أضاميم.. «مخرافة» رطب من نخيل عمان الباسقة

محمد بن سليمان الحضرمي
ذكريات القيظ لا تُنسى، تتجدد فينا كل صيف نحن أبناء القرى، أبناء الضواحي والنخيل الباسقة، منذ أن يبدأ الطلع النضيد في الظهور بين السَّعف، وكأنه أزهار الكيذا، سوف تتفتح بعد حين، فتفوح منه رائحة النبات، وتظهر الشماريخ البيضاء كاللؤلؤ، ولنا مع النخيل ذكريات، فبعد «التنبيت» تأتي مرحلة «التحدير»، وإنزال العُذوق إلى السَّعف الأسفل، لتبدو أشبه بالقمر محاطًا بهالة من السُّحُب، وحين يبدأ فصل الصيف بالتوهج، وبسر النخيل يتغيَّر لونه إلى أحمر وأصفر، تبدأ تباشير الرُّطَب تظهر في بعض النخيل، ويتهادى الجيران بأول القطاف، وتتدلَّى “مخرافة” الرُّطب من الأيادي، مملوءَة بسيِّد الفواكه من سيِّد الأشجار.

وفي النخيل صَاغ الشعراء قصَائد حلوة الحُروف ورقيقة المعاني، تغزَّلت بالباسقات العاليات المنيفات، الشامخات برؤوسهن حيث النَّدَى والغَمَام، وفي سعفهنَّ يهدل اليَمَام، النخيل الخافضات ثمرهن إلى متناول اليد، رُطَبًا جَنيًا وتمْرًا شهيًا.

ونمرُّ على النخيل، نمسح أغصانها وعذوقها المُحمَّلة بالثمر، فنشعر بالنخلة تخضع سعفها، تواضعًا لهذا الإنسان الحَنُون، الذي يمسِّد أهدابَها، أو يقطف رَطبة بدت أشبه بحَلَمَةٍ ناعمة متدلِّية، تنتظرُ من يقطفها، ويلقمها فمه النَّهم.

وتميس النخيل من اعتلال النسيم، فتبدو أشبه بالعَرائس، سامقات بجذوعهن وطلعتهن البهية، يدنو منها الثمر، بين أحمر كالعقيق وأصفر كاللؤلؤ، كل نخلة لها جمالها الخاص، تستحق أن تُقال فيها قصيدة، وتصاغ فيها حِكاية، فالنخلة أنثى حسناء، تحب من يحبها، النخلة خدينة للإنسان الذي يعيش في القرية، يعرف أسرارها أكثر من غيره، وتبث له أحزانها وأوجاعها، وعطشها وجوعها.

وفي قصة طريفة من نسيج الخيال الشعبي تقول: (إنَّ بيدارًا قرّر أن يقطع الماء عن ضاحية من ضواحي نخيله، ويحرمها من السَّماد، فجاءها وقال: لا أسقيك، فقالت له: لا تسقيني، فقال لها: لا أسْمدك، فقالت: لا تسمدني، ثم قال: لا أزورك، فردَّت عليه: إلا هذا، فذهب في حال سبيله، وقطع عنها الماء ومنع السَّماد، وذات يوم أتى إليها، فوجدها في حال يُرثى له، فحنَّ قلبه عليها، وعاد لريِّها بالماء، والاعتناء بها)، وهذه قصة من التراث الزراعي الشفهي، مدلولها أن الإنسان عليه ألا يهمل ما يملك.

وأبناء القرى، أبناء الجَنات المَعرُوشة كالعِنب وسواه، وغير المَعرُوشة كالنخيل، يعيشون في الضواحي، ويعرفون أن للنخيل نسَبًا كريمًا، يعرفون أن هذه النخلة من تلك النخلة، وتلك من الضاحية تلك، وتلك هدية من فلان، وأخرى نخلة غريبة، جاء بها فلان من أرض بعيدة، وعند جيراننا نخلة تسمى «الغَرْ»، أتوا بها من البَحرَيْن، فهي نخلة غريبة، لكنها بين النخيل كعروس حسناء، وكل النخيل باختلاف أنواعها لها أصل كريم، ولذلك تجود بأطيب الثمر.

وفي النخيل، سَبَك الشعراء العمانيون قصائد بطعم الرُّطب الجَنِي، وكتبوا في أنواعهن وأوصافهن، وأبلغ ما وصلنا من شعر، قصيدة عبدالله بن سليمان النبهاني السَّمَدِي النَّزوي (ت: 1933م)، ضمَّنها الأديب محمد بن راشد الخصيبي كتابه «شقائق النعمان»، مطلعها: (تيهِي عُمانَ بكلِّ فخرٍ مُسْتَتِم)، ومنها:

وكَفَى إذا ما القَيظُ جَاءَ مُبشِّرًا

فالناسُ تَصْرِفُ نَحْوهُ كلَّ الهِمَمْ

«مِزْنَاجَةٌ»، «بَطَّاشَةٌ» و«نغالَةٌ»

هَذي أوَائلُه ُو«قنطَرَةُ» الأشَمْ

وكذلِك «المَنحِيُّ» يأتي أوَّلًا

ويليه ذلكُمُ «النَّعيمُ» فقد نَعُمْ

وتَرى «الخُنَيزِي» بينها مُتهدِّلًا

كقلائدِ اليَاقوتِ بل أغلى قِيَمْ

وله «الخلاصُ» قرينةٌ لكنَّما

بعْضٌ يُفضِّلُها عليه في الأمَمْ

ومرة أخرى يتحفنا «الشقائق»، بقطعة من شعر أبي وسيم خميس بن سليم السَّمائلي، في وصف نخلتي «الخُنيزي» أو «الخُزيني»، و«الخلاص»:

خَزَنَ الوَرَى مِن كَنزِهِمْ ياقُوتُهُ

لمَّا غَلا فلذا دَعُوهُ «خُزَيْني»

ورأى «الخَلاصَ» مُقدَّما لخُلوصِهِ

بَعضٌ رُويدك مِثلُ عَينِيَ عَينِي

وإذا تطاول ثالثٌ لهُما فدَعْ

سَوطًا يقارعُ صَارمَيْنِ اثنَينِ

كُلُّ النَّخِيل بهِ العُيُونُ قَريرةٌ

لكِنَّ ذَينِ أقرُّ للعَينَينِ

كلُّ النُّجومِ بها السَّماءُ مُنيرَةٌ

والنُّورُ كلُّ النُّورِ في القمَرَينِ

ومع أن النخيل في عُمان بأعداد كثيرة، وأصنافها كالقبائل، إلا أن التراث الأدبي في هذا الكائن النباتي، لا يسعفنا إلا بعدد قليل من المؤلفات، والقصائد التي قيلت فيها قليلة، وبعضها مقطوعات شعرية قصيرة، بخلاف علوم البحار والإبحار بالسفن، فقد وثقتها كتب «الرَّحْمَانيَّات»، وذكَرتْ مجاري البحر، وأنواع السفن، ومطالع النجوم، والأوقات المناسبة للسَّفر، والرياح التي تهب، وقدمت خرائط تفصيلية تصل بين البحر والسَّماء، بخلاف علوم الفلاحة وخاصة النخيل، فقد زرعها الإنسان العماني منذ الألف الثالث قبل الميلاد، إلا أن الكتب والمؤلفات فيها شبه نادرة.

ومع هذا النقص والشح في الأدبيات الشعرية العُمانية في وصف النخيل، يأتي الأديب سعود بن حمد السالمي، فيُحدث نشوة بين الشعراء، منتصف التسعينيات الماضية، بنشره ديوان شعر صغير: «دارس»، خصصه في وصف نخلتي «الزَّبَد» و«النَّغَل»، أو «خلاص عُمان»، يضم 25 قصيدة، تشارك مع المؤلف في نظمها مجموعة من الشعراء العُمانيين، وأصحاب الفضيلة القضاة.

ومن سياق نشر القصائد، فإنَّ تفضيل نخلة «الزَّبد» على نخلة «النَّغل» أصبحت قضية، أوصلتها إلى المحكمة للنظر فيها، فحدث استئنافان للحكم، ثم حُكم آخر صدر من قضاة الاستئناف، وتأييد شعري لما حكم به القضاة، ثم الحكم بعد التظلم، لتنتهي بأن الزبد والنغل صنوان، وقد سارت القصائد في سياق من المحاكمة الأدبية اللذيذة المتخيلة، أبطالها قضاة حقيقيون، مؤكدين على حب النخيل، بمختلف أنواعه وألوانه.

ومن الوصف ومديح الطعم، وتفضيل رطب هذا وتمر ذاك، يقدِّم ديوان «دارس» للسالمي، أبكى قصيدة في رثاء «صَرْمَة الزَّبد»، تذكرنا برثاء ابن الرومي لولده الأوسط: (بُكاؤكمَا يَشْفِي وإن كانَ لا يُجْدِي)، ورثاء التهامي لابنه الأصغر: (حُكْمُ المَنيَّةِ في البَريَّةِ جَارِ)، أما صُريِّمة الزبد، فقد رثاها سعود بن حمد في «دارس»، بقصيدة من تسعة أبيات، كل بيت بمثابة دمعة حارقة على صَرْمَةٍ عزيزة على القلب، ذكرها أخوه الدكتور إسماعيل بن حمد السالمي في مقدمة كتابه: (النخلة في الأدب العماني والعربي) بقوله: (لم أجد من رثى النخلة في الشعر العربي، غير ما وجدت في ديوان الشعر العُماني، ترصِّع بذلك ديوان دارس بغرَّة الرِّثاء فيها)، ومنها هذه الأبيات:

أبْكِي شَبابَكِ يا صُرَيِّمَةُ الزَّبَدْ

مَا كانَ عُمْرُكِ فِي الحَيَاةِ لهُ مَدَدْ

قدْ كنْتِ فينا بالرَّجَاءِ جَدِيرَةٌ

لكِنَّ أمْرَ اللهِ حَقًا لا يُرَدْ

ففِرَاقُ جِذعِكِ لا يَزالُ فجِيعةً

عِندِي وَدمعُ العينِ مِني كالبَردْ

وفي كتابه (النخلة في الأدب العماني والعربي)، يقدّم مؤلفه إسماعيل السالمي نماذج مما قيل في أدبيات النخلة، شِعْرًا وسَرْدًا، وهو كما يصفه: (مُخْرَافَة رُطَبٍ، انتقى الخَارِفُ فيها، من عدة أنواع وألوان من النخيل)، يقع الكتاب في 441 صفحة من الحجم المتوسط، وهو أوفى كتاب عماني حديث في أدبيات النخيل، ضمَّنه مقتطفات من التراث العربي، ونصوصًا سردية لكتَّاب عمانيين، ويدخل الشعر بصورة لافتة في فصوله، فهو أشبه بالجَنَى الرَّطْب والرُّطَب الجَنِيِّ. كتاب يغطي نقصًا في المكتبة العمانية، إنما لم يطعِّمه المؤلف بلمحات من الصور الضوئية، من فرائد النخيل التي تتميز بها عمان، ولو فعل لأضفى لكتابه بهجة بَصَريَّة.

إشارة:

هناك كتاب بعنوان «النخلة»، للشيخ سالم بن حمد الحارثي، استل منه الدكتور إسماعيل السالمي مادة، تتناول أنواع النخيل التي تزرع في عُمان، وهو عنوان يتوافق مع كتاب من تراث الأدب العربي، اسمه «كتاب النخلة»، لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-مخرافة-رطب-من-نخيل-عمان-الباسقة