خميس بن راشد العدوي
المقال.. لا ينطلق من فكرة هدم أدلة الإلحاد، ولا إشادة أدلة الإيمان، لأن الإلحاد حالة سلبية؛ أي أنه عدم، لا يملك التدليل عليه. وأما الإيمان بالله فمستودعه النفس، فهي وحدها من تجد دليله في مستقرّها. والأدلة البرهانية معرفة عقلية؛ لا تقيم الحجة على الآخر إلا بالتسليم المنهجي بين الطرفين المتناظرَين. فمثلاً.. لا يمكن أن تستعمل دليل خلق الكون برهانا على وجود الخالق؛ إلا مع مَن يتفق معك بأن هناك كوناً حادثاً، أما مَن يعتقد بقدم الكون؛ فلا قيمة لهذا الدليل لديه. ولذلك.. يأتي الحديث هنا عن الإلحاد في نطاق المنظومة المعرفية، وهذا لا ينفي بأنه لا وجود له في عمق النفس، فالإيمان بالله أرسخ فيها من أن تقتلعه رياح التقلبات المعرفية. فالمقال -إذاً- يحاول اكتناه المنظومة المعرفية التي يسكن فيها الجدل حول الإيمان والإلحاد.
لقد نظرتُ إلى مجتمعنا.. فوجدت قضية الإلحاد تدور فيه على أربعة محاور:
– الجدل حول الإلحاد والإيمان بالله؛ جلُّه قائم على العراك البياني المتعالي، كل طرف يتهم الآخر بالجهل، ويحتدّ بوصف المؤمنين بأنهم خرافيون، وسبب تخلّف البشرية وآلامها، وبالمقابل.. نعت الملحدين بأنهم ماديون عملاء لمنظمات عالمية هدفها إفساد البشرية، وخارج هذا السياق لا يكاد تجد حواراً يهدف للوصول إلى نتيجة محددة لدى الطرفين.
– البحث عن أجوبة لشكوك النفس، وغالباً.. ليست حول الإيمان بالله، وإنما حول مصدر الدين.. أهو من عند الله؟ وهل النبوة صحيحة وكتبها مُنزّلة؟ وهي شكوك أقرب للهواجس من كونها اقتناعا بعدم المصدر الإلهي للنبوة ووحيها.
– البحث في ظاهرة الإلحاد، ومقدار وجودها في المجتمع، وكيفية مواجهتها، ومدى نجاعة الجدل في رد المتشككين لجادة الإيمان. وكثير من هؤلاء غرضهم البحث العلمي. أو لقاءات عابرة يفرضها الموقف.
المقال.. يتحدث عن الإلحاد بصفته ظاهرة معرفية وليست اجتماعية، فعلى نطاق مجتمعنا لم أقف على كونه ظاهرة اجتماعية، وكل ما يُلاحَظ أنه جدل معرفي، أقرب أن يكون عابراً، ما إن تنتهي إثارته حتى يختفي كثير منه. ظاهرة برزت في وسائل التواصل الرقمي، متبنوها -غالباً- لا يشاركون بأسمائهم الحقيقية، مما يشير إلى عدم وجود حاضنة اجتماعية للإلحاد، ولذلك.. لا يشكّل منظومة؛ لأن المتشككين في الإيمان كلٌ له منزعه وسببه، فلا تستطيع نظمهم في سلك واحد.
على مستوى التطور المفهومي للإلحاد.. تعريفه متعدد؛ فقد يعني الهرطقة اللاهوتية والزندقة الدينية، أو الشك في الإيمان، أو رفض حكم ديني، أو إنكار النبوة، أو إنكار خالق الوجود، أو إنكار “إله الأديان”؛ أي مفهوم الإله كما يعتقده متّبعو دين ما. فالله.. في التصور اليهودي يختلف عنه في التصور المسيحي، وكلاهما يختلفان عنه في التصور الإسلامي. أو إنكار مفهوم الله بحسب المذاهب؛ ففي المسيحية.. مفهوم الله عند البروتستانت ليس هو عند الكاثوليك، وفي الإسلام.. عند المشبهة يختلف عنه لدى المنزهة. وهذه المفاهيم تختلط في دائرة الجدل حول الإلحاد بين الأطراف، فقد يتصوّر البعض أن المتدين عندما يَصِم غيره بالإلحاد أنه يقصد إنكاره لله، وعند الفحص تجد المتَهم لا يصدّق صحة بعض الأحاديث المنسوبة للنبي الأكرم، أو يرفض تقديم ظواهر النصوص على دلالات العقل، وعند الجدال كل شيء يستجاز.
إذاً.. ما أقصده بالإلحاد هو إنكار خالق الوجود رأسا، وليس إنكار التصورات التي يعتنقها الناس عن الله. ولنستبين ذلك؛ فأمامنا أربعة مستويات:
– وجودي، فحقيقة وجود الخالق قائمة بذاتها، لا علاقة لها بالأدلة التي يبديها الناس، فهناك كونٌ له مُحدِث، فمهما تنازع الناس في اسمه، أسَمَّوه طبيعة، أو نواميس، أو خالقاً مطلقاً، أو الله، إنكار هذه الأسماء لا يمس المسمى؛ فنحن أمام وجود لا بد له من مُوجِد.
– نفسي، الإيمان بوجود خالق موقعه النفس، فكل إنسان لديه حجته الداخلية للإيمان به، ولكن ليس بالضرورة عنده القدرة على أن يقنع غيره بإيمانه.
– منهجي، الإقرار بوجود الشيء يتطلب أمرين: إما أن يكون حاضرا محسوسا؛ فبرهانه قائم بالإحساس به، أو غائباً غير محسوس، فحتى تثبت وجوده لغيرك؛ لا بد أن تُسلِّما معاً بالدليل، فالاختلاف في التسليم به؛ يجعله غير معتبر مع مَن لا يسلّم به.
– ديني، يرتكز على معتقدات الدين، فالإله.. عند النصارى ليس هو عند اليهود أو المسلمين أو الهندوس، وهذا المستوى هو الأكثر عرضة للإنكار، فغالبا.. مَن ينكرون وجود الإله فهم ينكرون التصور الذي تقدمه الأديان، ففلاسفة التنوير ينكرون المعتقد المسيحي في الله، كما أن المنزهة في الإسلام لا يقرّون بتجسيم الله.
قدّم القرآن وصفاً دقيقاً لمفهوم الألوهية، فالله ذاتاً غير مُدرَك بالحواس، بل ولا بالعقول، تلخص ذلك مقولة تنسب لأبي بكر الصديق: (العجز عن إدراك الله هو الإدراك)، أخذاً من قول الله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) و(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). فالعقل.. من طبيعته أن يقيس، ولأن الله ليس له مثال، فالعقل لا يستطيع أن يقيسه على شيء، أو يقيس شيئاً عليه، وقد أحال القرآن للإيمان بالله إلى النظر في الوجود وتدبره.
الإلحاد قديم.. وقد رُصِد عبر التاريخ الإنساني المنظور، وهو يبرز بكونه ظاهرة معرفية ملاحَظة؛ عندما تفشل المنظومات الدينية على التعامل مع المجتمع معرفيا ومسلكيا، لأن الإلحاد بصفته ظاهرة هو ذو علائق اجتماعية، يؤثر بعضها على البعض، ويأتي في المقام الأول عدم قدرة هذه المنظومات على تقديم أدلتها لإثبات وجود الله، وأؤكد أن عدم القدرة على ذلك لا يعني عدم وجود أدلة للإيمان بالله، فهي -كما قلت- أدلة يجدها كل فرد في نفسه، وإنما يعني رفض الأدلة المعرفية التي تقدمها هذه المنظومات، والتي كانت يوماً ما صالحة للمجتمع، ولكن لأن الحياة تفرض معارف ومناهج جديدة؛ فيلزم أن تكون الأدلة مناسبة لعصرها.
ومن أسباب ظهور الإلحاد جمود المنظومات الدينية على منتجاتها المعرفية القديمة، فهي تقدّم أحكاما فقهية وفق قواعد أصولية، وحججاً عقدية بحسب أدلة كلامية، نشأت منذ ألف عام، ولا تزال تفرضها على الناس. وهي لا تقيم الأدلة على وجود الله بمقدار أنها “تحارب الملحدين”، مما يجعلها تخوض حربا اجتماعية وليست إيمانية. كما أن جَعْلَ الله طرفاً في الجدل كأنه هو المدافع عن ذاته، أو أنه أوحى للمجادِل بأدلة وجوده، من عوامل تفشي الإلحاد معرفياً. فعندما يتهدد المتدين الملحد بأن الله سيدخله النار إن لم يؤمن به؛ فهذا لا يحل المشكلة، وإنما يشعره بأن المتدين مفلس من الأدلة، فلجأ إلى الوعيد. فالإلحاد.. في حقيقته ليس دليلاً على إنكار وجود الله، وإنما هو رغبة في الخروج عن المنظومات الدينية التي انتهى دورها في رفد الساحة الاجتماعية بالزاد الروحي، وعندما تستجد منظومات قادرة على تغذية العقل منهجياً فستنحسر ظاهرة الإلحاد.
هذا لا يعني عدم وجود دوائر تبث الإلحاد، فهو معتقد كسائر المعتقدات، له مَن يدافع عنه وينشره، إلا أنه في عالم صراع الأفكار لا يُلام الخصم، فالخصم.. من طبيعته السعي للانتصار، إنما تُلام المنظومات الدينية التي تعتقد أن الإيمان بوجود الله واضح لدى غيرها وضوحه لديها، بل وناصرها وقاصم أعدائها، ولكنها تفشل في إثبات أدلة وجوده، وكلما مرّ زمن تنادت بأن الإلحاد استشرى في المجتمع، كأنما تقتات لبقائها ببقائه. على هذه المنظومات أن تتخطى مناهجها القديمة؛ وتسعى لإيجاد نظرية قادرة على الإجابة عن الأسئلة الوجودية، وعلى إدارة الشأن الديني في المجتمع، وإلا فإن الحياة ستفرض الرأي الأقوى اجتماعياً، والذي ليس بالضرورة هو الرأي الصحيح برهانياً.
* خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ مؤلف كتاب “السياسة بالدين”
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الإلحاد-رغبة-بالخروج-من-الأنظمة-المنتهية