خميس العدوي
يحاول سبر طبيعة الإنسان المعرفية، ويضعه في موقع صناعة الحياة، ويرفع عن كاهله شيئا من الظلم الذي لحقه من «ملأ القوم»، و«المَلَئية».. حالة استعلائية قد تتلبس الإنسان، لا تختص بوضع اجتماعي دون آخر، فكل مَن نصّبته نفسه في منزلة استعلى بها على الناس، ومارس وصايته عليهم، وفرض هيمنته خارج سلطة القانون، فهو يعاني من الملئية، سواءً أكان سياسيا أم دينيا أم اجتماعيا أم ثقافيا. وأقصد بالقانون.. التشريع الذي يمثّل الناس حقيقةً، لينظّم اجتماعهم ويرفع عنهم الظلم والتظالم، لتستقر حياتهم وتهدأ نفوسهم، وينعموا بعلاقات اجتماعية متزنة.
لا يوجد إنسان بسيط.. فالإنسان بطبيعة تطوره العقلي معقَّد، تتنوع معارفه، وتتفاوت قدراته الذهنية، وتتباين فرص استفادته من الحياة. فالحديث على وجه التعيين؛ عن إنسان بسيط وآخر مثقف ضرب من الترف الفكري المشوب بغرور اجتماعي، فلو أخذنا ظاهرةً محسوبا صاحبها على البساطة، وهي عدم القراءة والكتابة مثلاً، فهذه ليست محددا لها، بل قد تكون العكس؛ أي تنتج إبداعا فذا. فكم من إنسان لا يقرأ ولا يكتب اخترع أشياء أسهمت في تطور البشرية، وهناك أدباء ومصلحون وأخلاقيون لم يَجْرِ القلم بين أصابعهم، أمدوا الإنسانية بما لا يقل أهمية عمّا قدمه غيرهم ممن يحبّر الأوراق.
عندما نبحث في جذر المسألة، نجد البساطة هي أصلا للوعي، فلا يوجد بالأساس شيء معقد، وما نراه معقدا هو بسيط عند مَن يحسنه، إن أعقد مسائل الرياضيات عند من يفهمها سهلة، وأخطر عمليات الطب عند الجرّاح الماهر معتادة، وأخفى عمليات الذرة لدى الفيزيائي واضحة. بل إن مهندس الشبكات الرقمية قد يبدو له توصيل أسلاك الكهرباء الذي يتقنه عامل الكهرباء صعبا.
البساطة ليست عيبا، فالبسيط.. لم تلمسه الدنيا بخبثها إلا لمما، لبُعده عن ظلم الناس، وإن أصابه شيء من أوشابه فعن غفلة أو اضطرار، أو بما جنى عليه مجتمعه. وهو غير مشتبك بمصائد المصالح، ليس ذا تجارة واسعة فيأكل حقوق الخلق، أو يطفف في الميزان، أو يزوّر العقود. لم يتسلط على رقاب الناس، ولم يأخذ منهم إلا بقدر ما يعطيهم، ولم يَدُس على جراح المكلومين، فجراحه عصمته عن ذلك. يعيش بين أضرابه، يقاسمهم اللقمة ويقاسي معهم المحنة، يفترش أرضهم ويلتحف سماءهم. البساطة.. أقرب أن تكون تاجا من النقاء على رأسه، ووساما من المساواة على صدره. إن استعملتُها في هذا المقام فهي بهذه الدلالة، محمودة المعنى، متشربة بالروح الجميل الذي لم تخالطه شوائب الدهر، ولم تفسده أوضار المجتمع.
البسيط.. يصنع الحياة كغيره، ففي مجتمعنا، كان جيل آبائنا أغلبهم لا يعرفون من القلم إلا شكله، ومن الحرف إلا رسمه، إلا أنهم قدموا ملحمة من العطاء، لو دوّنت لكانت أدبا رفيعا، ولو أنها قصيدة لسار الركبان بإنشادها. وهل الإنسان في مبتدئه إلا كائن لم تَدُرْ القراءة والكتابة في خلده؟ وقد مرت مئات آلاف السنين عليه حتى اخترع الكتابة في آخر خمسة آلاف سنة، نرى اليوم نتاجها ذروة العلم وأوج الفلسفة وأرفع الأدب، في حين أن تلك الحقب المديدة هي من أسّس لهذه المرحلة. علم الآثار والأنثروبولوجيا يقول: إن الإنسان لم يمر يوم عليه لم يتحصل فيه على علم؛ ما بين فضول في اكتناه ما حوله، أو إتقان مهارة، أو نقل تلك المهارة إلى الجيل الذي يعقبه، وهو لا يفعل ذلك عن غير إدراك كما يفعل الحيوان بجبلّته، وإنما يفعله عن وعي وقصد.
الإنسان.. يقطع أشواطه في الحياة وهو يمارس رؤيته فيها، أنتج خيالُه الأساطيرَ البديعة التي لا زالت تبهرنا بعجائبها، ومن رحمها ولدت الفلسفة. وما من أسطورة إلا تحبل أحشاؤها ببُعد فلسفي، وإنَّ أساطير الأولين لا تقل عمقا عن فلسفات المتأخرين، كما لا تقل تأثيرا عنها، إن لم تكن أكثر منها أثرا، كيف لا، وقد تمخضت عن تلك الأساطير المعتقدات الدينية التي شيّدت صروح المعابد وأضرحة المتألهين، وهل بنى الإهرامات العظيمة إلا أناس لا يقرأون كما نقرأ ولا يكتبون كما نكتب؟
ما أعجب الروايات الملهِمة، بل ما أبدع القصائد العصماء، التي سجلت -على قلّتِها- بعضا من أعمال البسطاء وإبداعهم، وآلامهم وآمالهم، وانكساراتهم وأحلامهم. فمَن رصد أعمالهم في تأريخه، وتغنى بإنجازهم في آدابه، وبكى من معانتهم في إلياذاته، واصطنع أحلامهم في خرافاته، لم يكن إلا عالة عليهم، لقد صعد على أكتفاهم، ورقى حاله بدموعهم، ليس له فضل عليهم، وكل الفضل لهم عليه. لولاهم لما ابتكر قاصّ روايته، ولا أنشد شاعر قصيدته، ولا تلا واعظ بين الخلائق آياته. وإن كان لهذا الراصد من فضل لأحد فليس عليهم، وإنما على مَن أتى بعده، فقرأ سِيَر أولئك البسطاء. فهم نجوم السماء وملح الأرض، ولقمة الجوعى وأنين المحرومين، وابتهالات العابدين وشطحات المتصوفين.
ومع كل هذا.. فلا يُكْفَر ما قام به الكُتّاب والفلاسفة والشعراء، بل لهم الثناء؛ خاصة.. أولئك الذين حكوا مأساتهم، ولهم (انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِمَا ظُلِمُوا)، وحوّلوا سلوكهم ومعارفهم إلى مادة مقروءة تتناقلها الأجيال، اعتبارا بحالهم، واستلهاما من نضالهم. علينا ألا ننسى الأصل، ونضع كل الفضل في الفرع، ففي ذلك بخس لحق الكادحين، وجحد لعملهم الذي نالنا ريعه. بل يجب أن يلقى اللوم على الطغاة الذين استغلوا هؤلاء البشر مسلوبي السلطة، فاتخذوا منهم عبيدا خَوَلاً، فعاملوهم كالدواب التي يقضون عليها حوائجهم، ويمتعون بها لذائذهم، ويشبعون منها شهواتهم، واتخذوا منهم عمّالاً سخرةً لجر عرباتهم وفلاحة أرضهم، ولرفع صخور مبانيهم الشاهقة وتنمية ثرواتهم الباهظة.
اليوم.. ليس أحسن كثيرا من الأمس استغلالًا للبشر، وإنما اختلفت الأساليب، وتبدلت الأنظمة، وأوجدت لها في القانون ما يبرر فعلها، وما تفعله الرأسمالية المتوحشة من استغلال الناس باسم «العمالة الرخيصة»؛ لا يختلف عمّا كان يمارسه الإقطاعيون في العبيد، ولربما نظر السيد إلى عبده نظرة رأفة؛ ولو من باب كونه مِلْكًا لا يريد إتلافه. أما أنظمة الرأسمالية فلا تكاد تخرج قيد أنملة إحسانًا عمّا نصت عليه عقود إذعانها، وإلا فماذا يعني أن يكافأ العامل على يومه الذي يَنْسَلُّ من عمره في شقاء العمل وجَهد الإنتاج، براتب زهيد لا يكاد يقيم أوده ويفي حاجة عياله. ويظل الفقير يَنْسِلُ أولادا مستضعفين كأبيهم، فلا يفسح لهم الزمن -إلا نادرا- أن يتحرروا من قيوده المقيتة. وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، فكم من عامل قد سُرِّح من عمله، لأن رب وظيفته انخفض دخله في أزمة يمر بها العالم، أو أخفق في إدارة مشاريعه، وأما استغفاله القانون لينفذ من ثغراته إلى هضم حقوق العامل فحدث عنه ولا حرج.
نوعا ما.. تحسنت نظرة العالم للإنسان البسيط معرفيا، فبعد أن كان مدونو التاريخ -غالبًا- لا يؤرخون إلا للحكام ودولهم؛ قياما وسقوطا، وللقادة ومعاركهم؛ انتصارا وهزيمة، خطوا خطوات محمودة في كتابة التاريخ الاجتماعي، وما التاريخ الاجتماعي إلا أحداث صنعها البسطاء. وتعتبر السينما مِن أهم الملتفتين إلى البسيط، فصنعت له أفلاما تضاهي دراما الملاحم الكبرى وأفلام الخيال العلمي. بيد أنها تبقى منحازة إلى العظمة، مائلة عن البساطة، فهي تروي تاريخ القادة كما دوّن، وتسجل بطولاتهم بحسب وقائعها، وتحفظ سيرهم وتنقلها للأجيال الآتية، في حين.. لا تروي عن البسطاء -غالبًا- إلا حكايات مخترعة، أو روايات منسوجة من خيال التاريخ دون حقائقه، وقد تجاوزت عن أسماء صانعيه.
ويبقى.. البسطاء هم صنّاع الحياة بأناملهم، وهم مَن يسقي شجرة العلم بعرق جباههم، ويشعل شموع الأدب بشعاع عيونهم.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الإنسان-البسيط-يصنع-أدبا