خالد علي المعمري
تُقدّم الكتابة الأدبية الحديثة صورةً مهمةً عن مفهوم الآخر The Other المتشكّل عن علاقات مستمرة مع الذات Self ويأخذ مصطلح الآخر أشكالا متنوعة في علاقاته المختلفة، و«يرتبط بشكل وثيق بالهُوية والاختلاف، حيث إنّ الهُوية محدّدة في جزء منها كاختلاف عن الآخر، أنا ذكر لأنني لستُ أنثى، أنا رجلٌ سويّ جنسيا لأنني لستُ مثليا، أنا أبيض لأنني لستُ أسود…». (معجم الدراسات الثقافية، ص53) ويمكن قراءة مصطلح الآخر في «إطار العلاقات الثقافية على مستوى الشعوب إلى العلاقات ما بين الجنسين، فيتحدّد الآخر على المستوى الجنوسي (الجندر Gender ) ليصير الذكر آخر الأنثى والعكس. كما يمكن لـ«الآخر» أنْ يتحدّد على المستوى الاجتماعي ليصير «الآخر» مَن يختلف لونه أو سحنته أو دينه أو اهتماماته الجنسية: الأسود «آخر» الأبيض، والمسيحي آخر المسلم». (الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، ص36)
ويعرّف دليل الناقد الأدبي مصطلح الآخر بأنه «الآخر في أكثر معانيه شيوعا يعني شخصا آخر أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة، وبالمقارنة مع ذاك الشخص أو المجموعة أستطيع أو نستطيع تحديد اختلافي أو اختلافنا عنها. وفي مثل هذه الضدية ينطوي هذا التحديد على التقليل من قيمة الآخر، وإعلاء قيمة الذات أو الهُوية». (دليل الناقد الأدبي، ص23) ويمكننا في هذه المقالة قراءة الآخر في نصوص شعرية قائمة على التمييز اللوني في مواجهة الآخر مع الذات، التي تتشكّل ضمن صراع مستمر بين اللونين كقيمة يقوم عليها النص الأدبي عموما، وفي هذه القراءة أقف على نصين شعريين قادمين من الأدب الإفريقي نشرتهما مجلة نزوى في العدد (99)، جاء النص الأول بعنوان (أشكرك يا إلهي) للشاعر الإفريقي برنارد داديه من الكوت ديفوار، يقول فيه:
أشكرك يا إلهي لأنك
خلقتني أسود
الأبيض لون للمناسبات
الأسود لون لكل الأيام
منذ فجر الزمن
وأنا أحمل العالم.
وفي الليل،
ضحكي على العالم
هو الذي يصنع النهار. (مجلة نزوى، العدد 99، ص210)
يقوم النص الشعري على مفردة (الافتخار) باللون الأسود كونه قيمة تحدّد هوية الإنسان، وعلى مفردة (الثناء والشكر) للخالق على هذه النعمة. إنّ الشاعر في خطابه الدلالي يُعلي من قيمة لونه وبشرته وسحنته مقابل اللون الآخر، وهو إعلاء في ظاهره تبجيل ورِفعة، ولكنه في مضمراته الداخلية يكشف عن صراع مستمر، وهُوية يحاول الشاعر الرفع منها، ويتّضح ذلك دلالياً ضمن قوله: (منذ فجر الزمن وأنا أحمل العالم، والأسود لون لكل الأيام).
إنّ الصراع هنا قائم على تمييز عنصري/ لونيّ يحاول كل واحد في مواجهته الآخرَ إثبات التفوق، وإبراز قيم كل هُوية بما يقابلها من هُويات أخرى، إنه صراعٌ لم يستطع الخطاب الشعري في ممارساته الطويلة إخفاء أيديولوجيته أو طمس ملامح تمييزه.
وفي النص الآخر الذي نشرته مجلة نزوى من العدد نفسه نقرأ قصيدة (أبدا لن يصير الأبيض زنجيا) للشاعر الإفريقي ليون كونتراس داماس من غوبانا، إذ يقول:
أبدا لن يصير الأبيض زنجيا
لأنّ الجمال أسود
والكلمة سوداء
والتحمل أسود
والشجاعة سوداء
لأنّ الصبر أسود
والحديد أسود
والجاذبية سوداء
والشعر أسود
والإيقاع أسود
والفن أسود
والحركة سوداء
لأنّ الضحك أسود
والمرح أسود
والسلام أسود
وسوداء هي الحياة. (مجلة نزوى، العدد99، ص209)
ينطلق الشاعر هنا من دلالات العنوان، الأمر ذاته الذي انطلق منه الشاعر السابق، إذ إنّ العنوان بوابة مهمة في تشكيل النص الشعري لديهما، فالشاعر الأول يدخل إلى نصه من بوابة الشكر والثناء على الله على صبغته السوداء، والثاني يدخل من نفي المشابهة أي مشابهة الأبيض بالزنجي، فيقوم بحشد دلالات التفوق اللونية في نصه معتمدا على مظاهر مختلفة في البيئة، يُقدّمها وفق رؤيته لها في السياق الشعري.
كما يقودنا النصان إلى صراعات عدة مثل: صراع الآخر في مواجهة الذات، وصراعات الهُوية، وصراع الأنساق المضمرة، وهي صراعات تُجدّد مفاهيم مهمة في سياق الكتابة الثقافية.
وتتحدّد صورة الآخر هنا من ثقافة قائمة في أيديولوجيتها على الرفض والتمييز والتصنيف، فيصبح الخطاب الشعري محملا بأنساق متجذّرة في التاريخ البشري، إنها ثقافة الاختلاف التي اعتمد عليها الشاعران الإفريقيان في تأسيس نصيهما، والرد على الآخر (المتخيّل) في تبنيهما صبغة لونية، فكل طرف يؤسس لثقافة لونية يفتخر بها ويفاخر.
يلجأ ليون كونتراس داماس في قصيدته (أبدا لن يصير الأبيض زنجيا) إلى التكرار والاستعادة؛ فيقوم النص على تكرار المفردة في أكثر من موضع وذلك لأهميتها ولمركزيتها في النص، فاللون طاغٍ على الدلالات النصية، فنجد أنّ لفظة السواد قد تكرّرت خمس عشرة مرة من أصل ستة عشر سطرا شعريا. في هذا التكرار ما يحيل على الأهمية وجذب انتباه القارئ. كما يقوم النص على الاستعادة، أي استعادة بناء وتكوين الأشياء وفق رؤية الشاعر، فيعمد إلى خلق المرئيات ضمن زاويته اللونية، ونجده يصنع من السواد مركزا ينطلق منه في الحياة، فـ(الجمال والحكمة والتحمل والشجاعة والصبر والحديد والجاذبية والشعر والإيقاع والفن والحركة والضحك والمرح والسلام) كلها تكتسي بالسواد، بل إنّ الحياة في نظره كلها سوداء، وهذه في ذاتها إحالة موضوعية تجعله يربط الحياة في كوارثها وأزماتها بالسواد الطاغي فيها على البشر وذلك لإقناع القارئ بحجته التي يقصدها.
إنّ في النصين السابقين أزمتين مضمرتين؛ أزمة ولّدتها الثقافة الإنسانية متمثلة في التمييز والتقسيم العنصري تقوم عليها الذات في صراعها مع الآخر، وأزمة هُوية ناتجة عن صراع داخلي مع الذات نفسها جعلها تُحيل الصراع المتخيّل مع الآخر في السياق، مُحاولة إثبات ذاتها في هذا الصدام، وإثبات هويتها المهمّشة التي أوجدتها الثقافة في زمنية تكوينها.
كان يُمكن للَّونِ أن يُلوّن الشعر ويمنحه طابعا فنيا كما تلوّنت الحياة التي نعيشها بالألوان، لكنّ الألوان هنا صنعت من مخيلة الإنسان ثقافة ومركزا تستند إليهما في بناء الثقافة البشرية فكانت جزءا من نص شعري يأخذ من الصراعات الثقافية أولويات تشكّله الشعري.
خالد المعمري شاعر عماني وباحث في مجال السرديات
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الآخر-والكتابة-باللون