download - 2022-03-20T092653.903

مرفأ قراءة .. ترجمة «دون كيخوته» التي لم تكتمل!

في عام 1957 صدرت عن سلسلة (الألف كتاب) الشهيرة التي أطلقها طه حسين في خمسينيات القرن الماضي، الجزء الأول من الترجمة العربية للكتاب الأشهر «دون كيخوته» أو بصيغتها الكاملة «السيد العبقري دون كيخوته دي لامنشا»، للكاتب الإسباني ميجيل دي سرفانتس سافيدرا، بتوقيع الدكتور عبد العزيز الأهواني، ومراجعة الدكتور حسين مؤنس.

وكانت هذه الرواية النثرية «دون كيخوته» أثرًا رائعًا كتب لصاحبه الخلود، وجعله في الصف الأول من عظماء الكتّاب، لا في إسبانيا وحدها، بل في العالم كله، نشر الجزء الأول منها لأول مرة في إسبانيا عام 1605، ونُشر الجزء الثاني في 1615، وهي تُعد أول رواية حديثة في الأدب الإسباني، فهي من كلاسيكيات الأدب العالمي، بل ومن الأعمال المؤسِسة في الأدب الغربي الحديث عامةً.

ومن اطلع على هذه الترجمة أو بالدقة هذا الجزء من الترجمة للنص الروائي الأشهر سيجد نفسه في مواجهة واحدة من أعذب الترجمات العربية وأجملها لنص هو باعتراف العالم النص الروائي المؤسس في الأدب العالمي الحديث.

وقد كتب الأهواني مقالتين طويلتين (هما بالأحرى دراستان) عن «سرفانتس ورائعته دون كيخوته» (نشرت في مجلة «تراث الإنسانية»)، والأخرى «سرفانتس وسيدي حماده» (نشرها في مجلة «المجلة»)، وهما من أفضل ما كتب في العربية (من وجهة نظري) عن النص الروائي الأول في تاريخ الرواية الحديثة!

-2-

صدر نص دون كيخوته أو دون كيشوت في أكثر من ترجمة عربية، منها ترجمة الدكتور عبدالرحمن بدوي، وتكاد تكون الأشهر والأذيع، وترجمة الأهواني وترجمة العطار (التي تعد استكمالا وتتميما لترجمة الأهواني بوجه من الوجوه) وقد كتب المرحوم الدكتور حامد أبو أحمد دراسة شيقة (ضمن كتابٍ بعنوان «غرناطة في ذاكرة النص») يقارن فيها بين الترجمات التي استطاع حصرها لدون كيخوته إلى العربية، ويرصد الفروقات الدقيقة بينها، ويصل في النهاية إلى تفضيل ترجمة عبدالعزيز الأهواني، واعتبارها الأجمل والأبدع بين تلك الترجمات، قائلا “تعد ترجمة الدكتور عبدالعزيز الأهواني هي الترجمة الأفضل للرواية.

لكن عبد العزيز الأهواني، عليه رحمة الله، لم يكمل نشر هذه الترجمة الجزلة البديعة (القسم الأول من الجزء الأول)، احتجاجًا على حذف فصل كامل منها اعتبره تدخلًا فجًا وغير مقبول من الرقابة على الكتب والمصنفات، وإخلالًا بأمانة النص المترجم، والأصل الذي ترجم عنه! وكانت الرقابة على المطبوعات والمصنفات الأدبية والفنية آنذاك قد حذفت فصولًا بسبب بعض العبارات الدينية، مما دعاه إلى عدم نشر الجزء الثاني بعد أن كان أعد المخطوط للنشر!

ومات عبدالعزيز الأهواني دون أن ينشر ترجمته الكاملة المرجوة [المنتظرة]! وقدِّر لتلميذه سليمان العطار أن يصدر هو ترجمته الكاملة اعتمادًا على ترجمة الأهواني، واستكمالًا لها ليصدر هذا النص العالمي في صورته العربية الكاملة بتوقيع اثنين من أشهر وأهم أساتذة الأدب الأندلسي والأدب المقارن والترجمة عن الإسبانية في الثقافة العربية كلها.

-3-

وقد حكى أستاذي وصديقي الناقد والأكاديمي المرموق الدكتور حسين حمودة طرفًا من قصة إتمام الأهواني لهذه الترجمة فيما يقول في كتابته البديعة تحت عنوان «من كتاب الراحلين المقيمين»:

(أخذنا عبدالفتاح الجمل من أيدينا، يحيى الطاهر وأنا، وطلب منّا أن ندعمه في إقناع الدكتور عبدالعزيز الأهواني ليكمل ترجمة رواية «دون كيخوته» كي ينشرها هو، وذهبنا بالفعل إلى شقة الدكتور الأهواني الذي استقبلنا بترحاب ريفي.. ودار الحوار التالي:

– والله يا دكتور لو كمّلت الترجمة ستكون إنجازا كبيرا.. وبعدين ستنزل كتابا بغلاف صلب.. ستكون مثل صندوق جميل كده [قال عبدالفتاح الجمل، ورسم الصندوق بيديه]..

الدكتور الأهواني، بعد أن ضايفنا بمشروب، دخل غرفة جانبية، وخرج بعد وقت ممسكًا بنسخة مما كان قد ترجمه منذ زمن، وحكي حكاية توقّفه عن إكمال الترجمة [بعد اعتراض الرقابة].. وأعطاني النسخة:

– «اقرأْ بصوتٍ عالٍ يا حمودة لو سمحت»..

بدأت أقرأ، وكان يصغي بتركيز ليحكم على لغة ترجمته القديمة حتى يطمئن إليها الآن، بعد زمن طويل..

انتهى اللقاء، وقبيل سلامنا عليه انقطع النور.. وبعد جهد استطاع الأهواني أن يأتي من مطبخه بـ«لمبة جاز» مضاءة.. وأصّر على أن ينزل معنا السلّم ليوصّلنا، ممسكا باللمبة، حتى يطمئن على خروجنا سالمين من باب العمارة..

في الشارع، الذي كانت فيه مصادر للضوء، قال عبدالفتاح الجمل: «شفتوا؟ أقنعناه أخيرا.. رواية تستحق الترجمة.. وها يكون كتاب حلو، زي الصندوق كده» [ورسم الصندوق بيديه مرة أخرى]..

أنا لم أفكر في تصوّر الأستاذ عبدالفتاح عن الصندوق الحلو.. «فكرت في حرصه، إلى أقصى حدّ، على أن تنتشر القيمة الأدبية الرفيعة بين الناس، وفكرت في احترام الدكتور الأهواني للأمانة، وفي بساطته وتواضعه الجمّ..

وقد توفي الثلاثة قبل أن تكتمل الترجمة، وتصدر في صندوق جميل»..

-4-

أما دون كيخوته هذا الذي صار واحدا من شخصيات الأدب الخيالية الخالدة، فهو رجل نحيف طويل قد ناهز الخمسين، برجوازي متوسط الحال، يعيش في قرية من قرى إقليم لامنشا بإسبانيا. لم يتوج. ولا يعيش معه في بيته القروي إلا ابنة أخت له، وخادم تتكفل بشؤون البيت، ولديه من الفراغ ما يسمح له بالقراءة والمطالعة. ويقوده مزاجه إلى كتب الفروسية التي تسرد وقائع الأبطال والمغامرين من الفرسان الجوالين، فيجتمع له منها قدر ضخم يعكف الليل والنهار على قراءته، ويشغف بها شغفًا يمتلك عليه حسه، حتى يكاد يفقد عقله، وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية. ثم يبلغ به الهوس حدًا يجعله يفكر في أن يعيد دور هؤلاء الفرسان، وذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الأرض، ويخرجون لكي ينشروا العدل وينصروا الضعفاء ويدافعوا عن الأرامل واليتامى والمساكين.

وينقل الأهواني في مقالته التعريفية المفصلة عن «ثربانتس» أنه قد كتب هذه القصة ليسخر من عصر الفرسان، ومن الروايات التقليدية، التي كان الناس يدمنون على قراءتها في عصره. انتقد ثربانتس عصره، وربما العصور التي سبقته، هاجم القوانين السائدة، وقساوسة محاكم التفتيش المتعصبين، والكتاب الذين يدعون الحكمة، بينما يسطون على كتب القدماء، والحكام المحليين الغارقين في الفساد، والأدعياء والمتملقين الذين جعلوا من أصحاب الموهبة الحقيقية، مثله، في حضيض السلم الاجتماعي.

باختصار كتب ثربانتس عن الفارس الذي كان يأمل أن يكونه، ولكنه لم يستطع، ولأن الموهبة غلّابة كما يقولون، فقد تمرد «دون كيخوته» على كاتبه، واكتسب حياته الخاصة، لم يعد قناعًا يختفي المؤلف خلفه، ولكنه كائن حقيقي يواجه الكون كما يجدر به، مشكلته أنه خرج للعالم الحقيقي بعد طول احتجاب، دون مرجعية يستعين بها، فاختلط أمامه الخير بالشر، والوهم بالحقيقة.

-5-

ويسلط الأهواني في مقالته الثانية التي أشرنا إليها أعلاه أن سرفنتس ادَّعى في بعض فصول روايته أنها من تأليف مؤرخ عربي جعل اسمه «سيدي هميتي بننجيلي» -عربناه في الرسم إلى سيدي حماده بن الجيلي في ترجمتنا للرواية-، بنص الأهواني، وأنه عثر عليها مكتوبة بالعربية، فأسند إلى أحد الموريسكيين -وهم من أبناء المسلمين الذين بقوا في إسبانيا بعد زوال الحكم العربي وتنصروا- وكان يعرف العربية والإسبانية بترجمة الرواية. ومضى سرفنتس بذكر اسم المؤلف العربي بين حين وآخر أثناء سرد روايته.

وقد اتبع سرفنتس في هذا سُنة بعض مؤلفي كتب الفروسية السابقين عليه، ممن كانوا يضيفون إلى مؤرخين قدماء يونانيين أو رومانيين أو عرب أمر تأليف هذه الكتب ليجعلوا لها ما يشبه المستند التاريخي، وليوهموا القراء بأنها تشتمل على حقائق لا أباطيل، بالرغم من أن القراء لا يصدقون هذا النسب المدعي.

وليس من شك في أن شهرة الأدب العربي بالسير وما ترجم عن اللغة العربية إلى الإسبانية قبل عصر سرفنتس من قصص الحكمة، ومن حكايات دينية وغير دينية، كما أن صلة سرفنتس بالعالم بالإسلامي المعاصر له ومعيشته سنوات في الجزائر، فضلًا عن سنو المؤلفين السابقين، كان مما رشح لديه سيدي حماده لينسب إله تأليف سيره دون كيخوته لتكون حيلة روائية أصيلة وحية ومتجددة حتى وقتنا هذا.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/مرفأ-قراءة-ترجمة-دون-كيخوته-التي-لم-تكتمل