ميمية البوصيري شهاب الدين محمد بن سعيد الصنهاجي (ت: 696هـ/ 1295م)، المشهورة باسم «البُرْدَة»، أو «الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة»، شغلت شعراء العربية من بعده، بين شارح للقصيدة ومعارض ومشطِّر ومخمِّس لها، وخلبت ببيانها ألباب الشعراء ومتذوقي الأدب، فكتبوا فيها شروحات كثيرة، ولا تزال البُردة تُلهِبُ أفئدة كل متذوق لبيانها، ومهوى أفئدة الحفاظ، فهي من عيون شعر المديح النبوي، ويُروَى في سبب نظمها كلام كثير.
والشعراء العُمانيون ليسوا ببعيد عن تذوق معاني هذه القصيدة، ومحاولة الامتزاج بها، امتزاج الروح بالجسد، فقاموا بتخميسها وتشطيرها، والتخميس إضافة ثلاثة أشطر قبل شطري كل بيت من أبيات القصيدة، لتصبح خمسة أشطر، فتتمازج روح الشاعرين في البيت الواحد، وبذكاء توثيقي وحس أدبي، تمتع به الأستاذ الأديب أبو معاد مرشد بن محمد بن راشد الخصيبي (ت: 2012م)، التفت إلى جَمْعِ تخاميس الشعراء العُمانيين لقصيدة «البُردَة» في كتاب واحد، حمل عنوان: «البُردة وتخاميسُها»، صدرت الطبعة الأولى منه في مسقط عام1432هـ/ 2011م، وكأنما جمعهم في مجلس شِعْري واحد، فسهل على الباحثين التعرُّف على الأسماء الشعرية العمانية التي خمَّسَت البردة، والشعراء الثمانية بحسب ورودهم في الكتاب هم: خلفان بن محمد الرواحي، وسعيد بن خلف الخروصي، وسليمان بن مهنا الكندي، وعبدالله بن علي الخليلي، وعبدالمجيد الأنصاري، ومحمد بن سعيد المخلدي، وناصر بن سالم الرواحي، وهلال بن سالم السيابي، واللافت في هذه الأسماء هي تقارب الأعمار، فقد عاشوا في زمن واحد، وغير الشاعر هلال السيابي، فإن بقية الشعراء السبعة هم اليوم في ذمة الله، بما فيهم جامع مادة الكتاب.
ومن هؤلاء من عاش مع البردة حياة شعرية، كالشاعر عبدالله الخليلي، فقد رأى فيها مُتهيئاً للوصول إلى مقام المديح النبوي، ومن افتتانه بها خصص لها ديواناً شعرياً، أسماه: «المُجْتليات»، فقام بتشطيرها كاملة، وسمى تشطيره «رُوْحُ البُردة»، والتشطير هو وضع شطر جديد بعد صدر البيت الأول، وشطر آخر جديد قبل عجز البيت الأول، ليصبح البيت المشطَّر بيتين، يتداخل فيهما الأصل والفرع معاً، فيشكلان شجرة واحدة، دانية بأشهى ثمار اللغة والمعاني والبيان، مطلع تشطيره:
(أَمِن تذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلمِ)
سَرَيْتَ تهوى بِقلبٍ منكَ مُحتَدِمِ
أم مِن بَوَاد بِوَادٍ مَسَّها لهَبٌ
(مزَجتَ دمعاً جَرى من مُقْلةٍ بدَمِ).
ثم قام بتخميسها مرَّتين وعلى وجهين مختلفين، فسمَّى الأول: «نَفَسُ البُردة»، والثاني: «أَرَجُ البُرْدَة»، وفي تخميسه: «نفسُ البُردة»، يخالف الشاعر الخليلي طريقة الشعراء، فيعتمد البيت الأول من قصيدة البردة أصلا في قصيدته، ثم يضيف له ثلاثة اشطر جديدة، كهذا البيت:
(أمِنْ تذكُّر جيرانٍ بذي سَلمِ
مَزَجتَ دمعاً جرى من مُقلةٍ بدمِ)
وَشِبْت ذَوْبَ الأقاحِي في دَمِ العَنَمِ
فكادَ يغرَق مَن في الكونِ مِن نَسَمِ
وأنتَ تسألُ عن نُوحٍ على العَرِمِ.
وفي تخميسه الثاني «أرَجُ البُردة»، يوافق الشاعر الخليلي طريقة الشعراء المعروفة، بإضافة ثلاثة أشطر تسبق شطري البيت الأول من القصيدة، وهو الذي اعتمده مرشد الخصيبي في كتابه:
ما بالُ دَمعُكَ مِنْ عَينيكَ كالدِّيمِ
يَكادُ يُغرِقُ مَن في الكونِ مِنْ نَسَمِ
وأنتَ تمزِجُه في دائِبِ العَنَمِ
(أمِنْ تذكِّرِ جيرانٍ بذِي سَلَمِ
مَزَجتَ دَمْعاً جَرَى مِن مُقلةٍ بدَمِ).
ومع أن الشيخ الخليلي يؤكد في تقديمه لديوانه «المُجتليات» بقوله: (إني عَلَقتُ بها، وانطويت في أحشائِها، لِمَا بَزَّني فيها من عناية ربانية، وما هَزَّني عليها من سَعادة رحمانية، ينتهي مضمارها إلى مدىً لا يشق له غبار، ولا يُدركُ له مَدار، ألا وهو الثناء والإطراء لخير الأنام)، إلا أن الصُّنعة، وحلب القريحة، طغتا على تخميس أمير البيان في مُجتلياته، فبرزت الكُلفة اللغوية على حبه الخاص للقصيدة، أو أنه عبَّر عن ذلك الحب بما راق له من غريب الكلمَات.
وللخليلي قصيدة ميمية عنوانها: «بين القبر والمنبر»، نشرها في ديوانه «وَحْيُ العَبقريَّة»، الطبعة الأولى، ص79، ولا شك أنه كتبها (وأمْلودُ الشبابِ نَضِيرُ) كما يقول البهلاني في نهروانيته، فجاءت ميمية الخليلي دفقة من البيان المُعجِز، وقطعة من السِّحْرِ المُبْهِر، أشبه بصلاةٍ في الرَّوضة الشريفة، يقول في مطلعها:
بين الرِّياضِ وبين الرُّوحِ والنغمِ
حَقُّ الأبُوَّةِ في موصُولة الرَّحِمِ
وبين مَضجَع مَن أهوَى ومِنبرِهِ
رَوضٌ مِنَ الخُلد لم يُورِقْ ولم يَقُمِ
ويعدها الدكتور سعيد العيسائي معارضة لميمية البوصيري، لكن بعد التمعن فيها والتلذذ ببيانها الشعري، رأيت أن الشيخ الخليلي لم يكتبها معارضاً للبُرْدَة، وإنْ وافقتها في الوزن والقافية والموضوع، وهو «المديح النبوي»، إنما تنفرد كياناً شِعرياً بذاتها، ولا تقف في ظلال قصيدة أخرى، وفيها أيضاً يشكو الخليلي إلى مقام النبي، ويبوح له بخلجات وجدانه:
يا صَاحبَ الرَّوضَةِ الغنَّاءِ خُذْ بيَدِي
إلى الأمَانيَ بين الحَوْضِ والخِيَمِ
واسْمَع لشَكوايَ في سِرِّي وفي عَلَنِي
وحُلَّ رَمزِيَ بين العُرْبِ والعَجَمِ
يا سَيِّدي طلَعاتٌ منك أشْهَدُها
بأفقِ سِرِّي بغير السرِّ لم تشُمِ
يا سَيدي نَظراتٌ منكَ ترمُقني
تحت الخَفاءِ كمُنهلٍ مِن الدِّيَمِ
لو فارَقتني فَوَاقاً ذُبْتُ مِن حَرَقٍ
أو غِبْتُ عنها فِراقاً متُّ مِنْ نَدَمِ
ومن بين التخاميس لمست تقارباً وتجانساً بين تخميس الشاعر خلفان بن محمد المغتسي الرواحي بقصيدة البُردة، يقول في المقطع السابع من تخميسه:
شَواهِدُ الحُبِّ تجْلو مِنكَ ما بَطَنا
وتجْعَلُ السرَّ في أحوالِهِ عَلَنا
دليلُ حَالِكَ جسْمٌ منك قدْ وَهَنا
(وَأثبَتَ الوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وَضَنَا
مِثلُ البَهَارِ على خَدَّيْكَ وَالعَنَمِ).
وكذلك وجدت في تخميس الشاعر سليمان بن مهنا الكندي، طلاوة في المعاني، وأشطرها الثلاثة إضافة وإضاءة لشطري البردة، فقد أطلق الكندي خياله الشعري على سجيته، ولم يلاحق غريب اللغة، ولا مضارعة قصيدة البردة، فجاءت الأشطر مغموسة في قارورة عطر المديح النبوي، مثال على ذلك المخمسة رقم 38:
طوبَى لِمَنْ قد غَدا منه بمُنتَشِقِ
أزكى مِنَ المِسْكِ رِيحَاً طيِّبَ العَبَقِ
فللرَّسُولِ مَقامٌ غير مسْتَبقِ
(فاقَ النبيينَ فِي خَلْقٍ وفِي خُلُقِ
ولم يُدانوهُ في عِلمٍ ولا كَرَمِ).
وأجاد الشاعر هلال السيابي في تخميس البردة أيضا، خاصة المقدمة، الناضحة بمعاني الوجد والحب، كما أجاد الشيخ سعيد بن خلف الخروصي كذلك، وأبدع في تخميس الأبيات المتعلقة بالسيرة النبوية، موظفا ثقافته الدينية، وجاء تخميس عبدالمجيد الأنصاري قطعة أدبية رفيعة، ظهر فيها قاموسه اللغوي الثري وثقافته الدينية، والحال ذاته مع تخميس الشاعر محمد بن سعيد المخلدي، وكذلك تخميس الشاعر ناصر بن سالم بن سليمان الرواحي، الذي جاء امتداداً لتجربة الشاعر أبو مسلم البهلاني في تخميس قصائد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي رحمهما الله، ففيها ذات الروح الشعرية الرقيقة.
ملاحظات أخيرة:
1 – هناك إشكال في تسمية القصيدة، طرحه الشيخ عبدالله الخليلي في مقدمة «المُجتليات»، يقول فيه: (هل أنا أقولها: البُرْدَة أم البُرْءَة؟.. في رواية أخرى أن هذه القصيدة هي «البُرْءَة»، أما «البُرْدَة» فتنطبق على قصيدة كعب بن زهير: بانتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتبولُ)، المُجتليات: ص18، وفي إحدى الطبعات لكتاب «مولد شرف الأنام» للبرزنجي، وردت كلمة «البَريئة» عنواناً لقصيدة البوصيري، ولعل القصيدة تحمل الاسمين معاً.
2 – لفَتَ نظري في البُردة بيت وهو:
والنَّفسُ كالطفل إنْ تهْمِلهُ شَبَّ على
حُبُّ الرِّضاعِ وإنْ تفطِمْهُ يَنفطِمِ.
وقد ورد هذا البيت بكلماته ومعناه، في قصيدة «العَبيريَّة» للشيخ محمد بن إبراهيم الكندي (ت: 508هـ/ 1115م)، يقول الكندي الذي عاش الحياة قبل البوصيري بقرنين من الزمان:
فما النَّفسُ إلا كالرَّضِيعِ لأمِّهِ
فإنْ فُطِمَتْ ذلَّتْ وذلَّ نُفُورُها.
فهل كان البوصيري على اطلاع بعبيرية الكندي؟، الله وحده أعلم بهجرة الأفكار، أشرت إلى هذه الملحوظة في عرض لقصيدة العبرية، نشرته في كتابي «المشرب العذب»، ص101.
3 – فن التخميس قائم على إعجاب شاعر بقصيدة شاعر، لكنه في الغالب لا يلبث أن يتحول إلى مباراة ومنافسة ومضاهاة من قبل الشاعر المُخمِّس، فيستعرض بأشطره الثلاثة ملكاته البيانية وقدراته اللغوية.
لم أقرأ تخميسات لدى كبار الشعراء العمانيين القدامى، من أمثال الستالي والنبهاني، لكنهما كتبا قصائد خماسية الأشطر، الستالي كتب قصيدة من 40 مقطعاً، وسليمان النبهاني كتب قصيدة من 32 مقطعاً، نُشِرتا في ديوانيهما.
4 – الشعراء الذين خمَّسوا البردة، حاولوا مشاكلتها وتقليدها، والسير على نهجها وهُداها، فوقفوا في ظلالِها، وساحوا في مجاهلِها، وامتاحوا من بيانها ارتشافاً واغترافاً، فجاء تخميسهم أشبه بشذور الذهب، يتأرجح في الحَوافِّ الناعمة، بين الأصداغ والخدود.
* محمد الحضرمي كاتب وصحفي عماني
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-شعراء-عمانيون-يخمسون-قصيدة-البردة