أضاميم.. “التهلولة المباركة” تسابيح نديَّة تعطر ليل رمضان

محمد بن سليمان الحضرمي

وأخذت التسابيحُ تعانقُ الأجْواء،

وفاحَ عطرُ الكلماتِ من أفواهِ الأطفال،

كما يفوحُ الأريجُ من أفواهِ الوَرْدِ.

وتهافت الأطفال من أنحاء القرية، من عَلْوَا وحَدْرَا، فموعدهم “التهلولة”، يوم يُحشَر الأطفال عِشاء بعد التراويح، حاملين في أيديهم المصابيح، ووجوه منيرة، الأطفال هم المصابيح التي ستنير دروب القرية، سيأخذون الطواف وهم يعجُّون بالدُّعاء، في ليلة التهلولة، مرددين بصوت واحد: (سُبْحَانَ الله ولا إلهَ إلا الله)، (سبحانَ االلهِ تعوَّذنا مِنَ الشيْطان، سُبحَان الله ِّتسمينا بالرَّحمن..)، وانطلق الزَّحف في مسيرة أبطالها الأطفال، وألسنتهم تلهج بالتسابيح، فإذا بالليلة يفيض جمالها بالنور، مختلطاً بالفضَّة المنسَكبة من القمَر، ذلك الوجه الباسم في أعالي السَّماء، وهو يرسل أشعته الباردة كقنديل معلق، مؤذنا بانتصاف شهر رمضان، ومبشراً بليلة القدر، أتكون ليلتنا هذه هي؟، ليلة القَدْر التي حلمنا بها أطفالاً، والتمسنا خيوطها الذهبية في الأسْحار، فما زلتُ أذكر وأنا صغير، ليلة رمضانية بتُّ فيها سميراً للأحلام، حتى أشرق الفجر، لكني لم أرَ النخيل ساجدة كما قيل لنا، ولا النجوم تهاوت من عليائها كزهور الياسمين، ولا الملائكة تطايرت بين ضواحي النخيل كالفراشات:

سبحان الله وهو العَالِمُ الخَبير،

سبحان الله وهو الأوَّلُ الكبير،

سبحان الله وهو الآخِرُ المُجير،

سبحان الله الحمد لله القدير.

ومضى موكب النور بتسابيحه النديَّة، يشق طرقات «معمد» في ولاية منح، مساء أمس الأول، وإذا بالدروب الضيَّقة تتسع للفوج القادِم، والأطفال يتزاحمون كأكاليل الورد في قبضة ناعمة، والتسابيح تسْري إلى داخل البيوت كموسيقى رقيقة، وتعلو إلى الرِّحاب الواسعة خارج القرية، فما أجمل هذه المسيرة المباركة، وما أطيب هذا الغِراس، ستكون لهم ذكرى جميلة يوماً ما، حين يكبرون بأحلامهم، ولقد أصبحت التهلولة عادة من عادات قريتنا، ورغم قصر عمرها، إذ بدأت منذ عقد من السنين، بهمة شباب طلعة، إلا أنها ترسَّخت في أذهان الأطفال، وحتى من عايشها في بداياتها الأولى، وجدوا فيها أنساً وصَفاءً، وفي بعض المدن والقرى تقام التهلولة في ليلة من ليالي العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، احتفاء بقدوم عيد الأضحى، أما في «معمد» فتقام في ليلة منتصف شهر رمضان، أو نحو ذلك، لتكون ليلة يلهج فيها أطفال القرية بالتسبيح والتكبير، في تناغم صوتي آسِر، وقد ازدانت الليلة احتفاء بالأطفال اليافعين، الذين صاموا رمضان لأول مرة، حيث التقوا جميعاً في شوق إلى هذا التطواف المبارك.

سبحان الله على طوائِف الإسلام،

سبحان الله من صلاة وقيام،

سبحان الله وهاكم ذكر الجنان،

سبحان الله دار البقاء والأمان.

كانت التسابيح تضيف لمسة حانية على الليلة الرَّمضانية، وخلال تطوافنا في الطرقات، عدت معهم صغيراً، ورأيتني أجوب القرية المتربة، ماشياً ومهرولاً وراكباً دراجتي الهوائية، ومع أترابي ومن هم في مثل سِني، الذين كبروا وأصبحوا آباء، كانت فرصة لاستعادة الذكريات، وفي كل شبر من القرية لنا ذكرى، القرية بحارتها القديمة، ودروبها المتربة، وبمدرسة القرآن الكريم، وشجرتها الظليلة: «السُّوقمَة»، التي كانت محطة استراحة وانتظار لنا في ذهابنا إلى المدرسة وبعد عودتنا منها، وحتى في أيام الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية، القرية هي بيتنا الكبير، وكل شخص فيها فرد من أسرتنا، وهذا ما يميز الحياة في القرية عن المدن، القرية بتعدد قبائلها، إلا أنها متماسكة بأحلام متشابهة، تجمعنا المدرسة والسبلة والفلج، وبين الأسر مشتركات كثيرة من المصاهرة، والحب بين الناس، وكلنا نعيش بذاكرتنا الجمعية، وذكرياتنا الجماعية، ونشعر في القرية بروح التلاحم وجمال الأنس والمحبة بين الناس، وتنطلق المسيرة، تنثر التسابيح في سمع الوجود:

سبحان الله لا لكم رَبٌ سِواه،

سبحان الله وهو لا عينٌ تراه،

سبحان الله منزَّهٌ عن الأشباه،

سبحان الله وهو عالي في عُلاه.

هذه هو لبُّ العقيدة، يتلقاها الطفل الصغير، هو الله العالي في أعاليه، متناهية العلو والسمو، العالي في ملكه وملكوته، ومع هذه التسابيح، كنت أنظر إلى ظلال الأشياء، فأرى النخيل تتمايل، وكأنها تصافح الملائكة الصغار، وتلوِّح بأغصانها الطويلة، لتبدو أشبه بأيادي خفية، لا نسمع إلا همسات اهتزازها، أشبه بارتعاش المجذوب، وكنت أنظر إلى القرية، فيدور في داخلي شريطاً من الذكريات؛ «الصَّباح الحَدْرِي» ببوابته الكبيرة، و«الصَّبَاح العَلوي» كذلك، و«بيت الشامسي» الذي أصبح ذكرى للذاكرين، وأطلال «بيت الشكيلي» المتصدعة، والأزقة المتقاربة كقلوب الناس، الحارة القديمة أصبحت أطلالاً مهجورة، وما بقي منها أشبه بذكرى آفلة، أطلال القرية شاخصة في وجه الزمان، تبدو كوجوه ذابلة، شققتها الأيام، وأذابت وسَامَتَها وحُسْنَها، ولم تعد كما كانت من قبل، إلا أن يهطل عليها المَطر، فتبدو كمَخطوطة أعيد رسم حروفها بتحبيرها من جديد، أو كما قال الشاعر لبيد: (وَجَلا السُّيُولُ عَنْ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا .. زُبُـرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَـا أَقْلامُهَـا):

سبحان الله كبَّرناك يا أحَد،

سبحان الله كبَّرناك يا صَمَد،

سبحان الله هللناك يا مجيد،

سبحان الله وعظمناك يا شهيد.

ويردد الصغار معاً هذه التسابيح، وكأنهم في صلاة، يؤدونها بخشوع وتضرع وتبتل، فالله هو المجيد العظيم، وهو الشاهد والشهيد، وتمضي الخطوات الصغيرة، تشق دروب القرية، التي كبُرَتْ وتمَدَّدت واتسعت رحابها، فيفتح الناس بيوتهم، يخرج منها أطفال، يلتحقون بالموكب، وتكبُر المسيرة، وتتلاحق الخطوات، وتتعالى التسابيح، تكسر صمت القرية، وتخرجها من صمتها العميق، وغفلة بعض أهاليها، فالليلة رمضانية بامتياز، ليلة التهلولة المباركة، ليلة الانعتاق، وتطهير الألسن الملوثة بالغيبة والكذب، والأدران العالقة في الألسن، والآفات التي تخرج من الثغور:

سبحان الله واستغفروا من الزَّلل،

سبحان الله وأخلصوا له العَمل،

سبحان الله وكونوا منه في وَجَل،

سبحان الله وآمنوا بما نزل،

سبحان الله وصدِّقوا كل الرُّسُل،

بلا شك ستكون التهلولة أجمل ذكرى للأطفال، كما كانت لنا مدرسة القرآن الكريم أجمل ذكرى، وما صاحبها من أناشيد وتراتيل وتلاوات، للأحرف والكلمات والآيات، كانت أجمل ذكرى عشناها، قراءة القرآن بـ«الهَجْوَة»، وختام اليوم الدراسي بـ«الطَّلقَة»، لا نزال نشُمُّ عبقها كلما تذكرناها، وكان زحف التهلولة يتدافع ويتتالي، وكأنهم في لقاء بطلائع النور، المتوارية خلف الكثبان البعيدة، وهؤلاء سوف يكبرون، وسيحملون العهدة المتوارثة، من الأجداد والآباء إلى الأبناء والأحفاد، يؤمنون برسالة الله التي نقرأ صفحاتها في القرآن، رسالة الاستخلاف في الأرض، وحمل الأمانة والإخلاص في العمل، حتى تكون له أجمل بصمة يتركها، بعد أن ينتهي دوره، وينقضي أجله، ويفضي إلى رب رحيم:

سبحان الله فأسلكوا له السبيل،

سبحان الله وأنفقوا ولو قليل،

سبحان الله وأفرغوا القلب الشغيل،

سبحان الله واذكروا الرب الجليل،

وتتسامى التسابيح، لتنير ليل القرية بأنوار كلماتها، التي تدعو بالحكمة، فكل المسالك تؤدي إلى الله، وتتلاحق التسابيح بإحياء سنن الله في خلقه، وذكر الرب الجليل، وإفراغ القلب المشغول بحب الدنيا، وتتسامى التسابيح في ليل القرية، لتصبح التهلولة دعاءً وتضرعاً، أشبه باستغاثة تعطر الأمكنة وليل رمضان بالذكر، الخطوات تتلاحق، والأيادي تتشابك، والقلوب تتعانق، فنتعلم من أطفالنا معنى الحياة في أملها الواعد، ورقتها الأنيقة.

وتنتهي التهلولة بتوزيع الهدايا والحلويات للأطفال، مكافئة لهم على الجهد الذي بذلوه، والطواف الذي أقاموه، وكأنهم أخوة في بيت واحد، ويعودون إلى بيوتهم، وقد غطى الليل سُدُولَه على الأنحاء، وتبقى التهلولة منطبعة في القلوب، مثلما هي في الذاكرة.

شرح الصور:

1 – دفتر التهلولة.

2 – مشهد من التهلولة.

3 – التهلولة ذكرى وذاكرة لأجيال.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-التهلولة-المباركة-تسابيح-ندية-تعطر-ليل-رمضان