خميس بن راشد العدوي
«ملة إبراهيم».. أساس الدين الإسلامي، الذي بعث الله به نبيه الخاتم محمد، فالقرآن كثيراً ما ذكر النبي إبراهيم، وتطرق للأحوال التي مر بها في دعوته للتوحيد، سواءً مع ربه؛ بمناجاته وتساؤلاته، أو مع نفسه؛ بالتأمل في الوجود والحياة والموت، أو مع أبيه؛ بالتلطف به ودعوته للإيمان بالله وترك عبادة الأوثان، أو مع قومه؛ بدعوته لهم للإيمان بالله وحده، وردود فعلهم اتجاهه.
شكّلت «الإبراهيمية» لدى العرب؛ معاصري النبي محمد بُعداً اجتماعياً وقومياً، بالإضافة لبُعدها الديني، فإبراهيم.. يُعد أبا للقبائل في جزيرة العرب؛ «قحطانيها وعدنانيها». وهذا التصور الاجتماعي نمّى الشعور القومي لديهم، فجعلهم بمرور الزمن توّاقون للوحَدة، لكن أداتها لم تتوفر لهم حتى جاء الإسلام، فنقله من كونه حساً اجتماعياً فاتراً، لا تحركه إلا الدواعي الاجتماعية كالمصاهرة والمتاجرة، ومن كونه تدافعاً قبلياً ثائراً، يعيش حالة اضطراب لا يكاد تعرف استقراراً، إلى عروة إيمانية وثقى، فربط القرآن النبي إبراهيم بالمعتقد الديني، فهو أب للعرب وأنبيائهم، وهو من سمّى الموحدين بالمسلمين: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، لقد أعاد القرآن بناء الأبوة الإبراهيمية، من نسب دموي ثخين إلى آصرة إيمانية ديناميكية، وفك إبراهيم من «النظام الوثني» المهيمن على العرب، وضمه إلى «النظام الإسلامي»، ليؤدي الوحَدة الشعورية الرابطة بينهم.
القرآن.. لم يذكر بأن إبراهيم عربي، فـ «العربية» ليست دماً سارياً في الأجساد مشكلاً القبيلة، وإنما هي اللسان المبين؛ الذي يقف من ورائه البناء الاجتماعي ومنطقه الفكري: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). لقد فكك القرآن البُنية القبلية من عصبيتها القديمة ليضعها في سياق الدين الجديد، فتصبح القبيلة أداة للتعارف الإنساني، وليحل الإيمان محل أية عروة سابقة عليه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم). هكذا.. تعامل القرآن مع «إبراهيمية الدم» السائدة بين عرب الجزيرة، وهو يبني نظام الأخوة الإيمانية لديهم في إطار الإيمان بالله وحده. وبذلك.. أخرج القرآن إبراهيم من دائرة الأدلجة القومية والمنفعة الاجتماعية الضيقة.
القرآن.. وهو يعيد بناء ملة إبراهيم؛ صاحبه محاولة اختطاف لهذه الملة، من قِبَل أهل الكتاب؛ فقال اليهود: إن إبراهيم يهودي. وقال النصارى: إنه نصراني: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
هذا الاختطاف حصل أيضاً بعد ذلك لدى المسلمين، حيث أصبحت ملة إبراهيم هي الاجتهادات العقدية والفقهية المحدودة، فالقرآن.. يقرر أن ما جاء به النبي محمد هو عين الإسلام الذي جاء به النبي إبراهيم والأنبياء من بعده: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ولأجل هذه الملة الحنيفية فـ(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). تغيّر الأمر بعد ذلك عند المسلمين عندما غدوا طوائف كغيرهم ممن سبقهم، وصاروا وحدهم ممثلين لإبراهيم، وليس العكس؛ بأنه هم مِن أتباعه، وعلى ملته التي جاء النبي محمد ليجدد ما اخلولق منها. فالإسلام.. بحسب القرآن؛ يشمل كل مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
نجد هذا الاختطاف الطائفي كذلك لدى المعاصرين، فـ «الإسلام السياسي».. استعمل قضية الولاية والبراءة للدفع بمعتقدات «المفاصلة أو العزلة الشعورية» -والمصطلح لسيد قطب- إلى المجتمع، بحيث إن كل من خالف طائفتهم ومعتقداتها فهو خارج ملة إبراهيم، وقد تطور هذا المفهوم إلى تسويغ العنف وممارسته، ومن الكتب التي ألفت في ذلك:
– «ملة إبراهيم».. لأبي محمد عاصم المقدسي، ألّفه عام 1985م، وملخصه كما جاء في عنوانه الثانوي: (دعوة الأنبياء والمرسلين وأساليب الطغاة في تمييعها، وصرف الدعاة عنها)، وفيه؛ ملة إبراهيم هي دعوة الأنبياء، وهي الطريق الذي سار عليه الدعاة الذين بنى المؤلف رؤيته السياسية على أقوالهم، وكثير ممن استشهد بهم كانوا يمارسون العنف في مجتمعاتهم المسلمة، ويلخص رؤيته بقوله: (فملة إبراهيم.. إذاً هي طريق الدعوة الصحيحة، التي فيها مفارقة الأحباب وقطع الرقاب).
– «رفع الالتباس عن ملة من جعله الله إماماً للناس».. لجهيمان بن سيف العتيبي، وقد تطورت نظرته حول ملة إبراهيم لتصبح عنفاً في المجتمع المسلم، مما أدى به إلى تبني فكرة «المهدي المنتظر»، وطبّقها عملياً، فبايع صهره محمد بن عبدالله القحطاني في المسجد الحرام، وأعلنه مهدياً في حج 1400هـ، داعياً المسلمين للانضمام تحت لوائه، لمقاتلة الكفار، فألقت السلطات السعودية بعد معركة دامية -قُتل فيها القحطاني- القبض عليه هو وأتباعه، وحُكم عليهم بالإعدام.
مقابل هذا الاستغلال العنيف.. هناك اختطاف سياسي بالدعوة إلى «الدين الإبراهيمي»، وهي ليست دعوة لقبول الآخرين في إطار التعارف مع مَن ينتسب إلى اليهودية والمسيحية، والتفاهم للوصول إلى مرتكزات في الملة الإبراهيمية يُبنى عليها تصحيح التصورات الدينية والتآلف الإنساني، وإنما هي ترويج لمرحلة سياسية جديدة، تكون إسرائيل أحد مكوناتها، وهذه الدعوة.. لن يكتب لها النجاح كغيرها من الممارسات السياسية التي تستغل الدين، وإنما الخشية من أن تجرَّ المجتمعات إلى موجة جديدة من العنف.
والآن.. لنلتمس ملة إبراهيم الحنيفية السمحاء من القرآن، بعيداً عن الصراعات التي جرت حولها، وعن التأويل الذي يخرجها عن مسارها الرسالي. تتلخص ملة إبراهيم في توحيد الله، فهي الدين الذي جاء به الأنبياء: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، إذاً.. مَن يخرج من الشرك إلى التوحيد فقد دخل في ملة إبراهيم، وهذا هو معنى الإسلام الذي ارتضاه الله، وهو الذي سار عليه الأنبياء: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وكل ما ذكر بعد ذلك في القرآن عن النبي إبراهيم؛ جاء لترسيخ هذا المبدأ الإيماني الأعلى، سواء بالتدبّر والتفكّر في الوجود، أو بالجدل مع قومه، بل حتى الأساليب التي سلكها والمواقف التي اتخذها، هي وفق الظروف الاجتماعية التي واجهته، وهي كذلك متغيّرة بحسب ظروف الأنبياء والرسالات، وبحسب الدعوات من بعدهم: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، ويبقى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح هو ملة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، بحسب البيان القرآني.
خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ مؤلف كتاب «السياسة بالدين»
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/ملة-إبراهيم-بين-البناء-القرآني-والاختطاف-الطائفي