محمد الحضرمي
مع بزوغ فجر القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، كان المُزخرف الجَصِّي عبدالله بن قاسم الهميمي يستعدُّ لتنقيش محاريب مساجد مَنَح، وكان الملك الشاعر سليمان بن سليمان النبهاني يطوي الصَّفحات الأخيرة من عصر النباهنة، وشمس حياته تزحف نحو الأفول، وقد ختمها بوداعِيَّة شِعريَّة باكِيَة: (أمَا لَمَحْتَ البَارِقَ العُلويَّا .. نَآىَ يَمَانِياً فشَمْألِيَّا)، وكانت الأسْرة المُعدِّية والشَّقصِية في بَهلا والمَدَّادِية في نزوى، تصنع الكتب نَسْخاً وتأليفاً، والإمام محمد بن إسماعيل الحاضِري يبسط فراش الرَّخاء الاقتصادي في الداخل العُماني، وفي ذات الزمان، وفي مكان آخر من هذا العالم، كان المحتل البرتغالي «البُوكيريك»، يعد سفنه ويشحن مقاتلاته بالقنابل والمدافع، باتجاه الساحل الشرقي العماني، ليحرق كل مدينة غَصْباً لا تستسلم لسطوته، ولا تخضع لجبروته وطغيانه، ويدمِّر كل ما يمت للإسلام بصِلة، كالجوامع والمساجد، مدفوعاً بحقد ديني مقيت.
الزمان: مطلع القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي.
المكان الأول: حارة مَنَح وما جاورها من مُدُن وقرى.
المكان الثاني: الساحل الشرقي العُماني الممتد من قلهات وقريات ومطرح وحتى صحار.
الحياة في المكان الأول: إعمار بالبناء، وتنقيش محاريب الجوامع والمساجد بالزخارف الجصيَّة، ومؤلفات تُكتب بأقلام الرَّوْغ، والمجتمع العُماني يعيش في رخاءٍ اقتصادي.
الحياة في المكان الثاني: هلع ورعب، فالبوكيرك المحتل وصل الساحل الشرقي العماني، ومعه سفن عملاقة، محملة بالمدافع، لا قِبَل للمدن البحرية الصَّغيرة لمواجتها، وأية مقاومة تعنى الموت والهلاك، وأية رغبة في الفرار تعني الهروب من الرَّمضاء إلى النار، المحتل هو المحتل في كل الأزمنة، شخصية مستبدَّة وغريبة الأطوار، شخصية لا ترحم، ولذلك فعل البوكيرك فعلته في مدن الساحل العُماني، بدءا بقلهات ثم قريات، ومرورا بمطرح وحتى صحار، ثم عودته الثانية إلى قلهات، في ربيع الثاني 914هـ/ أغسطس 1508م، وكانت منارات الجوامع مبتغاه، فلذلك هدمها، وأحرق أسقفها، ودمَّر أعمدتها، وهدم البيوت، وسفك الدماء، وألحق بالناس والأمكنة جورا ما بعده جَورٌ، وكان يمكن أن يكون ما قرأناه في مذكرات البوكيرك، التي جمع وثائقها ابنه غير الشرعي من أرشيف لشبونة، أن تكون مجرد مبالغات من محتل مغرور يتوَلَّى كِبَرَه، ويصف قسوته على قلهات بكل صَفاقة، كان يمكن أن نقول ذلك، ولو خطأ ومجافاة عن الحقيقة، لكن حين زرت قلهات، ووقفت على موقع الجامع، بصحبة الصديقين الشاعرين: سماء عيسى وعبدالله البلوشي، وبتنسيق مع المسؤولين في وزارة التراث والسياحة صيف 2018م، ورأينا أطلال الجامع بأعمدته وأروقته، بعد أن كشفته البعثات الأثرية، وأزاحت عنه أكوام التراب، بعد خمسة قرون من التدمير والغياب، الذي أحدثته حملة البوكيرك فيه، شعرنا أنَّ الفِعْلة أشنَعُ من الوصف، والوصف لم يصوِّر إلا القليل مما حدث، فالجامع تم تدميره وتسويته بالسَّاحل، ولم يبق من الوصف الجميل الذي دبَّجَه «ابن بطوطة»، في كتابه «تُحفة النُظّار»، لزيارته المُهمة لقلهات عام 729هـ/ 1328م، لم يبق من وصفه شيئاً، فما كَتَبَ عنه أصبح حُطاماً، يقول ابن بطوطة: (ومدينة قلهات على السَّاحل، وهي حَسَنة الأسواق، وبها مسجد من أحسن المَساجد، حيطانه بالقَاشَاني وهو شبه «الزلِّيج»، وهو مرتفع، ينظر إلى البَحْر والمَرسَى).
ومن محاسن الأقدار، أن هذا الوصف، أصبح لعُلماء الآثار والباحثين والمنقِّبين، خارطة ومفتاحا للوصول إلى موقع الجامع المطل على البحر، أما الأروقة وصحن الجامع الداخلي المزخرف بالخزف، فلم يصفها ابن بطوطة في تحفته، ولكنها ظهرت في مذكرات البوكيرك، التي ترجمها عبدالرحمن الشيخ، وصدرت عن المجمع الثقافي بأبوظبي عام 2000م، ننقل هذا الوصف منه: (أُشْعِلتْ النار في المسجد الذي يجلُّه المسلمون كثيرا، لأنه كان مبنى كبيراً جداً، به سبعة أروقة، تحفُّها ألواح مُربَّعة، وقد ثُبِّتَتْ على جدرانه كثير من أشغال الخزف، وعند مدخل بوابته رواق كبير مقوَّس، وفوقه شُرفة تطل على البحر، كلها مغطاة بالألواح المُربَّعة، وبوابات هذا المسجد وسقفه مشيَّدة بطريقة مُتقنَة، وعندما أشعل فيه البرتغاليون النار، لم يتركوه إلا رماداً، فلم يبق شيء إلا احترق).
حين بلغنا المكان، كانت أعمدة الجامع طريحة الأرض، بدت وكأنها أجساد قتلى، هُنا كلُّ شيء كما وصفه ابن بطوطة؛ موقع المنارة المطلة على البحر، والمحراب، وبلاط «القاشاني»، ورخام «الزلِّيج» الأملس، وما تبقى منه، يتناثر في ساحة الجامع، وتحت الأسس المحفورة، والجدران المتداعية، والأروقة التي كانت يوماً صَحْناً داخلياً فسيحَاً، تقام فيه الصَّلوات، ويُتلى فيه القرآن، ويُرفَع الأذان، ليصافح الأسماع المُبللة بنسَائم البحر النديَّة.
هذا هو إذن «جامع قلهات»، تشرق في أطلاله الشمس، بعد خمسة قرون من السبات والغياب، كشفته البعثات الأثرية، المتوالية على حفره خلال السنوات الماضية، لتظهر حقيقة وجوده، فهو ليس مجرد وصف أدبي من خيال ابن بطوطة، ولا مبالغة حِقدِيَّة من البوكيرك، هو جامع كبير، ومفخرة من مفاخر الإسلام، في هذا المكان النائِي الجميل، والبعيد عن عواصم الدول، بعيدا عن الدولة العُثمانية، والدول التي حكمت العالم الإسلامي قبل ذلك، ولكن الاحتلال هو الاحتلال، فحين يبلغ المكان، يحوِّله إلى رَحَى تطحن الحَصَى، ومحرقة تأكل الأخضر واليابس.
أخَذتُ أبْصِرُ ما حولي، وأتأمَّل ما تبقى من أعمدة متهالكة ومتآكلة ومتهاوية، تحت نيران المدافع، والمحرقة التي اشتعلت جحيمها فيها، وما ظهر من أروقة الجامع، التي كانت يوماً ما مزدحمة بالمصلين، حتى عاثت وحشية البوكيرك فيها هدماً وحرقاً وتدميراً، يا لوحشية المحتل التي فوَّتت علينا هذه التحفة، فماذا عليه لو أبقاها، لكنه الحقد الذي لم يبق ولم يذر.
ومن موقع الجامع المطل على البحر، إلى موقع «ضريح بيبي مريم» الذي يبدو أشبه بقصر أنيق، قطعنا المسافة مشيا، ومررنا على أكوام كثيرة، صرت أراها بعين الخيال وهي تنهض من سُباتها، وكأنَّي بها تتحوَّل إلى منازل ومساجد صغيرة، فكم هو مؤلم أن نمشي في طريق مُتْرب، كانت تتقابل فيه البيوت، بأبوابها وشُرفاتها، لتصبح أكواماً من حجارة، لا تسمع فيها إلا همساً، كم هو مؤلم أن تتخيل أنَّ هذه المساحة الصَّغيرة كانت تعجُّ بالناس من شتى القبائل، فخرج منها الفقهاء، كالشيخ الأديب محمد بن سعيد القلهاتي (ق: 12م)، صاحب كتاب «الكشف والبيان»، و«المقامة الكلوية» و«القصيدة الحلوانية»، وزارها كبار الرَّحالة: الإيطالي «ماركو بوللو»، والمغربي ابن بطوطة، وشيَّد فيها البناؤون والتجار الموانئ والأسوار، حتى نُكبت بزلزال قوي ضربها في عام 1491م، قبل مجيء البوكيرك بأعوام معدودة، كل هذه الخواطر تتناثر أمام الزائر، ويراها بأمِّ عينيه، فبعض فصول التاريخ لا يكتبه المؤرخون، وإنما يبقى سِرا من أسرار الحياة.
وفي صورة تخيلية لقلهات، رسمتها البعثة الأثرية التي عملت على اكتشاف موقع الجامع، وإظهار أعمدته، وتحديد مساحته الداخلية، وما حوله: الفناء الخارجي والسور المحيط به، وما حول الجامع من منازل وطرقات، كل هذا تم رسمه بصورة تقترب من الواقع، فلو عدنا بالزمان إلى تلك الأيام، لشاهدنا البيوت شاخصة، تطل على البحر، ومنارة الجامع تلقي التحية والسلام على العابرين بين اليابسة والماء. إنه القرن العاشر الهجري، الذي شهد الإعمار والدَّمار في آن، بين الداخل والساحل العماني.
إشارة:
في يونيو 2018م، أعلنت منظمة «اليونسكو» إدراج مدينة قلهات الأثرية، ضمن قائمة التراث العالمي.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-اكتشاف-جامع-قلهات-بعد-خمسة-قرون-من-الغياب