»، إنما شخصيًا أظنه جامعا لأغلب الأنواع في احتواء فني ولغوي ومجازي أحيانًا وروحي مكثف وملفت وموخز وقريب من كل قارئ».
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/تجاوز-الأجناس-والأنواع-الأدبية-واتجاه-إلى-نصوص-جامعة-لا-منتمية