محمود الرحبي
جرة فلم
إذا كانت مجلة «فصول» قد سبق أن خصصت عددا كاملا لأحد أفرع الدراسات الثقافية وهو النقد الثقافي، فإن مبارك الجابري بكتابه «خارج الأسوار – أوراق في الدراسات الثقافية» قد قدّم عملا متوسعا في غاية الحيوية والأهمية في التعريف بالجوانب المختلفة للدراسات الثقافية، الأمر الذي يشكّل ذخيرة لا غنى للباحثين عنها.
كتاب «خارج الأسوار» من إصدارات الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء لعام 2022، قام بتحريره الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور مبارك الجابري، وتكمن أهميته في كونه يشتمل على مجموعة واسعة من الأوراق البحثية في موضوع أكاديمي راهن ومهم وملتبس وهو براديغم الدراسات الثقافية الذي تتفرغ منه أغصان شكلت بدورها حقولا معرفية أصبح لها متخصصوها في الوطن العربي، فضلا عن متخصصيها ومنظريها الأساسيين في جامعات العالم.
لا شك أن صعوبة إيجاد تعريف (جامع مانع) للدراسات الثقافية متعذر وصعب، وربما هذا هو مكمن أهمية وجمالية هذا المساق، وحسب وجهة نظري الأمر يعود إلى كون الثقافة نفسها التي تضاف إليها هذه الجهود وإلى وعائها النظري، صعب تحديدها. فحين نبحث عن تعريف محدد للثقافة فإننا نقف على أكثر من تعريف وتفسير يمكنها مجتمعة أن تشكّل -مع الشروحات- قاموسا مصغرا، فليس ثمة تعريف قار للثقافة، إنما تعريفات عديدة، كل منها يشتمل على أهميته وفاعليته وأمثلته؛ وعليه فإن أي تعريف ينطلق من الثقافة سيكون مؤقتا أو عجينة قابلة للتمدد والإضافات، بل إنه حتى «النقد الثقافي» وهو أحد الفروع الثابتة والمتداولة المنبثقة من الدراسات الثقافية، منذ أن تصدى له في التسعينيات بالتعريف والتحديد الناقد السعودي عبدالله الغذامي في كتابه المعروف «النقد الثقافي» يجد بدوره تفنيدا وإضافات مستمرة، ناهيك عن الهجوم والتقويض، كما حدث أخيرا مع كتاب جديد للباحث العماني الدكتور خالد البلوشي، وأعني مقدمة كتاب «الرواية العمانية في ميزان النقد الثقافي» أو كما حدث من قبل مع كتاب للباحث المغربي الدكتور سعيد علوش، الذي انبرى للهجوم على كتاب الغذامي، ولكن -كما كتب البعض- وقف علوش عند حدود التقويض، ولم يسع لتقديم إبدالات مقنعة. لا شك أن نظرة الغذامي كانت مفتتحا مهما، ولكنها قابلة للنقد وخاصة في ما يتعلق باقتصارها على القبحي وبتصريحها أن النقد الثقافي بديل للنقد الأدبي وقتل له، وهو أمر لا يخلو من حماسة زائدة، ونظرة لا يلبث الواقع النقدي الأدبي أن يحبطها.
مقدمة إضافية للمحرر:
الكتاب الذي يقع في 373 صفحة استهله الدكتور مبارك الجابري بمقدمة مكثفة من 14 صفحة، لفتني في المقدمة حديثه عن مقدرة اللغة العربية على التعاطي والتفاعل مع اللغات الحية وخاصة في حقبة التأجج الثقافي لهذه اللغة، وكذلك تركيزه على «المجتمعات الخليجية» ودعوته لتأمل هذا الحيز من الوطن العربي، وذلك «لإضافة زوايا جديدة ما زالت بحاجة إلى التحليل» حسب قوله. متعللا إلى سبب تسارع التغيرات لهذه المجتمعات. وقد برّر الجابري في مقدمته كذلك سبب التسمية «خارج الأسوار» وقد استقر على هذه التسمية بسبب طبيعة البحث في هذا المساق بشكل عام والأوراق المقدمة بشكل خاص، وذلك لأنها تنشد فتح أفق في الدرس العربي يتخطى القيود المنهجية، ويخرج عن التسوير الأكاديمي للاختصاصات. وفي ذلك اختيار ذكي للعنوان ينسجم مع طبيعة الدراسات الثقافية التي تنفح على ما هو خارج الأسوار الأكاديمية؛ لما تمتاز به من حرية منهجية وممكنات تحليلية، وربما هذا -أيضا- ما جعل للدراسات الثقافية جاذبية بحثية وحيوية أكبر وإضافات لا تقف عند حد وزمن، كل باحث جاد ضمن إطارها النظري ومفاهيمها يمكنه أن يتقدم ليضيء زوايا معتمة في الحياة والذاكرة.
تدرج أقسام الكتاب:
يتميز الكتاب بالتدرج المدروس في الإحاطة بجوانب اهتمامات الدراسات الثقافية، نجد في البداية الباحث المغربي الدكتور محمد بوعزة يقدم دراسة فيلولوجية عميقة عن مسارات الدراسات الثقافية ونشأة بذرتها الأولى في الغرب وسبب انبثاقها (تحديدا في بريطانيا في فترة الستينيات) ثم صعوبة ترسيم الحدود النظرية الصارمة لها، يوغل بعد ذلك في إيراد مختلف التعريفات لحقول الدراسات الثقافية ليضعنا أمام متن ثري ومتين لا يكتفي بالتتبع والتعريفات إنما يحاول تصحيح بعض المفاهيم، من أمثلتها تلك المغالطة القائلة باهتمام النقد الثقافي بالثقافة الشعبية على حساب الثقافة العالمية وربط كل ذلك بأسباب سياسية، وهو ما لا يتفق معه كاتب هذه الدراسة. بعد ذلك يضعنا الكتاب أمام بحث آخر موسع للباحث المغربي الدكتور وحيد بن بوعزيز يتحدث فيه عن النزعة العلمية للدراسات الثقافية وانفتاح هذه الدراسات على مختلف العلوم. كما يتحدث عن تطور مفهوم المثقف المتخصص وانفتاحه على مختلف قضايا العالم، وقد أورد الباحث مثال اللساني الأمريكي الكبير «نعوم تشومسكي» الذي «استطاع أن يحدث عدة قطائع معرفية في مجال اللسانيات المتخصص فيه، ولكنه لم يتوقف يوما بأن يدلي بآرائه حول الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي المتوحش، وحول فكرة التدخل الإمبريالي وحول الحروب الكبرى من فيتنام إلى حرب أفغانستان» ص 77.
بعد ذلك نكون مع الباحث العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم الذي تحدث عن تطور السرد في ضوء الدراسات الثقافية، خاصة في ما يتعلق بالاستفادة مما أسماه بـ(تخييل الواقع) وعدم حبس الظاهرة السردية في أطر ضيقة بدواعي مراعاة شروط العلوم النظرية. والباحث بحكم تخصصه في علم السرديات حاول أن يوجد مواءمة بين تخصصه والدراسات الثقافية، حيث يدين للدراسات الثقافية في تجديد اشتغاله السردي (ولست أنكر بأن الدراسات الثقافية أسهمت في ابتعادي عن المناهج الشكلية التي بنت فرضياتها في ضوء النموذج اللغوي، وفصلت بين المادة الأدبية وسياقها الثقافي) ص 135.
وإن كان الدكتور محمد بوعزة عرفنا على النواة الأولى للنقد الثقافي ومحيط تشكلها في الغرب، فإن الباحث المغربي الدكتور إدريس الخضراوي يتركنا أمام جهد بحثي طويل في تتبع مسار الدراسات الثقافية في العالم العربي، وانتقال هذه المفاهيم وسفرها من عالم إلى آخر وتفاعلها النصي والنظري. مع تقديم وإضافات لمسار الدراسات الثقافية وتحولاتها وانتقالاتها، ولكن الفصل الموسوم بـ«انتقال الدراسات الثقافية إلى الثقافة العربية» هو بيت القصيد لهذه الدراسة الموسعة، حيث يرى الباحث أن الاهتمام بالدراسات الثقافية عربيا بدأت مع مطلع الألفية الثالثة بـ«محاولات جادة تهدف البحث عن قراءة مختلفة للعمل الأدبي؛ بهدف إعادة التفكير في المنجز الأدبي من منظور مختلف من شأنه أن يقود إلى نتائج جديدة» وهي فقرة مقتبسة أخذها الخضراوي عن الباحث المغربي الدكتور محمد الدغمومي، يدلل بها على بداية اهتمام الدارسين وإلحاحهم على ضرورة الاهتمام بالأبعاد الثقافية للنقد والأدب. كما يطلعنا على إضافات العرب في تكوين النظرية، وبذلك تكون النظرية كعلم، يمكن أن يسهم في بلورتها وتطويرها مختلف الباحثين الجادين عبر العالم.
بعد ذلك نتعرف على قراءة مقارنية للباحثة المغربية الدكتورة فاتحة الطيب. سنقف في هذا البحث أمام الهجنة الثقافية وتلاقح النظريات الفرنسية والإنجليزية /الأمريكية، وما أحدثه المفكر الفلسطيني – الأمريكي إدوارد سعيد من إضافات كبيرة في أحد أهم حقول الدراسات الثقافية وهو حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية «الذي تفاعل بعمق مع مجهودات رواد عالميين كبار، والذي يعود إليه الفضل -أي إدوارد سعيد- منذ البداية في تطعيم حقل الدراسات الثقافية بالمنهجيات المقارنة، وفي اختراق الحدود بين الدراسات الأدبية والثقافية» ص 203.
بعد ذلك قدّم الباحث المصري الدكتور محمد الشحات بحثا معمقا وموسعا حمل عنوان «الدراسات الثقافية/ تقاطعات النظرية والنقد الثقافي» حيث ينتقل بنا الباحث في دراسته إلى مناطق جديدة كما يطرح أسئلة حيوية تعيد النشاط في قراءة متجددة للتراث النقدي العالمي، حيث يرى أن النظريات العميقة تتميز بأنها (قيد الصيرورة) -مثل نظريات باختين- التي تمتلك قابلية لأن تقرأ من جديد في كل مرة. ويتحدث كذلك عن نظرية عربية للدراسات الثقافية ومدى أهميتها من عدمه في ضوء انفتاح عالمي وكوني للنظريات وسباحتها الحرة.
الباحث البحريني الكندي الدكتور علي أحمد الديري يكشف لنا -في دراسة بحثية طويلة ومسهبة- عن إمكانيات جديدة للدراسات الثقافية في قراءة المادة التاريخية وتحريكها، حين يجعل من (الإسناد) ثيمة لدراسته، وذلك انطلاقا من مفهوم الهيمنة الذي هو أحد المدامك الاصطلاحية للدراسات الثقافية.
محمود الرحبي كاتب وقاص عماني
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/خارج-الأسوار-لمبارك-الجابري-إضافة-مهمة-وحزمة-ضوء-تكشف-أهم-مشاغل-الدراسات-الثقافية