أمل فرح: ليس هناك جغرافيا لأدب الأطفال ولكن هناك جغرافيا للتلقي

حاورتها – بشاير السليمية
تؤمن بأن العالم يتغير عبر الطفولة
هناك مهن ينظر إليها بوصفها مهن درجة ثانية منها الكتابة للأطفال
الكتاب الذي يبهج الآباء والأمهات كأطفال هو المفيد لأطفالهم
الطفولة أعمق مرحلة في عمر الإنسان
يجب ألا ننظر إلى الطفل على أنه غير مكتمل النمو
لم أجد للكاتبة المصرية ومديرة تحرير مجلة ديزني وناشيونال جيوجرافيك باللغة العربية أمل فرح صورة واضحة تدلني عليها، فكل ما وجدت من صور متفرقة في جوجل لم يكن لديها القدرة على تشكيل صورة واحدة وموحدة عنها في ذهني، حتى وجدت امرأة شاعرة ومرهفة، ومتلهفة بقدر كبير لأن نجلس ونتحدث، كيف ينبغي لامرأة تكتب للأطفال وشاعرة في آن أن تكون؟ لا أعرف في الحقيقة، لكن بالأحرى مثل أمل فرح..

سألتها في البدء عن طفولتها كما أفعل مع الذين أقابلهم من كتاب أدب الطفل.
فقالت: أنا من جنوب مصر. من أسوان، من قبيلة عربية اسمها قبيلة الجعفر العبابدة، ويسمونها في مصر «الأشراف» من نسل الرسول، وكنت طفلة محظوظة جدا، لأني تربيت في بيت كله كتب. والدي كان شاعرا ولديه كتب كثيرة جدا، وأخي الكبير كان فنانا تشكيليا، وهو مصمم شخصية «أبو الظرفاء» نجيب فرح، فكان بيتنا كله فن وشعر وأدب. والجنوب بطبيعته في كل بلد به مشاعر فياضة طول الوقت، الوالدة لا تقرأ ولا تكتب ولكنها «قاعدة تعمل بالخيوط والتركوه، تغزل زهور وألوان وأشكال»، فكنت محظوظة إلى أن وصلت لسن الخمس سنوات وبعدها فقدت والدي، وبقى نجيب أخي هو والدي، ومارس معي تصوراته عن الأبوة، وكان يأخذني إلى السينما، ذلك الوقت لم يكن يعرض الكرتون إلا مرة في الأسبوع، والسينما كانت تعرض كرتونا قبل الفيلم، وكان يأخذني لأشاهد الكرتون ثم نخرج، دون أن يحضر فيلم الكبار، وبعدها طول السكة ونحن عائدان يفتح معي حوارا حول انفعالاتي وما حصل للفأر والقطة في الكرتون الذي شاهدناه، لذلك كنت طفلة محظوظة بصراحة.

ألا تعتقدين أن النساء يتسيدن المشهد فيما يخص الكتابة للأطفال؟
«ده مش حقيقي»، وأضافت: من أعظم الكتب الموجودة (الأمير الصغير) وكاتبه رجل، وفي الزمن الأحدث أكثر الكتب انتشارا وتوزيعا للكاتب الأمريكي الدكتور زوز وهو رجل أيضا، الجنس لا دخل له في الأدب، الجودة هي الأساس، ولكن في مجتمعنا العربي هناك بعض الأشياء التي ينظر إليها بوصفها مهن درجة ثانية، منها الكتابة للأطفال والتدريس للأطفال وخاصة الأعمار الصغيرة، وينظر إليها كما يقال في نكتة في مصر «لم يكمل تعليمه فكتب للأطفال»، وهو الأيسر لنساء لم يجدن أنفسهن في الأعمال الخارجية/ الميدانية، فبقين في البيت واعتبرن أن ما يروينه للأطفال الصغار في بيوتهن يمكن أن يكون كتابا وأدبا، وطبعا في ظل غياب رؤية نقدية واضحة، وفي ظل غياب وعي حقيقي بدور هذا الأدب في تنشئة قارئ حقيقي شاعت وسطعت أسماء ليس لها صلة بالأدب وأصبحت هذه هي المقاييس، المقاييس المختلة نفسها نتيجة سيادة أفراد بعينهم على هذه الرؤية.

وكيف نتعامل مع النتاج الضعيف؟
أحب أن أوضح أن ليس كل ما هو موجود كذلك، هناك محاولات حقيقية جيدة ورائعة، وهناك أناس رائعون وكاتبات رائعات، لكن المستسهل هو الأوفر، وزمان كنا نضرب المثل بأن النقطة السوداء تظهر بوضوح في الرداء الأبيض، الآن كثرت النقاط السود لدرجة أن الرداء لم يعد معروفا، هل الرداء أبيض وفيه نقط بيضاء أم الرداء أسود وفيه نقط بيضاء؟. أصبحت هذه المخيلة هي المسيطرة وليست على أدب الأطفال وحسب ولكن على مستوى الثقافة العربية، لأنه دخل بشكل واضح جدا وأصبحت كل الكلمات لديها إزاحة، فكلمة الثقافة أزيحت لصالح كلمة الصحافة وكلمة الإعلام أزيحت لصالح كلمة الإعلان، وكل الكلمات الدالة على محتوى أزيحت لصالح المستهدف.

إذن كيف يمكن للآباء والأمهات أن يختاروا لأبنائهم الأفضل؟
يجب العودة بشكل حقيقي لسلم قيم حقيقي في تصرفاتنا تجاه أطفالنا، وإحساسنا بالمسؤولية تجاههم. يجب قراءة الكتب التي يتم اختيارها للأطفال ليس بعين الإلهاء أو الرسالة المباشرة. يجب النظر إلى ما يجمع طفولتنا نحن، لهذا أتحدث عن نفسي دائما أني أكتب للطفولة وليس للأطفال، لأن الطفولة مرحلة تعيش في كل الأعمار، حتى الأمهات يجب أن يقرأن هذه الكتب فتشعر كل منهن كطفلة بأنها سعيدة بهذا الكتاب، يجب على الآباء والأمهات أن يعرفوا أن الكتاب الذي يبهجهم كأطفال هو المفيد لأطفالهم.

وإذا أبهج الكبار سيبهج الأطفال بالضرورة.
بالتأكيد. سيكون ذا محتوى فلسفي، وليس بهذا الاستسهال والسطحية في معالجة الأمور، وذا محتوى جمالي وليست المعالجة المباشرة للأمور سيتطلب العمل عليه مجهودا وتعبا حتى يقنع هذا العقل الكبير باستدعاء طفولته. وأضافت: لهذا أتمنى من كل أم وأب وولي أمر أو من هو مسؤول عن طفل أن يقرأ معه هذا الكتاب، صدقني ستستمتع بوقتك وتستعيد طفولتك، وفي الوقت نفسه ستتأكد أن هذا الكتاب يستحق أن يقرأ.

قرأت لك «أين اختفى آخر الديناصورات» وكذا الحال مع «أنا إنسان»، و«بطريقة أخرى»، و«أريد أن أكون سلحفاة»، و«الشجرة»، كيف تستطعين تجاوز التلقين والانتقال به إلى أفكار غريبة ومدهشة؟
أنا أصدق أن الطفولة هذه أعمق مرحلة في عمر الإنسان، وهذا ما يثبته العلم الآن، أن الطفل يولد وفي رأسه 100 مليار خلية مستعدة لتلقي العلم بطريقة أو بأخرى، وما يتبقى في هذه المخيلة هو الذي يعيش به الإنسان عمره كله، فكأن الخزنة لعمرك كله هو هذه المرحلة من الطفولة، وبالتالي لا تستصعبي أي موضوع. لدي كتاب اسمه الخفي يتكلم عن الموت، وكتاب طبعا طبعا جدا جدا أبدا أبدا يتكلم عن الجسد أنا أعالج الموضوعات التي تبدو وكأنها لا يجب أن نتحدث عنها مع الأطفال.

فتذكرت أني قرأت العنوان الأخير قبل ثلاث سنوات، فقلت: تتناولين المسكوت عنه بطريقة رائعة
فقالت: وأحب تناولها في الحقيقية، لأنه هذا الطفل ويجب ألا ننظر إليه على أنه غير مكتمل النمو، هو إنسان مكتمل النمو العقلي والعاطفي ولكن يحتاج بعض الخبرات المعرفية، فيجب أن نمد له يد العون لتعميق معرفته الأولية للعالم، وهو قادم من طزاجة عالم رحب، وهو في بطن أمه، وهذا ليس عالما بسيطا أو سهلا، لقد كان في بطن أمه يسمع دقة قلب وحركة أمعاء وحركة معدة ويفرق بين الأصوات ويأكل خلاصة الطعام وليس كل ما يؤكل، وعندما يخرج للحياة يجب أن يأخذ خلاصة الفكر.

لقد مددتي العون للآباء والأمهات عبر كتابك «طبعا طبعا جدا جدا أبدا أبدا» وليس للأطفال وحسب.
أكتشف هذه الأمور دون أي خجل، وكل الإجابات التي تم تقديمها للطفل هي صحيحة وعلمية، ولم أستخدم أي كلمة لها معنى آخر، ولكنها ليست مباشرة أو فجة كل الموضوعات تستطعين التحدث عنها مع الطفل، يجب أن يشعر الأطفال أن الأم والأب والكتاب هم الركن الركين الآمن لالتقاط الأنفاس ومعرفة العالم.

هل تعتقدين أنه من اللازم أن يكون لأطفال كل منطقة أو بلد قصصهم الخاصة بهم؟
«حنعمل التشبيه الأوفر في الاستخدام ولكنه ليس الأمثل» وهو الخاص بفكرة الطعام وثقافة الطعام، جميل جدا أن نأكل أطعمة العالم، ونتعرف على مطابخ مختلفة، وقد تميل ذائقتنا للمطبخ الإيطالي مثلا أكثر من مطبخنا المحلي ولكن من المهم أن نتعرف على مطبخنا المحلي، ومهم جدا أن نعرف كيف يتكون جزء من هذا اللحم والعظم من مطبخنا المحلي. الهدف أنه ليس هناك جغرافيا لأدب الأطفال أو مكان حاكم، ولكن هناك جغرافيا للتلقي هناك موضوعات يجب أن يتلقاها الطفل في طفولته ليعي انتماءاته في شبابه ومرحلة كبره يجب أن يقرأ كل شيء، ولكن يجب أن يعرف كل شيء عن بلده، يعني يجب أن يقرأ أشياء عن العالم ويعرف كل شيء عن بلده، وعندما يعرف كل شيء عن بلده يمكنه أن يعرف كل شيء عن العالم، لكن في البداية في الوطن العربي على وجه الخصوص نحتاج إلى تعميق الهوية الوطنية، وعلى فكرة كلمة وطن هي أوسع من مساحة الجغرافيا، كلمة وطن مرتبطة في الحقيقة بالتاريخ أكثر من ارتباطها بالجغرافيا، ونحن للأسف تحدد الجغرافيا حروبا وقرارات وقناعات سياسية/ سيادية ليست بالضرورة من مجتمعاتنا، فنحن كعرب، العروبة كلها وطننا والإسلام كله وطننا. الوطن هو المساحة الأرحب للالتقاء، المساحة التي ألتقي فيها معك في سلم قيم مشترك، وعلى هذا يكون من المهم جدا معرفة أطفال عمان أدب عمان والأدب العربي والأدب العالمي.

ما الذي تجدينه الأكثر صعوبة في الكتابة للطفل؟ هل العودة لأن تكوني صغيرة كما يقول الأغلبية؟
ليس لدي الصعوبة في أن أعود صغيرة لأني صغيرة، فضحكنا بعد جملتها تلك، وقالت: «يعني إيه صغيرة؟؟» أن تكون لديك الرغبة في المعرفة طوال الوقت، والرغبة في التجريب طوال الوقت. أن تكون عندك قدرة على الاستيعاب طوال الوقت، وعندك مخيلة متقدة طول الوقت. وعندك عدم خوف طول الوقت، كلمة «صغير» يعني مجموعة مفاهيم لصالح الكاتب، وعموما سواء كان الكاتب كاتب أطفال كاتب كبار كاتب سياسة يحتاج هذا التكوين ليلتقط العالم ويلتقط الأفكار من حديقة أفكار العالم، إنما مشكلتي الحقيقية في الكتابة هي عندما تتحول وترتدي الفكرة اللغة، أنا مشكلتي في اللغة، كيف يمكن أن أقول الفكرة بأقل الكلمات وأعمق المفاهيم لتبقى طويلا؟! هذه هي مشكلتي.

لماذا لم نستطع في الوطن العربي صناعة شخصيات أو أبطال تبقى طويلا كما يفعل «توم وجيري» وشخصيات عالم ديزني وآخرون؟
سأجيب عليك بإجابة تبدو بعيدة عن الموضوع ولكنها لب الموضوع. أنت تشعرين باحتياجك لوجودك كفرد عندما يظهر الآخر، وعندما تدركين أن هناك آخر تدركين أهمية أن تكوني موجودة كنموذج، ووجودك كنموذج تريدين تصديره لهذا الآخر ليعرفه جيدا، وانعدام إحساسك بأن هناك آخر لأن الآخر استلبك كليا، وتشعرين أنك تابع لهذا الأنا. عندما تنظرين للآخر أنه الأنا المحسنة، وأنني أريد أن أكون تلك الأنا المحسنة في الآخر سوف لن تستطيعي أن تنتجي تجليات ذاتية، وما دام أن ديزني وتوم وجيري وكل السوبرهيرو هم النموذج الأمثل لأطفالنا لن يستطيع الواقع العربي إظهار نموذجه الخاص إلا عندما يدرك صناع ثقافة الطفل أن هناك آخر يهدد مساحة الأنا ويهدد ثقافة الأنا ويهدد منظومة قيم الأنا، بعدها سينتج شخصية حقيقية، وعندما شُعر بهذا في السبعينات ظهرت مجلات الأطفال مثل مجلة العربي وماجد وسمير مع الثورة المصرية في 1952 وكل مجلات الأطفال ظهرت في مرحلة كانت تشعر فيها الأمة العربية أنها «أنا موازٍ لآخر» وأنها موجودة وتعبر عن ذاتها في ملبسها وكاركتارها وطفولتها وكل شيء، ولكن الآن الإدراك للأنا غير موجود، والآخر بالنسبة لنا مؤتمن، تأمنين أن تكوني هو، وعندما تشعرين بأن هذا الآخر مهدد حقيقي، علاوة على تأكيده كل يوم بأنني أهددك، ونحن لا نريد أن نسمع التهديد ومصرين على الاستمرار في الغياب ولن يكون هناك حضور لغائب، الحضور للحاضرين في المشهد هنا والآن.

ما الموضوعات الغائبة عن نتاجات أدب الطفل في رأيك؟
كل ما له بعد فلسفي حقيقي. وهي لا تغيب ولكنها تنزوي وتقل. لا أستطيع أن أقول: إنها تغيب ولكنها قليلة ويجب التوجه لها بقوة. وأضافت: أريد ألفت نظرك إلى أننا أصبحنا -حتى الكتاب- يسيطر عليهم منطق الموضة، فيما مضى يقال: لم أستطع أن أكتب لأني لم ألتقط الفكرة بعد أو أتأخر في الكتابة لأنني أعيشها داخليا، الآن أرى بعض الكتاب والكاتبات يقولون «الأطفال يفعلون كذا سأكتب عن ذلك»، يكتب عن أشياء لمجرد أنها الموضة الآن، كأن يكتب عن أطفال يدمنون الديجيتال، ولكن هذا الموضوع سيكتب في دراسات ومقالات توجه للأمهات والآباء ولكنه لا يخرج إبداعيا للأطفال، نحن لا نكتب للأطفال «عن» ولكن نكتب لهم «من»، والقضية هكذا.

كيف ترين الإنتاج والإصدارات في أدب الطفل في الوطن العربي إذا ما قارناها بالإنتاج في الغرب؟
أصفه بالمفرح. لدينا إنتاج غزير كمّا، وكيفا في ظل الكم بالضرورة. نسبة الكيف التي فيه مهما قلت كثرت لأن الكم كبير، وبالتالي لدينا ما يمكن أن نوجد به أنفسنا في الخريطة العالمية، لكن أين الآلات التي تشتغل على هذا النجم في سماء العالم الثقافية؟! أين المؤسسات المشغولة بتنجيم من يستحق النجومية والظهور للعالم بوصفه من يمثلنا في هذه المساحة؟! أين هؤلاء؟! والكاتب الحقيقي ليس لديه الوقت للقيام بهذا الدور في حق نفسه لأنه منشغل بحقيقة ما يفعل.

ما الذي تشتغل فيه أمل فرح حاليا؟ هل ثمة شيء جديد قادم؟
أشتغل حاليا في مشروع مهم جدا للطفولة المبكرة، وأعتقد أنه من أعظم ما قمت به في حياتي، لأني مؤمنة بأن العالم يتغير عبر الطفولة وأنا سعيدة جدا بالتجربة، وعلى المستوى الشخصي دار شجرة قريبا ستصدر كتاب عن الفلسفة للأطفال.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أمل-فرح-ليس-هناك-جغرافيا-لأدب-الأطفال-ولكن-هناك-جغرافيا-للتلقي