إيهاب الملاح
مرفأ قراءة…
من بين الكتب الصادرة أخيرًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، استلفتني كتاب جديد للمؤرخ الكبير والقدير الدكتور أحمد زكريا الشلق بعنوان «من النهضة إلى الاستنارة في تاريخ الفكر المصري الحديث» (عن دار الكرمة 2022)، عقد فيه فصلًا رائقًا وعذبًا عن الشيخ المستنير الرائد المجدد رأس حركة الإصلاح والتجديد والتنوير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873).
وأعادني ذلك الفصل الجميل على الفور إلى سنواتٍ بعيدة ومبكرة، حينما صافحت عيني أول كتاب مصور للأطفال كان بطله الشيخ رفاعة، وكان كتابا صادرا عن الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، ضمن سلسلة تبسيط أعمال كبار الأدباء للناشئة والصغار.
تقريبًا، مثلت شخصية الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873) الشخصية النهضوية الوحيدة التي تعرفتُ عليها وقرأتُ عنها، وبدأت رحلة اكتشاف سيرتها وأفكارها، قبل أن أتم العاشرة من عمري؛ تلازمني صورة البورتريه الشهير لملامحه الوادعة المسالمة الطيبة وعينيه اللتين تشعان ذكاء وحكمة وعمامته الصعيدية بلفتها الشهيرة وطبقاتها المدرجة التي صارت أيقونة على شخصية الشيخ الأزهري الصعيدي.
وتصادف في تلك المرحلة من العمر أن شاهدت أيضًا مسلسلًا دراميًّا كان يذاع على القناة الأولى المصرية في ذلك الزمن البعيد، عن الشيخ الصعيدي الأزهري، من بطولة الراحل سمير البنا، وكنت أتابعه بشغف عظيم، وتكاد مشاهده وحواراته تتجدد في مخيلتي وتتراءى أمامي، وأنا أستعيد رحلة البحث عن الشيخ رفاعة أو “مسيو رفاعة” كما كان يحب الفرنسيون أن يطلقوا عليه!
ولا أتصور الآن، وقد تجاوزت الأربعين بسنوات، أنني قرأت هذا الكم الهائل من الكتب والدراسات عنه، وعن قيمته، وأثره، وعن عبقريته الطيبة الوادعة المتواضعة؛ ولا أفهم لماذا لم أستثمر قدرًا من هذه القراءات الغزيرة في إنجاز أطروحة أكاديمية عنه، وما أكثر الذين أنجزوا رسائل ماجستير ودكتوراه عليها اسمه، ولم يقرأوا أو يتموا قراءة كتابٍ واحد له! عمومًا هذا الحديث ذو شجون وله مناسبة أخرى!
– 2 –
أما الآن فما يعنيني هو أنني بدأت بعد إرجاء طويل جدا الكتابة عن رفاعة الطهطاوي؛ وما الذي يمكن أن يُكتب عنه الآن؟! هل أعيد كتابة سيرته؟!
بالمناسبة هناك كتب ليست بالقليلة رائعة توفرت على تسجيل سيرة الطهطاوي، والتأريخ لحياته، ومع ذلك ما أبعد هذه السيرة وهذه التفاصيل عن معارف وأذهان من يجب أن يتعرفوا عليها ويدرسوها بحقها.
هل أحاول التركيز على بيان ما قدمه من جهود وأعمال جعلته بحق أبا التنوير الحديث أو رائد التنوير المصري والعربي الحديث أو أي لقب آخر أطلق عليه هو به جدير وحقيق؟!
هناك من سبقني إلى هذا، وهم كثر وأسماء محترمة وجادة؛ الدكتور محمود فهمي حجازي قدم نموذجا علميا مبهرا في استخلاصاته المقطرة لأفكار الطهطاوي السياسية والتربوية والعلمية والتعليمية في كتابه الممتاز القيِّم «أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي»، لم يترك مجالًا أو حقلًا معرفيا أسهم فيه أو ترجمات أنجزها أو مؤسسة أنشأها أو مجلة ترأس تحريرها دون أن يشير إلى ذلك، ويعرض ما قدمه الطهطاوي فيها بحنكة وتمكن واقتدار! (وهذا الكتاب تحديدًا يمثِّل -من وجهة نظري- نموذجًا باهرًا في الدرس العلمي المعاصر، والقدرة على استخلاص الأفكار وتحليلها وعرضها وتوثيقها).
وهناك، أيضًا، سلسلة المقالات التحليلية المطولة التي كتبها المرحوم الدكتور جابر عصفور ونشرها منذ ما يزيد على عشرين سنة عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، ركز فيها على نظرته للآخر، واستجابته لعلوم ومعارف هذا الآخر (الأجنبي/ الأوروبي/ الفرنسي)… وهي للأمانة والحقيقة من أعمق ما كُتب عن هذا الرائد المدهش!
– 3 –
وتدين مصر، بل العالمان العربي والإسلامي، للطهطاوي بأكبر فضل وأعمقه في إحداث حركة التغيير الثقافي الذي غير وجه الحياة فيها ومن ثم في العالم العربي كله. كان واحدًا من المقربين إلى شيخه الأجل والأثير حسن العطار، ذلك الشيخ الذي اقترب من علماء الحملة الفرنسية على مصر، وأبصر امتلاكهم لعلومٍ غريبة عن الواقع العربي المعاصر، وإن لم تكن أصولها غريبة عن تراث الأجداد، فأدرك أن التصدي للتحدي المفروض لا بد له من تغيير جذري عميق وشامل، تمتلك فيه الأمة وبه أسلحة هؤلاء الخصوم، وعبر عن ذلك في كلماته الموجزة: «إن بلادنا لا بد أن تتغير، وأن يتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها!»، وهو ما حققه تلميذه النجيب وابنه في المعرفة والثقافة الشيخ رفاعة الذي صار بحق أبا النهضة والتنوير والتحديث في مجرى الحياة الفكرية والثقافية الحديثة.
فهو أبو الديمقراطية المصرية الحديثة، وأبو الصحافة المصرية في العصر الحديث، وأول من نادى بتعليم المرأة، وتحريرها من أسر الجهل والتقاليد البالية، وإليه يرجع الفضل في بعث فكرة “الوطنية المصرية”، وتطرّق إلى فكرة “المواطنة” كأساس للمساواة بين المواطنين في البلد الواحد، تحت مظلة الدستور والقانون، دون النظر إلى الدين أو الجنس أو العرق.
وهو العالم الأزهري المعمم الذي سعى إلى الكشف عن المضمون التقدمي والحضاري للإسلام ومطابقته لروح العصر وكل عصر، وبما أعطاه من مكانة كبرى للعقل والاجتهاد في شؤون الحياة؛ إذ دعا إلى فهم الدين فهمًا عقلانيًا مستنيرًا، وكان منطلقه في ذلك أن القيم الخالدة للإسلام تستوعب كل تطور لمصلحة الإنسان متى فهمنا الدين الحنيف على وجهه الصحيح.
وكان الطهطاوي في كل ما قدّم من خدمات ومساهمات جليلة لهذا الوطن، إنما يصدر من منظور نفسٍ قادرة على التحليل والفرز واستيعاب الجديد في إطار الثقافة التقليدية الراسخة، وذلك بالبحث عن أوجه التماثل في التراث مع العناصر الإيجابية من تلك الحضارة الحديثة، وفي بعض الأحيان بالتفسير الجديد (تقديم قراءة جديدة) لذلك التراث القديم.
– 4 –
أذكر جيدا أن ذكرى ميلاده المائتين (2001) لم تمر أبدًا مرور الكرام، فقد احتفلت العواصم الثقافية العربية الكبرى بالرجل الذي استهل الاستنارة العربية الحديثة، عندما وضع أول لبنة في صرح التعليم الحديث، وابتعث أول جريدة- مجلة واعدة «روضة المدارس»، وأسس مدرسة الألسن العريقة، وتخرّج على يديه هو بمفرده عشرات من المترجمين الأكفاء الذين تحولوا إلى أعلام النهضة ودعاتها ومحققيها، وكتب في كل فروع المعارف الحديثة التي رأى فيها وسيلة للنهوض بأوطان العرب، والانتقال بها من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، وصاغ ثمـرة أول لقاء حديث بين الشرق المتطلع إلى النهضة والغرب المتقدم، وذلك في عمله التأسيسي البديع «تخليص الإبريز في وصف باريز»، وترجم أول رواية حديثة إلى اللغة العربية، وهي رواية سياسية، كانت تهدف إلى تنوير أولي الأمر، وتثقيفهم بأصول الحكم العادل، وهي رواية «مغامرات تليماك» للكاتب الفرنسي فينلون (1651-1715) والتي أصدرها في باريس عام 1699 ليعلّم ولي عهد فرنسا مسؤوليات الحاكم وواجبات الملك، بواسطة استخدام تاريخ اليونان القديم وآدابهم، فاستعار إطار مغامرات “تليماكوس ابن أوديسيوس” الذي ارتحل باحثًا عن أبيه الغائب ليعود به إلى وطنه، وقد ترجم الطهطاوي هذه الرواية حين نفاه الخديو عباس إلى السودان (1850- 1853) فاستغل الوقت في الترجمة التي كانت رسالته ووسيلته وأداته، واستغل الترجمة في بثِّ آرائه عن الحكم العادل ضمن النص المترجم الذي أصدره في بيروت عام 1867 بعد عودته من المنفى بعنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك».
– 5 –
وهكذا كان رفاعة الطهطاوي رائد التجديد والتنوير والتحديث في الفكر العربي كله في القرن التاسع عشر، بما قدمه من أفكارٍ جديدة التمس لها أصولاً في الثقافة الإسلامية، متخذاً لها من الفكر الغربي فروعاً وأغصانًا (بتعبير المؤرخ الراحل د.رؤوف عباس). وكانت له بادرة القول بتطوير المجتمع العربي الإسلامي على أسسٍ تحقِّق تقدمه على طريق الحضارة بأسلوب انتقائي يركز على الجوانب المادية، وما ارتبط بها من مجالات معرفية، ويتعامل بحذر مع النظريات والأفكار.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/رحلة-البحث-عن-رفاعة-الطهطاوي