محمد بن سليمان الحضرمي
عشر سنواتٍ مضت على وفاة الأديب والفقيه، خلف بن حمدان بن سيف البوسعيدي (ت: 2012م)، من أهالي ولاية منح، عاش حياته ضريراً، فقد أصيب بالعمى بسبب الرَّمد، ولكنه تجاوز محنة ظلام الحياة، بحفظه للقرآن الكريم في سن مبكر، فأشرق نوره في بصيرته، وأخلص في طلب العلم، متعلما على يدي صفوة النحاة والفقهاء في جامع نزوى القديم، الذين ظهروا في فترة الستينات، من بينهم: سعود بن أحمد الإسحاقي، وإبراهيم بن محمد الرقيشي، وحمود بن زاهر الكندي.
عمل الأستاذ خلف مدرسا للقرآن الكريم، وبقي في مهنته حتى يوم وفاته، تاركاً ديواناً شعرياً لم يُطبع بعد: «نفحات البيان»، وطلاباً أسهم في تكوينهم الثقافي بتعليمهم القرآن الكريم، والنحو، ومبادئ من علوم الشريعة، وأنا منهم في زاوية من زوايا العُمْر، فقد تتلمذتُ على يديه في مطلع سنوات الشباب، خلال النصف الأول من الثمانينات، في ذلك الوقت حَفَّزني والدي أن أتعلم النحو على يد المُعلِّم خلف، وسألت عن مكانه، فقيل لي: إنه يقضِي ضَحوات نهاره في «سبلة الميدان» بحارة البلاد بولاية منح، فذهبت إليه بدراجتي الهوائية، من بيتنا في «معمد» إلى «حارة البلاد»، ودخلت عليه وحوله مجموعة من الآباء، وبعد جلسة تعارف اقترح عليَّ أن أشتري نسْخة من شرح الشيخ بُحْرُق الحضرمي لمنظومة «مُلحَة الإعراب» في النحو، وأن آتيه إلى هذا المكان، أقرأ عليه المُلحَة، ويشرح لي ما يشكل عليَّ فهمه، وهكذا كان، وقرر عليَّ دراسة علم الميراث، بقراءة «الوهب الفائض شرح يتيمة الفرائض» للشيخ محمد بن راشد الخصيبي (ت: 1990م)، ولكني وجدت ثِقَلاً في تعلُّمه، وميلاً أكثر إلى النحو والشعر، رغم سهولة المنظومة ويُسْر الشَّرْح، وقرأت عليه شيئاً من دواوين الشعر العُماني؛ كشعر السُّتالي، والنبهاني، وابن شيخان السالمي، والمعولي، وكان شديد الإعجاب بشخصية أبي العلاء المَعرِّي، في بلاغته وملكاته البيانية، فقرأت عليه قصائد من ديوان «سِقْطُ الزَّنْدِ»، وقُرأتْ عليه دواوين شعرية كثيرة، حين كان يعمل في مهنة التعليم.
كتب الأستاذ خلف الشعر، وفي استهلال قصائده يميل إلى النسيب والغزل كغيره من الشعراء، مع مسحة سلوك وزهد في بعض قصائده، وتكشف نصوصه الشعرية عن مكنته اللغوية، فهو من الذكاء بحيث يحفظ معاني غريب اللغة.
وبمرور الأيام توطدت علاقتي به، وصرت أرى فيه المعلم والصديق، ولكن عملي الصحفي شغلني من التردد الدائم عليه، إلا أني كنت أغتنم فرص الإجازات فأذهب إلى زيارته، مدفوعاً بشوق للجلوس معه، فندخلُ معاً حَديقة الأدَب، نقطف منها ما يروق لنا من أزهار وثمار، ثم يقرأ لي ما نَظَم من شِعر، يكون قد حفظه عن ظهر قلب، وإذا كان مكتوباً في ورق فأقرأ عليه قصيدته، وقد يُحدث تعديلاً على بعض الأبيات.
في تلك الأيام التي دانت لي فيها قطاف تعليم النحو، وانتظار اليوم التالي للقراءة بين يدي الأستاذ خلف، تركَتْ في نفسي الكثير من الذكريات، فالطريق إليه على الدراجة الهوائية، يقودني إلى المشي بها في دروب مُتربة بين ضواحي النخيل، وظلال الأشجار، ومصادفة الناس وهم في طريقهم إلى مزارِعِهم، وكانوا يثنون عليه، ويقولون: (ما حَدْ كمَاه يَفْهَم في النَّحو)، وأنَّ (الله رَزَقه الفَهَامَة وصَار عالِم).
أيام بريئة، خرجت منها بصداقات مع الناس، وسراج المحبة يضيء القلب والروح، تعرَّفت فيها على دروب خضراء، وكانت الحياة يانعة، فغُصْت في مياهها، وحوَّمتُ في رياضها كطائر، وحين جدَّدْتُ لقائي به كان الشيخ قد كَبِرَ، وكَسَى الشيب عارِضَيْه، وكان في كل لقاء به أستاذا بارعا، ما يلبث أن يسمعني بيتاً من الشعر، ومن خلاله يمرِّر لي سؤالاً في النحو: ما إعراب هذه الكلمة؟، وقد أجيب بما أفهم، أو لا أجيب، مفضلاً أن استمع إلى شرحه اللغوي، والوجوه الإعرابية لتلك الكلمة، فأتذكر جلساتي معه، يوم أن كنت أقرأ عليه الملحة: (أقولُ مِنْ بَعْدِ افتتاحِ القَوْلِ .. بحَمْدِ ذِي الطَّوْلِ شَدِيدِ الحَوْلِ)، الخ المنظومة، حفظت منها الكثير، وأحببتها كثيرا، وأعود إليها كما يعود الطفل إلى أشيائه القديمة، أقرأها فأجد فيها نداوة شعرية، وعالَمَاً يضج بالحياة، أسماء أمكنة، وأشخاصا، وأشجارا، وفصولا، وحِكَما وغيرها.
وكان الشيخ خلف بن حمدان حاضراً معي، وفي وجداني الثقافي، وفي بداياتي الشعرية كنت أقرأ عليه بعضاً من قصائدي المتواضعة، وكان يحدث تعديلا في بعض أبياتها، كأنْ يقول: هذه المفردة أجمل من هذه، فأضعها في مكانها، بما يحفظ للقصيدة وزنها العَروضِي.
ويمتلك الأستاذ خلف حِسٌ ساخر، كسخريته من الشخص الذي يسارع في تلبية نداء الصلاة، ويتثاقل في دفع الزكاة، فيقول في وصفه معبراً عن حاله:
دُعِيتُ إلى الصَّلاةِ فسِرْتُ أسْعَى
على عَجَلٍ مَخَافة أنْ تفُوْتا
فلمَّا قيلَ لِي أدِّي زَكاةً
لمَالِكَ كِدْتُ منها أنْ أمُوْتا.
وهذان البيتان حفظتهما منه، وأحسب أنهما من منظومه، وليس من محفوظه.
وخارج مجلس التعليم، التقيت به كثيراً في السوق التجاري، كان يأتي مشياً من بيته، وقد حفظ الدروب والطرقات، ولا يجد في ذلك صعوبة، وكأنه يحمل في يديه سراجاً، وإذا ما اقتربت منه سيارة، فيحاذي بجسده الجدار حتى تمضي، وكان كل من يسلِّم عليه يعرِفُهم بأسمائهم مثلما يعرفونه بسيماه، وذات مرة سألته: هل تحفظ الألوان، فقال لي: لا أتذكر منها إلا اللون الأخضر لورق الأشجار وسعف النخيل.
وفي أمسية رمضانية من أماسي عملي الصحفي بقاعة التحرير في جريدة عمان: (20 رمضان 1413هـ – 9 أغسطس 2012م)، جاءني اتصال هاتفي من أحد الأصدقاء، يبلغني بالخبر الحزين: وفاة الأستاذ خلف بن حمدان، متأثرا بسقوطه من سطح بيته، حيث زلت به قدمه، ووقع من السطح، فلقي حتفه متأثراً بارتجاج في المخ، ذلك العقل الذكي الذي حفظ القرآن الكريم وهو صغير، وحفظ علم النحو، والميراث، والفقه، كانت ليلة حزينة بالنسبة لي، فقد خسِرتُ صديقاً حميماً ومعلماً بارعاً، وخسرت إنساناً أضاءَ حياتي الثقافية، وأضاف لي الكثير، فهو بالنسبة لي ولغيري، تجربة تعليمية وثقافية مهمة.
وها هي الحياة تمضي في تسارع ولهاث، ووجدتني سالكاً دروبي القديمة التي مشيتها قبل أربعين عاماً، بحثاً عن «سبلة الميدان» التي كان يقضي فيها الأستاذ خلف وجيرانه ضحواتهم، فدخلت السبلة، فما كانت إلا خاوية وخالية، وقد (عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّها فمُقامُها)، وما عادت تستقبل جيرانها، فقد رحل أكثرهم عن الحياة، وبقيت ذكرى أصواتهم تتردد بين الجدران، وبقي صَدَى الأستاذ خلف يرنُّ في جنبات المكان، كما يَرنُّ في وجداني الآن، وأنا أكتب عنه، مُتذَكِّراً ومُتفَكِّراً ومُمْتَناً ومُتَرحِّماً، وقد مضت عشر سنوات على رحيله.
هذه الأبيات من قصيدة له بعنوان: «تُطَوى الحَياة»، تتجلَّى فيها روحه الشعرية الزاهدة:
تُطوَى الحَياةُ وتنقَضِي الآجَالُ
وتُجَدَّدُ الأحْزانُ والآمَالُ
فالشَّمسُ ما طَلعَتْ على ذِي جِدَّةٍ
إلا عَرَاهُ بذلِكَ اضمِحْلالُ
شَنَّ المَنُونُ على المَنازِلِ غَارَةً
فغَدَتْ وأهْلوُها هُنالِكَ آلُ
نَطَأُ التُّرَابَ وقد عَلِمْنا أنَّهُ
فيهِ نِسَاءٌ فُتِّتَتْ ورِجَالُ
ما هذهِ الدُّنيا سِوَى شَرَكٍ لهَا
مُدَّتْ لتَقتَنِصَ النفوسَ حِبَالُ
ومقطع من قصيدة بعنوان: «روضة غناء»، مشحونة بإيماءات غزلية رقيقة، يقول فيها:
يا رَوْضَةً غَناءَ فَتَّحَ زَهْرَها
طَلُّ الشَّبَابِ وغَيثهُ المُترَدِّدُ
ذا أقحُوانُ ونَرْجَسٌ وشَقائِقُ
النَّعْمَانِ والبَانُ الرَّطيبُ الأمْلَدُ
لوْلا غَلائِلُ طَلْعِها مِنْ فوْقِها
لقَضَتْ عليْها بالعُيُونِ الحُسَّدُ
قَدْ حَفَّها سُورُ العَفافِ فمَا لنا
مِنْ زَهرِها إلا شَذَىً يَتبَدَّدُ
هي بَهجَةُ الدُّنيا وأُنْسُ حَيَاتِها
وَمتاعُها وَسَناؤها المُتَوقِّدُ.
شرح الصور:
خلف بن حمدان البوسعيدي.
منظومة ملحة الإعراب للحريري.
سبلة الميدان.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-الأديب-خلف-بن-حمدان-وعشر-سنوات-من-الرحيل