مبتدأ الحكاية..”هنا تستيقظُ القُرى المنسية ومرويات الناس.. مِهَنهم وحياتهم، فثمة ما هو منسي ويمكن أن يغدو “مُبتدأ الحكاية”
تصوير: مالك الجابري –
لا ينفصلُ الإنسان العُماني القديم عن مخيلته الخصبة وكأنّها زاده الأثير في الجغرافيا القاسية، حتى لتظنه خارجا من قصص “ألف ليلة وليلة”، فلا تخلو حياته المُعْدمة من فنتازيا، كما أنّ ظروف حياته من جوع وتناسل أمراض وتوسل أبدي للطبيعة الخشنة يلتحم بكل هذا لجعله مسوغا وعاديا.
فقبل أن يبدأ النوخذة رحلاته الطويلة مُتنقلا بين سواحل أفريقيا والبصرة، كان يمكنه أن ينظر في الخاتم السحري ليعرف القصص الناقصة والتي يصبو الناس لمعرفة نهاياتها، كما أنّ بحوزته قصصا شائقة ومؤلمة في آن عن قُطاع الطرق الذين عاشوا في زمن جدّه، حيث يُقدر أنّ الأحداث تعود لعام 1900م على وجه التقريب لا التحديد، في وقت كان الفقر والجوع يُكشران عن أنيابهما الشرسة، ويذهب النوخذة برفقتنا أبعد قليلا من ذلك ليُحدثنا عن أجواء الحرب العالمية الثانية التي ألقتْ بظلالها البشعة على العالم والخليج في عام 1941.
وسواءٌ أتحصن العُماني بجباله الراسية أو وديانه المقفرة، أكان في واحات خضراء، أو كان مُطلا على سواحل البحر مُنتظرا بدء الرحلة، لا يمكن إلا أن يترعرع بصحبة الحكايات التي تُشكل وعيه وحياته.
بلا جوازات سفر ولا تذاكر
في حديقة بيته المُطل على البحر -الذي يشبه حياته بكل تقلباتها- التقينا بالنوخذة سيف بن علي بن سيف الجابري في قريته المنومة. الجابري من مواليد نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، وهو رجلُ البحر وعاشق الأسفار، فقد جرّب أنواعا مختلفة من السفن منها الغنجة والبوم والسنبوق، وغامر في رحلاته إلى سواحل أفريقيا والبصرة والكويت مُنطلقا من مدينته صور، وحول ذلك قال لنا: “مهمتنا كانت التبادل التجاري بين عُمان وسواحل أفريقيا والبصرة، والعُملة آنذاك كانت القرش الفرنسي والروبية الهندية”. حصل ذلك في وقت لم تكن فيه جوازات سفر ولا تذاكر تُعرقل الرحلة، وأضاف قائلا: “كنا نكِد على عمارنا، وكل شخص منا يبحث عن رزقه، في وقت لم تكن فيه قوانين تُنظم الحياة، ويمكن للقوي أن يأكل الضعيف فينا”.
بين الكوس والرياح الشمالية
تبدأ رحلة النوخذة برفقة البحارة في سفينة البوم: “كنا نجلبُ حطب الجندل من سواحل أفريقيا”، ويردف قائلا: “كل شيء في السواحل رخيص، حبّة الأمبا الواحدة تُشبع أكثر من فرد لفرط ضخامتها، أتذكر حتى الآن مزارع القرنفل والليمون الشاسعة”. ثمّ يستدرك فكرته السابقة قائلا: “يُخزن حطب الجندل في عُمان لفترة من الزمن، ومن ثمّ تبدأ الرحلة الثانية لإيصاله إلى البصرة لبيعه هنالك، حيث يُستخدم خشب الجندل في أعمال البناء، بعد أن يقصه العمال الأفارقة بواسطة “التشالا” كما يُقال آنذاك.
وعند سؤالنا عن المُحرك الذي يبعثُ الحياة في الرحلة الطويلة قال: “في ذلك الوقت لم تكن تتوفرُ المُحركات التي نعرفها اليوم، كنا نعتمد على “الكوس” الذي يحملنا من سواحل أفريقيا إلى صور، ونعتمد على الرياح الشمالية التي تأخذنا من البصرة إلى صور مجددا”، وأخبرنا الجابري أنّهم يعودون محملين بالتمور الشهية من البصرة.
بحارة وحمّالون وطباخ
سألته عن عدد الركاب ومهامهم ومدّة الرحلة فقال لنا النوخذة: “تستغرق الرحلة من عُمان إلى البصرة مدّة شهر كامل في سفينة البوم التي يركبها قرابة خمسة عشر شخصا، يكون النوخذة دائما في صدر الخشبة، ويكون بحوزته بوصلة الخرائط الكبيرة التي يفردها ويتبصر بواسطتها على مسار الرحلة، كما أنّ عليه أن يمتلك مهارة قياس حركة الشمس ليعرف كم سرنا في البحر وكم تبقى لنا، وللنجوم بالنسبة للبحارة قصة أخرى كما نعرف”. ويتابع الجابري قائلا: “أمّا المُقدم فهو الذي يُوجه الأوامر للبحارة ليقوموا بأعمالهم، والبحارة يمتثلون للأوامر ويغيرون الأشرعة بحسب الرياح. “ولم تكن هنالك محركات مثل الآن، ثمّة ثلاثة أشرعة، يُرفع الشراع الصغير عند توفر الرياح، ويُرفع الشراع المتوسط عند الرياح الخفيفة، أمّا الشراع الكبير فعند انعدام الرياح”. وهنالك “الحمالية” أيضا الذين يحملون مؤن تجارتنا، ومن الضروري أن يكون برفقتنا طباخ يطهو لنا الطعام، ويكون برفقتنا في السفينة سمبوق صغير يُساعدنا على الاقتراب من الشواطئ و”أنير” ويقصد بها المرساة”.
بيع الأسطوانات الموسيقية
درس الجابري على أيدي العُمانيين في الكتاتيب، فتعلم القرآن والحروف: “كنا نجلس لسنوات طويلة لنتعلم الحروف وليس كتعليم اليوم”، عمل الجابري في مهن مختلفة محاولا تجويد حياته، فقد سافر كغيره إلى الكويت لأجل ذلك، ومن الأعمال اللافتة التي عمل بها، عمل برفقة الفنان فضالة عبدالله فضالة، وكان رجلا أعمى، وبحوزته محل لبيع الأسطوانات الموسيقية وكذلك الساعات ولكن الأمر لم يستمر لفترة طويلة، “لم أكن أفهم البيع بالروبية ولا أحب الحياة الروتينية وكذلك لا أحبذ المكوث في محل وأنا الذي كنتُ أجوب البحار”، ثمّ أردف قائلا: “الراتب كان ضئيلا جدا من جهة أخرى، 60 روبية بالشهر فقط، ولذا سرعان ما تركتُ تلك المهنة وعدتُ للبحر مجددا”.
خاتم سحري وقصص مخبأة
وكما ذكرنا في المقدمة، فإن المخيلة الشعبية تتسلل لتفاصيل الحياة العُمانية، حتى ليصدقوا أنّها حصلت حقا، ولنا أن ننظر لهذا اليقين بعين من تأسره الحكاية أكثر من عين المتحقق من صدقها أو عدمه. يُحدثنا الجابري عن رجل يدعى إبراهيم الحبشي في ذلك الزمن البعيد عندما كان طفلا يدرس في الكتاتيب، وكان الحبشي صاحب علم ولديه خاتم سحري يعرفُ عبره أسرار الدنيا وعجائبها. استطرد الجابري قائلا: “اشترى إخوتي سفينة من الكويت، وفي رحلة عودتهم إلى صور حصل معهم أمر ما فلم يصلوا، وكنتُ أصغر إخوتي -ولستُ شقيقهم- صغيرا أتعلم، فأحضر لي الحبشي الخاتم وطلب مني أن أصف له ما أراه فيه، فشاهدتُ العجائب في الخاتم.. شيخا ودخانا وكرسيا، شاهدتُ سفينة إخوتي في “خور جراما” مُحتجزة لا تستطيع المرور وهو خور مقطوع آنذاك. وتمكن بعون الله إخوتي من النجاة، فقد فكّر أحدهم بنقل جوالات التمر الموجودة في آخر السفينة إلى أولها ليُعيد للسفينة توازنها وقدرتها على المضي إلى الأمام، وبالفعل تمكنوا من ذلك”.
لطالما شاهد الجابري في طفولته الأولى رسوما تتحرك في الخاتم فيُحدث الناس عنها، فيعرفوا أسرارا مُخبأة عن ماشية سُرقت على سبيل المثال أو عن أحداث غامضة وقعت. ويتابع الجابري: “ومن غرائب هذا الخاتم أنّه جاء إلى البلاد خبر أن سفينة فلان تحطمتْ في المحيط الهندي، لكن الخاتم حدّثنا أنّ ذلك لم يحصل وأن السفينة سافرت لمكان آخر، وظل الناس في حيرة من أمرهم بشأن القصتين المتناقضتين، وبعد فترة وصلتْ برقية تُبلغ حقا أن السفينة وناسها بخير وأنّ مسار رحلتهم تغير وحسب”.
ثلاثة أسواط وجَمل!
كان الجابري وعائلته يقضون الصيف في النخل والمزارع في قرية المنومة، والشتاء يقضونه في التجارة على السفن. ثمّ ذهب الحديث بنا إلى دغل آخر من ذاكرته الرصينة، فحدثنا عمّا حدثه به جدّه وأبوه من بعده، فهم ليسوا من ولاية صور، ولكن الأقدار أخذتهم إلى هنالك، “وقعتْ الأحداث تقريبا في عام 1900 ـ فنحن لسنا من صور، ولكن الناس هنالك لجأوا لجدي فكان قطّاع الطريق ينهبون خيرهم وأطفالهم ونساءهم، فقد تذهب المرأة آنذاك لتجلب الماء من البئر، فتختطف وتُباع في مكان بعيد، فالحياة وقتذاك كانت مسكونة بالرعب”، وأردف الجابري قائلا: “كان جدي شيخا وتحت إمرته آنذاك ما يربو على 500 رجل، نشر رجاله في الجبال، بعد أن وقّع المشايخ الآخرون على العهد الذي ينصُّ على أنّه لو قتل أي رجل من رجال القبائل ينبغي أن تحفظ الدماء، فالجميع يد واحدة ضد عدو واحد هم قطاع الطرق، وذلك لكي لا ينشغلوا بخلافاتهم الثانوية عن القضية الأهم”.
وأردف قائلا: “بدأ جدي ومن معه بمصادرة جِمال قطاع الطرق، حيثُ إنّ الحكم نصّ على أن يُضرب الذي يتم القبض عليه ثلاثة أسواط من ثمّ يُخلى سبيله ولكنه لو أعاد غارته مرّة ثانية يُقتل. وقد تزوج جدي من أهل صور آنذاك وأنجب منها”.
الرصاصة وحبّات النوى:
يحدثنا الجابري عن الجوع الذي عبر حياتهم، فيبدو وكأننا نلج لفيلم سينمائي: “يمكن لأحدهم أن يبيع زوجته وأطفاله لقاء حفنة طعام”. هكذا قال، وأردف: “ولا أزال أتذكر امرأة اسمها غنية كانت تحرص لنا مدخل خيمتنا ونحن أطفال صغار كي لا يخطفنا قطاع الطرق”، وعندما تتعب غنية كانت تنام في نفس المكان وكأنّها ستصد عنهم العدو في صحوها ونومها.
ويتابع الجابري كمن يستعيد ذكرى أليمة: “كانت لقطاع الطرق حيلهم، حيث كانوا يجعلون النوق تحيط بالنار التي يشعلونها للتدفئة فلا يعلم القادم بوجودهم حتى يهجموا عليه”. ومن القصص الأليمة التي سمعها في طفولة بعيدة، يحكي لنا حادثة مُرعبة حصلت بين رجل من قطاع الطريق ورجل آخر كان يُمصمص نواة تمرة من شدة الجوع، وكان بعض النوى قد التصق بثيابه، فقال قاطع الطريق في نفسه: “علّه رجل غني”، فأطلق عليه رصاصة وقتله، ثم قام وفتشه، فلم يجد بحوزته شيئا يذكر، فتحسر على رصاصته التي ذهبت هباء منثورا”.
المؤن بقياس “ملّة”
قرأتُ ذات مرّة في أحد المقالات: “وضعت الحرب العالميّة الثانية ثقلها على منطقة الخليج العربي، ما أدّى إلى حدوث نقص كبير في مخزون الحبوب في المنطقة وبالذّات في الأرز والقمح، ما تسبّب في حدوث أزمة غذاء في المنطقة عانى منها الأهالي والمقيمون على أرضها”.
وكان الجابري يتذكر هذه الفترة ويقول الحرب دون أن يشير بوضوح للحرب العالمية الثانية حيث يقول: “في أوقات الحرب، كنا نُمنعُ عن خدمة البحر، لقد عايشتُ تلك الأحداث مُنعنا من دخول البحر، كانت المؤن آنذاك تُوزع علينا بقياس “ملّة”.
بين الشقاء والبقاء
“حياة شيابنا كانت حياة خوف” هكذا يسرد لنا الجابري بتأثر شديد، ثمّ حكى لنا عن رجل لم يخلع محزم رصاصه من خصره مدة ستة أشهر خوفا من غدر أو قتل، حتى أنّ محزم الرصاص ذاك قد قصقص جوانب دشداشته المهترئة.
ويعبر لنا عن القلق الذي يعتمل بالنفوس والخوف الذي يأكل الاطمئنان قائلا: “كان أبي يحفر التراب أسفل شجرة الهرم، ثمّ يدفن نفسه ويتغطى بالتراب خشية قتله من قطاع الطرق، وذات مرّة كان نائما فوق المنامة وسمعتْ أمّي حركة مُريبة فغطته بالسمّة، فبدا كأنّه ليس هناك، ويحصل أيضا أن تُغلق أمّي باب البيت من الخارج لكي توهم المترصدين بغيابهم عن البيت”.
وكأن الجابري ما كان سيكون بيننا لولا هذه الحيل اللانهائية من أجل البقاء في أكثر لحظات الحياة شقاء.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/النوخذة-سيف-الجابري-شقاء-الرحلة-بين-الجوع-وقطاع-الطرق