أنساغ.. ليس البحث عن الخلود ولا الفناء

عبدالله حبيب
[تنويه للأصدقاء، والقراء، والمتابعين الأعزاء: ستتوقف حلقات مادة “أنساغ” اعتبارًا من هذا الأسبوع وطوال شهر رمضان المبارك، وستستأنف الصدور في كل يوم إثنين كالعادة بعد عطلة عيد الفطر السعيد. وكل عام وأنتم بخير، “وعساكم من العايدين والدايمين والسالمين والغانمين، وسامحونا وحلُّونا وبرونا” كما كانت مريم إبراهيم تقول]

…؟، …؟، 199؟، سان دييجو، كاليفورنيا:

لا فائدة. لا فائدة أبدًا.

تنبغي العودة إلى مجز الصغرى والرحيل هناك/ من هناك (الانتحار في سان دييجو سيؤُّول على نحوٍ منفعيٍّ/ براجماتي؛ فهو قد يُفَسَّر على انه بادرة سياسية رمزيَّة).

لكن الانتحار فِعْلُ احتجاج شخصي، وصيرورة ذاتيَّة، وقرار وجودي، وليس استجابة، أو رفضا، أو مماحكة، أو اعتراضا مبدئيّا، أو نهائيّا، ضد أية محاكمة، أو حكمة، أو ظرفا سياسيّا مما يتفنن الطغاة في اختراعه، ومهما كان نبل ثوريَّة الموت في سياق يقع -ولو قليلاً- خارج الخراب الشخصي والدمار الذاتي الذي يواجه فيه الكائن العالم بكل ما فيه من “خير” و”شر”.

وحبَّذا الإتقان في هندسة الانتحار بحيث يبدو أنه حادثٌ هوائيٌّ وأثيريٌّ فحسب من دون أن يعرف أي أحد ما كاد يحدث ذات ليلة في لندن لولا “قربان” أندريه تاركوفسكي.

على الرحيل أن يُنَقَّى من كل الشوائب والمنفعيَّات، وأن يبقى شخصيّا جدا، وسريّا جدا.

لا تفسد مغادرتك بالكثير من الكلام. وكان قاسم حدَّاد قد تمنى الموت بهذا الشكل:

“واقف على الرصيف أنتظر شخصا ما

أو شيئًا ما

من ورائي يأتي رجلٌ

لا أعرفه ولا يعرفني

يطعنني في الظهر بلا مبرر

بلا دافع،

وقبل أن ألفظ أحلامي الأخيرة،

أتوسل إليه ألا يفشي السِّر.

إن كانت حياتي لعبة مكشوفة

فلا أقل من أن يكون موتي لغزًا.

هكذا أشتهي أن أموت” [مقدمة “عزلة الملكات”].

وقبل قاسم حدَّاد كان صموئيل بيكيت قد ذهب إلى مركز الشرطة وأصر على مقابلة الشخص الذي لا يعرفه، والذي سدَّد طعنة بالسِّكين إلى ظهره، فسأله محتارًا: “تُرى لماذا طعنتني ونحن لا نعرف بعضنا البعض أصلاً”؟، ليجيبه هذا ببساطة، وبرود، وصدق: “لا أعرف”. ومن أجل لا شيء، وبسبب لا شيء، ارتكب بطل ألبير كامو في “الغريب” جريمة القتل (1).

…؟، …؟، 199؟، سان دييجو، كاليفورنيا:

ما جدوى الكتابة؟

ليس هناك دليل أكبر على أنك كاتب رديء للغاية من طرحك لهذا السؤال على نفسك في كل يوم، وفي كل لحظة إن بعد احتساء القهوة، أو كرع الخمرة، أو رشف الهواء، أو تجرِّع الماء، أو تهيؤ الفكرة.

ليس ثمة في الكتابة أي جدوى إلا لمن لا يزالون ينتظرون “جودو” وأنت في رأس قائمتهم.

الكتابة هي أكثر الآثام شرًّا في العالم.

…؟، …؟، 199؟، سان دييجو، كاليفورنيا:

لا داعي للانتحار.

الموت فكرة قديمة جدًا، وقميئة جدًا (أعتقد أن فكرة الموت قد وصلت إلى أرض البشر بعد وصول أشعة الشمس والقمر، وإلا لماذا يرحل البشر ولا ترحل أشعة الشمس والقمر)؟

لقد وصَلَنا الموت بسبب ميثولوجيَّات الإغريق الكلاسيكيين فحسب (والذين -يا للمفارقة، وعلى حد علمي- لم يَمُتْ أحد منهم لغاية الآن)، ثم بسبب أسفار الديانات التوحيديَّة الكبرى. وتلك الميثولوجيَّات العجيبة، والغريبة، والطائشة لا تتعامل مع الموت -في الغالب- إلا بوصفه بهلوانا خسيسا، أو باعتباره قردا نبيلا.

أنا لا أستطيع أن أفهم (أو أرتكب) الموت بسبب تلك السرديات الغبيَّة الحمقاء.

…؟، …؟، 199؟، سان دييجو، كاليفورنيا:

ما هو سيئ (أو رائع) في الموت ليس البحث عن الخلود ولا الفناء (فأنت قرأت ملحمة جلجامش)، بل إن السيئ هو أن تكون في وضعية لا تستطيع فيها الدفاع عن نفسك حتى بعد انتصارك على الآخرين.

هذا هو الأسوأ على الإطلاق. تصور، مثلاً، أن التافهة […] ستبكي وتولول وتذرف دموع تماسيح وهم يحملونك بعد الغسل والتكفين إلى المسجد لتهتف بشيء من قبيل (خاصة وأنها تحب الظهور، والاستعراضات، والتيقن من وجود قائمة مُسربَّة إليها من الدينونة): “وااابويي وااااأمي، أخويي عبدالله مات! مات أخويي عبدالله”!

كيف تستطيع أن تهديها إلى أية فكرة على الإطلاق وأنت مُحَاصَرٌ في البياض الذي تم غسله بعناية فائقة، هذا إضافةً إلى العطور الطقوسيَّة التي كادت تخنقك في طور التكفين من التجهيز للدفن؟ كيف تستطيع أن تحمي ذراعيك المضمومتين إلى جنبيك (في أفضل استسلام نهائي للعجز) وهم ينزلونك بهدوء وحرص شديدين إلى الحفرة التي ستراهم فيها جميعًا من جديد.

كيف تستطيع أن تضمن النجاة من شرورها، وآثامها، وعدوانها حين يبدؤون في رص تلك القطع الصخريَّة على اللحد؟

لقد انتصروا عليك أخيرًا، وصار في وِسْعِهم البكاء بحريَّة شديدة طوال ثلاثة أيام بلياليها.

يا الله، كم هو الموت فكرة ركيكة للغاية مثل […]، و”لكني لا أستطيع أن أموت” (2).

…؟، …؟، 199؟، سان دييجو، كاليفورنيا:

ماذا أفعل بالكتابة؟ وما الذي ينبغي منها أن تفعل؟

الكتابة لا شيء، وسيكون “الجزاء من جنس العمل”.

الكتابة هي الشيء الأكثر حماقة (حين لا يجد المرء ما هو أكثر حماقة من ذلك).

…؟، …؟، 199؟، سان دييجو، كاليفورنيا:

(1)

“لقد حدث أن حوَّلتُ مرتين الأحلام إلى السينما كما حلمتُها بالضبط. إحداهما في “الفراولة البريَّة”: المقطع الذي يَرِدُ فيه التابوت. لم أُجرِ أي تأويل، بل وضعت الحلم كما جاءني في المنام”.

أقرأ هذا لبيرغمَن في ساعة متأخرة من الليل، وأعتقد أن هذا من خير ما يمكن للمرء أن يقرأه قبل الذهاب إلى السرير كي يسدر في الصحو الآثم تارة أخرى.

(2)

إذا استطعتَ في صباح يوم الغد أن تنهض من سريرك مثل عصفور يجر شاحنة، وأن تدخن سيجارة أو سيجارتين قبل أن تضع بيضة أو بيضتين في القدر الصغير، وأن تفتح جهاز التسجيل على “الفصول الأربعة” لفيفالدي، وأن تحلق ذقنك أمام مرآة الحمام، وأن…

أنت، إذًا، شخص غير طبيعي للغاية، أما إكمال إنجاز المجزرة فتلك مهمة سيتكفل بها غيرك.

(3)

ما سيحدُث اليوم، حدَث في الغد أيضًا.

لكن، على رسلك يا هذا؛ فما الذي يعنيه هذا الكلام؟

(4)

لا تتحذلق كثيرًا في كتابة اليوميات (وأظن أنك صرت تفعل هذا أحيانًا، حتى ولو من دون قصد). لا تدع لدموعك، ومخاطك، ولحمك، وشحمك الانضمام إلى القوافل.

(5)

سيكون الموت هادئًا وعميقًا مثل قصيدة لسان جون بيرس.

(6)

لا داعي لكتابة يوميات أو أي شيء آخر؛ فالطُّغاة والبهلوانات يضحكون (شاهدت شيئًا من التلفزيون ونشراته اليوم).

————————————————–

(1): هذه “الجريمة” التي كان مسرحها الروائي الجزائر وضحيتها جزائري، وذلك خلال الحقبة الاستعمارية، والتي كانت -أي الجريمة- من الاحتفائيّات المؤيقَنة الكبرى للأدب “الوجودي” و”العبثي” لعقود طويلة، تعرضت لكشف قناع أيديولوجي ونقد عميق صارم على يد إدوَرد سعيد، وذلك من منظورٍ ما بعد كولونيالي (حاشية أضيفت إلى المتن في مسقط، 15 مارس 2022).

(2): “لكني لا أستطيع أن أموت”: ينسب نيكوس كازانتزاكيس، في رسالة إلى زوجته إيليني، هذه العبارة إلى متصوف يهودي (حاشية أضيفت إلى المتن في مسقط، 15 مارس 2022).
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أنساغ-ليس-البحث-عن-الخلود-ولا-الفناء