المقهى ..

خالد علي المعمري
«إلى أصدقائي في مقاهي القاهرة: هلال البادي وسعيد الحاتمي ومحمد الشحات».

يبدو أنّ للمقاهي مكانةً خاصة عند المثقفين والأدباء؛ ليس لأنهم يرتادونها بصفة مستمرة حاجزين أمكنتهم بها، ومتذوقين لقهوتها وشايها، بل أصبحت المقاهي فضاء مسكونا بالخيال لدى الأدباء، يشتغلون على حدودها المكانية، مقدّمين فضاء مكانيا يخدم فكرتهم في الكتابة.

في مقالة سابقة نُشِرت في «جريدة عمان» بتاريخ 18 أكتوبر 2021م كتبتُ عن تجليات الحزن في نص (صلوات العنقاء الأخيرة) لفاطمة الشيدية، فكان الحديث حاضرا عن المقهى الوارد في النص، وكتبتُ أنّ المكان/ المقهى «في النص ليس مكان الحكايات فقط، أو إقامة الحوارات والتباسات الضمائر وتفكيك بواطنها، وإعادة قراءاتها وتأويلاتها، إنه أيضا مجتمع الحزن وصراعات الغربة الداخلية التي تدور في فضائه، وتقع في مخيلة الشخصيات داخله».

هكذا تتشكّل صورة المقاهي في الشعر على الأقل، هي زاويةٌ متخيلة تضم صورا متعددة وشخصيات مختلفة وحوارات متنوعة في مضامينها، تُبنى معها لغة الشعر وفلسفته؛ إذ لم يَعُد للمكان حضورٌ واقعيٌ، وتلاشت حدوده وبقي منها الحدود المتخيلة والأغراض المنبعثة من قيم الشعر.

ولعلّ في حضور الحزن في نص فاطمة الشيدية السابق ما يُشير إلى التماهي بين الشعر والمكان الذي تتشكّل منه الثيمة والدلالة، فيصبح للحزن حضورٌ طاغٍ يتمدّد في الفضاء المكاني ويتّسع مع المفردات.

الأمر ذاته نجده في تشكُّل حدود المكان عند حسن المطروشي في نصه (مقاهي البلاد)؛ إذ إنّ المقهى مرادفٌ لدلالات متعددة مثل: (الثرثرة، والحزن، والغربة، والوحدة، والذاكرة)، فيحاول النص تقديم رؤيته عن الفضاء المكاني بتصويره مكانًا للتعبير عن الذات، والبوح والشكوى من كل مظاهر الحياة:

صخبٌ في مقاهي البلادِ،

وثرثرةٌ فّجّةٌ

عن حروب الرياضة،

أو في هجاء الحكوماتِ،

أو عن وباء الأغاني،

الجميلاتُ لا يلتفتنَ إلى عابرٍ أشيبٍ،

والمقاعدُ تَستبدلُ الناسَ بالناسِ كالأفئدةْ

تتسلّلُ أنتَ

بفائضِ حزنكَ،

مثل غرابِ القوافلِ،

مرتبكًا، تعبًا،

لا تريدُ من المعجزاتِ سوى

كوبِ شايٍ وطاولة مفردةْ

لا يهمُّ إلى أي هاويةٍ ستُطلُّ،

لأيِّ زمانٍ تعودُ،

فحسبكَ طاولةٌ

يستريحُ بها عابرٌ

أعزلٌ ووحيدٌ،

بلا وطنٍ

أو رفاقٍ

ولا ذكرياتٍ

ولا سيدةْ! (ليس في غرفتي شبح: ص37)

تغزلُ الوحدة والغربة خيوطها في الذات المسكونة بالشعر، ويُصبحُ المقهى متنفسًا لإعادة الحياة، ويتم ذلك باستنطاق الجُمل المنفية، وتنوع الخطاب الشعري من الغائب إلى المخاطب، لينقل لنا الشعر صورة الوحدة؛ فالفضاء هنا رغم احتوائه دلالات الحضور الشعري فإنه يتقاطع مع مفردات الوحدة والغربة المتشكّلة من أدوات التعبير السياسي والاجتماعي والعاطفي.

وإذا كانت لغة الحزن والوحدة واضحة في مقاهي الشيدية والمطروشي، فإنّ يونس البوسعيدي يحاول رسم صورة مليئة بالضحك عن عالم مقهاه الشعري، فالمقهى -رغم عنوان نصه (مشتل للضحك)- ينزاحُ إلى لغة فلسفية تضمُّ عالما من الضحك والحزن، وعالما من الوصف والتخيّل، وعالما من الحب والخوف، هكذا يجعل الشاعر من مقهاه دلالة عائمة في بحر الحياة الذي يتشكّل في النفس والوجدان:

مقهى بسيطٌ مشتلٌ للضحك

لِتمثالٍ تجري في داخله الأنهار.

لا أواعدُ امرأةً كقطةٍ فارسيةٍ

ولا أساومها على كأس نبيذ.

هنا الشحاذون والسكارى

كالنوارس مع البحر

يفتّون رُمانة الحكايا عن جمهوريات الموز

وركض النمل خلف فُتات خبز.

الشاي بالنعناع

الأصدقاء القدامى

السبخُ على باب الأربعين

كلَسُ الواعظين

ونفافٌ على مقهى صغير.

أخلع جلدي في مقهى بسيطٍ

مثل لغة ترقصُ بعكاز

ولكنها ترقص

كأطفالٍ رجموا أباهم بدبابيس الكلام

وانصرفوا ضاحكين.

في مقهى صغيرٍ

أترعُ أقداحي بالدمعِ

وأنا أنظرُ طالعي كالبورصةِ في أيام الحرب. (كطائر يحلم بالمطر: ص106)

إنّ الدلالات المتكدسة في النص تجعل من المقهى المتخيّل مكانا يجمع أضداد الحياة وفلسفتها الضمنية.

يوازن يونس البوسعيدي في تشكيل مفردات نصه بين الجُمل الفعلية والجمل الاسمية التي تجمع بين زمنية الحدث، وسكون الصورة: (أخلع جلدي في مقهى بسيط مثل لغة ترقص بعكاز، وأنظر طالعي كالبورصة في أيام الحرب، أو هنا الشحاذون والسكارى كالنوارس مع البحر يفتّون رُمانة الحكايا…). إنّ المقهى في النص أشبه بمجموعة الصور التي جُمعت للتعبير عن صورةٍ أشمل وأوسع للحياة؛ فتتسع الدلالات وتضيق أحيانا على فلسفة متخيلة للمكان الذي يحكي صورة ترسّختْ في ذاكرة الشاعر.

ويمزج سالم الهاشمي في نص (إلى حسن مدن) بين تركيبة الشعر وبين ارتياد الشعراء للمقاهي، فيتحرك النص حركة داخلية مخاتلة تقتضي الجلوس والتأمل، وكأنك في موضع ينطلق فيه السرد مادًّا حكايته، متأملا، مستعيرا من الحياة صورتها الحية:

حسن مدن

في مقهى القاهرةِ

يتلصصُ

على قصيدة نثر

ينسابُ منها

ماء الشعر برقةٍ؛

تتبللُ المخيلة

ترتعش الذاكرة

كعجوز. (بياض في المخيلة: ص 17)

تؤدي الأفعال المضارعة دورها في البناء الشعري: (يتلصص، ينساب، تتبلل، ترتعش) فهي تدفع القارئ إلى الحركة الزمنية والمكانية مع المفردات، وتتسع دلالة النص رغم قصره في الكشف عن لغة الشعر وفضاءاته، وإذ تؤدي الأفعال دورا سرديا في تشكيل الحدث، فإنّ لفظة المقهى في النص عملت على احتواء الحدث في حركته القصيرة، فكان التمازج بين دلالات الحركة وبين فضاء المكان الضيق، ذلك ما عبّرت عنه لفظة «يتلصص» في مضمونها القريب ودلالاتها الضيقة. وهكذا يُعبّر سالم الهاشمي عن مقاهيه، إنها مرتبطة بالآخر، والتي تتشكّل بناءً على مضمراته الداخلية.

كما يُكثر محمد الرحبي في مجموعته (أغنية إلى زنجبار) من حضور المقاهي، فتردُ نصوص مثل: (مقهى كوستا، وتدهشني الشوارع، ومقهى تطل على البحر، ومقهى مراكش، وقهوة الصباح) معبّرةً عن الحضور الفعلي للمكان المتخيل. ففي نص (مقهى كوستا) يُقدّم الرحبي صورة نسقية للمقاهي، صورة قائمة على التمييز بين المثقفين والإقطاعيين والمهمشين، فينقل لنا صورة نمطية يُقدّمها المجتمع عن مرتادي المقاهي.

وتُظهر هذه الصورة المثقفين بأنهم: إقطاعيون يتأبطون معاجمهم ورواياتهم وكتب الشعر في مقابل المهمشين الذين يجلسون على الرصيف يتصفحون جرائدهم، إنها صورة نسقية تجمع الضدين في لغةٍ تبتعد قليلا عن جوهر الشعر إلى جوهر الوصف والحكي، صورة صنعتها الثقافة في رأيه:

لا يجلس في المقهى

إلا المثقفون

والمثقفات

الإقطاعيون والإقطاعيات

متأبطين معاجمهم

ورواياتهم

وكتب الشعر

وأنا فقط الجالسُ

على الرصيف

أتصفح جرائدي

سحقا لكم أيها المثقفون

ويا أيها الشعراء

لن تتبعكم الجميلات

لن تتبعكم المثقفات الروائيات

في مقهى كوستا

لا يجلسُ إلا المثقفون

الهاربون

لا يجلس إلا المهمّشون

والمثقفون المتشاعرون. (أغنية لزنجبار: ص23)

تختفي لغة الشعر في النص لانزياحها إلى الكلام العادي، وبانزياحها إلى الكشف عن المضمرات النسقية، ومعها يُصبح المقهى معادلا تختزن فيه دلالات الطبقية والتمييز والتهميش، وهنا تظهر هوية المكان الطارد في نظر الشاعر الذي يسلب حق البشر في التماهي مع الأمكنة والبقاء فيها.

أخيرًا، إنّ لكل شاعر رؤيته في التعبير عن المكان/ المقهى، إذ قدّم الشعراء من خلالها نصوصا شعرية عملوا على إيجاد ملامح عامة للمكان الذي يقصدونه، وبذلك يكون للمقاهي دورٌ في صناعة النصوص، واختلاق الدلالات وتوظيف المفردات وصولا إلى بناء نص شعري يتقاطع مع المكان الواقعي.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/المقهى