محمد بن سليمان الحضرمي
كلما جاء حديث عن الخط واللوحات الحروفية، أتذكر الشيخ الخطاط هلال بن سالم الرواحي، الذي أهداني لوحة «سفينة آل سعيد»، رسمها بقلمه، منقوشة بآيات قرآنية، من بينها «آيةُ الكُرسِي»، وصرت كلما أنظر إلى اللوحة في مكتبتي، أتذكر السفينة الحقيقية، التي تتهادى في عرض البحر، كعروس تغمس قدميها في الماء، وتنثر خصلاتها في صفحته الزرقاء، وأتذكر الخطاط الذي أبدع في رسمها بإتقان ومحبة، مثلما أبدع في تطويع الرسم القرآني، الذي شكل بدنها العالي بأدوارها المتعددة.
كانت تلك الهدية تذكارًا منه، مع لوحة خطية أخرى، تشكل شعار شرطة عمان السلطانية، وقد تعرفت عليه حين أقام أول وآخر معرض له عام 2010م، وهو في عمر 85 عامًا ميلادية، مشاركا بأربعين لوحة، في المهرجان الفني الذي نظمته الجمعية العمانية للفنون التشكيلية، بعنوان: «قابوس السلام وعُمان أرض الحضارات».
خلال تلك الأيام زرت الشيخ هلال الرواحي في بيته بالعذيبة، كانت جدرانه مزينة بلوحاته الخطية؛ «سفينة آل سعيد»، و«شعار شرطة عمان السلطانية»، و«وردة السلطان قابوس»، و«الطغرائية» التي أصبحت شعارًا رسميًا للرسائل السلطانية، ولوحة «البسملة» وغيرها.
وكانت الزيارة لمنزله فرصة للتعرف على عالمه الخطي الجميل، واكتشافا لصاحب القلم الذهبي، الذي يطوِّع الكلمات إلى أشكال مختلفة، فأجريت معه حوارا صحفيا، نشرته في ملحق «شرفات» بجريدة عمان، الاثنين 13 ديسمبر 2010م، وفي هذه الإضمامة، أستعيد بعضًا من فقرات ذلك الحوار، فوقعه في القلب أشبه برجع الصَّدى، ولقد رحل الشيخ هلال بن سالم الرواحي عن عالمنا قبل أيام، عن عمر يناهز المائة عام هجرية، تاركا وراءه إرثا فنيًا من اللوحات الخطية، شكلت جزءًا من مفردات الجمال في النهضة العُمانية الحديثة:
في الطريق إلى منزل الشيخ هلال بن سالم الرواحي، خططت أن أجري معه حوارًا، يأخذني فيه إلى رحلة داخل دهاليز حياته، العامرة بالكثير من التفاصيل عن سيرته مع الخط العربي، وأنبش معه ما يتذكره من أحاديث ومواقف، فهو اليوم (وقت إجراء الحوار قبل 12 عاما)، يبلغ من العمر 85 عامًا ميلادية، وكانت مفاجأتي به كبيرة، حيث استقبلني في بيته بمنطقة العذيبة، فجاء الحوار أشبه بورقات تناثرت من شجرة العُمْر الوارفة.
ولد الشيخ الخطاط هلال بن سالم بن محمد الرواحي في 25 يناير 1925م، وقضى سنوات طفولته في زنجبار، يقول الشيخ متذكرًا تلك الأيام الخوالي: في طفولتي درست القرآن الكريم على يد المعلم الأديب: صالح بن علي الخلاسي، كان يدرِّس القرآن الكريم للأطفال، فدرست على يديه، ثم تعلمت النحو على يد الشيخين: محمد بن سعيد الكندي، وقسور بن حمود الراشدي في «المسجد الحديث» المجاور لقصر السلطان خليفة بن حارب بزنجبار، وكان الشيخ قسور فقيهًا، وخطيبًا بارعًا، يمتلك صوتًا نديًا في قراءته للقرآن الكريم والخطب، وفي المسجد الحديث عشت سنوات من عمري، متنقلا بين العلوم العربية والفقهية.
من تلك السنوات التي عاشها الشيخ هلال في زنجبار، يتذكر الاحتفال الرَّسمي الكبير الذي أقيم بمناسبة بلوغ السيد خليفة بن حارب سن السبعين، حيث طلب منه وزيره السيد سيف بن سليمان البوسعيدي أن يخط له لوحة، أسفل كل صورة فوتوغرافية التقطت للسيد خليفة في سنوات حكمه بزنجبار، فأخذ الشيخ هلال يخط تحت كل صورة الشرح المطلوب منه، وختمت اللوحة بستة أبيات شعرية، ألَّفها الشاعران: الشيخ محمد بن علي البرواني، والشاعر عمر بن سميط، قاضي زنجبار آنذاك، إذ تشاركا في كتابتها، وكل واحد منهما ألَّف ثلاثة أبيات شعرية، لكنه لا يتذكر تلك الأبيات الستة، ولا يعرف مصير تلك اللوحة، وما آلت إليه بعد ذلك.
في ذلك الوقت، كان الشيخ هلال يبلغ من العمر 18 سنة، أما تلك اللوحة فبحسب قوله: إنها زُخرفت بإطار من ذهب وفضة، وقدمت هدية للسلطان خليفة بن حارب- رحمه الله.
وخطوة خطوة، يمشي بنا الشيخ هلال، في مدارج ذكرياته الجميلة، عن طفولته الأولى في رياض زنجبار، وجناتها الخضراء، وعن تكوينه الثقافي، حيث عاش في أسرة علمية مثقفة، ويتذكر الشيخ هلال دراسته لكتاب «النفحة الوهبية في الأصول النحوية»، من تأليف الشيخ النحوي سيف بن عبدالعزيز بن محمد الرواحي، وعن قراءته للكثير من الكتب التي كانت تُطبع في زنجبار.
يقول الشيخ هلال: خلال تلك الفترة كانت زنجبار تعيش نهضة ثقافية ناشئة، وكانت «المطبعة السلطانية» تطبع الكتب العُمانية التي ألفها الفقهاء، لكني انصرفت إلى ممارسة الخط العربي، إذ وجدت فيه ذاتي، ورأيتني أميل إلى الخط، أكثر من ميلي إلى غيره. وفي سنوات شبابه بحث الشيخ هلال عن عمل بمجال الخط العربي خارج زنجبار، فسافر إلى أكثر من دولة خليجية، حتى استقر بالعمل في البحرين لمدة تصل إلى ست سنوات، ثم عاد إلى البلاد عام 1975م، ليعمل في المراسم السلطانية خطاطا.
ويتذكر الشيخ الخطاط أن والده عمل خطاطا لأربعة سلاطين عمانيين في زنجبار، وهم: السيد برغش بن سعيد، والسيد حمد بن ثويني، والسيد علي بن حمود، والسيد حمود بن محمد، يخط الرسائل السلطانية الموجهة إلى الولاة، في المناطق الإفريقية الخاضعة، تحت الحكم العماني آنذاك.
كما كان والده يكتب بخط النسخ، ويستخدم قلم «الرُّوغ»، المصنوع من سيقان نبات «الروغ» أو القصب، الذي ينمو في بطون الأودية، ولا يزال يحتفظ بخط والده في أكثر من رسالة ولوحة، وظل الشيخ هلال يكتب بقلم القصب سنوات طويلة من عمره، مثلما كتب العمانيون بهذا القلم مئات المصنفات والمؤلفات، فهو الريشة الطبيعية التي يستخدمها النساخون والخطاطون.
أما عمه عبدالعزيز فهو الآخر خطاط، كلفه مع والده الشيخ سالم، السلطان خليفة بن حارب، بتنقيش أبواب «بيت العجائب» في زنجبار، ولا تزال نقوشهما محفورة في واجهات هذا القصر العجيب حتى اليوم، ومن لوحات أبيه يتذكر لوحة رسم فيها آيتين من القرآن: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا) الإسراء: 84، ولوحة: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب) هود: 88، ولوحات أخرى ما تزال مطبوعة في عقله ووجدانه، وأصبح يتمثَّلها في سنوات عمره. هل يُكتسب الخط بالموهبة أم بالممارسة؟ سؤال يتكرر كثير في الأذهان، يقول الشيخ هلال: الخط موهبة، لقد ورثت فن الخط عن أبي، إذ لو لم يكن خطاط ما كنت مثله، هذا يشعره كل من يمارس الخط، الخط موهبة قبل أن يكون صنعة، ولذلك يفرق خطاط عن آخر بمقدار موهبته، وبمقدار تجويده للعمل، وبعد ذلك تأتي الممارسة، والاستعداد للكتابة، إنني منذ ما يقرب من سبعين عامًا وأنا أمارس الخط، وأزاوله كحرفة وهواية بمحبة، وقبل ذلك كنت أتلقاه عن والدي، كنت أجلس بجانبه، وأراه كيف يخط بقلم الروغ على الصفحات، وكان يكتب ويشرح لي الطريقة، كنت أرى أصابعه وهي تنتقل من كلمة إلى أخرى، ومن سطر إلى آخر، بإتقان فنان واحتراف مُجرِّب، خاصة أنه عمل في الديوان السلطاني بزنجبار لعقود طويلة من عمره، لذلك كان يجوِّد في خطه كثيرًا.
في عام 1971م، كتب الشيخ هلال بقلمه «طغرائية» سلطانية، رفعها إلى جلالة السلطان قابوس بن سعيد، كان الشيخ هلال قد كتبها بمناسبة احتفالات السلطنة بالعيد الوطني الأول، فاتخذت شعارًا في الرسائل الرسمية التي يعتمدها جلالة السلطان، ومفردة «الطغرائية» ظهرت كثيرًا في رسائل الخلفاء، أما «الطغرائية» السلطانية العمانية فهذا نصها: (الواثق بالله جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور بن فيصل آل سعيد).
وخلال عمله في المراسم، كاتبًا للبراءات السلطانية وما يطلب منه من أعمال خطية، أتيح للشيخ هلال فرصة السفر إلى باريس وإسبانيا ودول الخليج العربية، كما زار جمهورية مصر العربية، والتقى بالخطاط المصري الشهير محمد عبدالقادر، وعن تلك الزيارة يتحدث بقوله: زرت الخطاط محمد عبدالقادر في بيته، وفتح لي خزانة ذكرياته، وعرَّفني على لوحاته وأعماله، هو خطاط كبير، صاحب موهبة فذة في هذا المجال، كما عرَّفته على نماذج من خطي، فاستحسنه، لكنه نصحني أن أجوِّد في عملي أكثر.
في منزله بالعُذيبة، رأيت الشيخ هلال يخط لوحاته على ورق أبيض، مزركش برسومات، كان يكتب بالقلم الرصاص، ثم يضع الحبر والألوان على النقش، وهذه هي أفضل طريقة لتجنب الأخطاء في اللوحات الكبيرة، أما الرسائل فيكتبها دون أن ترتعش له أصبع، وكلما تقدم به العمر يزداد خطه تحسينًا، لقد كتب باحتراف ومهارة، ولا تزال يده قادرة على حمل القلم، وهو كل صباح يمرِّن أصابعه قبل البدء في الكتابة، ويمسِّدها بالزيوت المرطبة، كزيت الزيتون، حتى لا يتصلب العصب، أو تتورم الأصابع جرَّاء الكتابة.
ولم تمر الأنواء المناخية التي شهدتها البلاد في 2007م، دون أن تترك خرابا في أعماله الخطية، حيث غرقت لوحاته التي تركها في الدور الأرضي في منزله، خاصة اللوحات المخملية.
في فجر الاثنين الماضي، 9 مايو 2022م، توفي «عميد الخطَّاطين العُمَانيين» الشيخ هلال بن سالم الرواحي في مسقط، عن عمر 97عامًا ميلادية، مائة عام هجرية، فاستراحت اليد التي طالما كتبت وخطت ورسمت أجمل اللوحات، وتبقى ذكراه في قلوب من عرفه، إنسان يسع الآخرين بأخلاقه وتواضعه، وحريٌ بروائع أعماله الخطية، أن تُحفظ في المتاحف العُمانية، فهي إرث ثقافي مهم.
ملحوظة: «عميد الخطاطين العُمَانيين»، عنوان بحثي رقمي، للباحث سلطان بن مبارك الشيباني، نشره ضمن سلسلة «مَحبُوب»، الإصدار الثاني والثلاثون.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-هلال-الرواحي-وختم-الطغرائية-وكتابة-البراءات-السلطانية