يحتفي العالم في مثل هذا اليوم 14 من فبراير من كل عام بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة، هذا الشكل السردي الحكائي الذي برز في منتصف القرن التاسع عشر وبات أحد أهم الأشكال الأدبية البارزة التي لاقت رواجا واستمر طويلا.. وما إن وفدت «الرواية» كشكل سردي حتى تملّك الكاتب رغبة تجريبه جنبا إلى جنب الكتابة في القصة القصيرة.. ومع الألفية الجديدة برزت «الرواية» لما حظيت به من اهتمام كبير مادي ومعنوي وهجر هذا «الاهتمام» القصة القصيرة بشكل كبير دعا بعض كتاب القصة القصيرة لفكرة التحول إلى كتابة الرواية.. في حين ظل آخرون بوفائهم للقصة القصيرة يصارعون ذلك الوسط لإثبات استقلاليته كـ «فن منفصل» وإيجاد وسيلة تحتفي بذلك المنجز بشكله الطبيعي والعميق ورغم قِصر الأداء الكتابي في القصة القصيرة كمًا إلا أنه يختزل أفكارا عميقة في قالب نوعي للوصول إلى المتلقي كما يريد الكاتب؛ لذا فهو فن صعب ولا يمكن مقارنته بالفنون الأخرى التي تمنح مساحات تحرك كبرى في شكلها ومضمونها وثناياها.. ولا يعد هذا التحوّل بأي حال من الأحوال تطورا، كما يراه بعضهم؛ بل هو انسلاخ من العمق كما يراه آخرون، فلماذا انصرف كتاب القصة القصيرة إلى الرواية حتى غزت المشهد الثقافي ولم يتبق ـ للقصة القصيرة ـ إلا القلة من الكتّاب.. القلة من القراء.. القلة من النقاد والكثير من عدم الاهتمام؟
يؤكد القاص حمود سعود أن هجرة القصة القصيرة إلى الرواية بات واقعا له أسباب كثيرة ويقول : في البدء أود أن أشير إلى أن هناك فهما خاطئا في أن القصة القصيرة هي مرحلة أولى لكتابة الرواية وهذا الأمر غير صحيح بالمطلق فلكلٍ عوالمه المختلفة وأدواته وأساليبه وثيماته، وربما أن القصة القصيرة أكثر صعوبة في الكتابة والتكثيف والعمق منها عن الرواية، ولكن ما دعا بعضهم نحو الهجرة التي نتحدث عنها هي دور النشر التي كان لها الدور الكبير للترويج للرواية وعدم التفاتهم للمجاميع القصصية، إضافة إلى اتجاه ذائقة القراء العربية والعالمية نحو الرواية سواء العربية أو المترجمة، إضافة إلى أن المسابقات الأدبية على مستوى الوطن العربي تحتفي بالرواية في مسارات متعددة وبكثرة، في حين أن هناك مسابقات نادرة للمجموعات القصصية؛ لذلك فإن هناك تحولا وهذا أمر واقع لكتاب السرد للقصة القصيرة إلى الرواية، وهذا التهافت في أحيان كثيرة هو تهافت متسرع، وغير طبيعي واستسهال لكتابة الرواية وهناك كتّاب شباب إصدارهم الأول «رواية»، اعتقد أن الأمر يحتاج إلى تريث وحلقات عمل ونقد وأن تسهم الصحافة الثقافية في تطوير وصقل التجارب الثقافية السردية خاصة في عمان، إضافة إلى كل ذلك فإن هناك بعض الكتاب وأذكر منهم على المستوى العربي الكاتب العراقي محمد خضير الذي ظل وفيا للقصة القصيرة لأكثر من نصف قرن، وعلى المستوى المحلي القاص يحيى سلام الذي ظل وفيا لها .. إذن هناك أفياء للقصة القصيرة.
ويضيف حمود سعود : نكاد نجزم أن النقد الأدبي في عمان يكاد يكون معدوما في القصة القصيرة وهذه أسباب دفعت إلى عدم حضوره .. وفي المقابل نستطيع القول إن القصة القصيرة في سلطنة عمان بها نشاط مكثف، وهناك أسماء وتجارب تتطور وتشتغل على مستوى الثيمات وعلى مستوى الأساليب وهناك أسماء جيدة وتكاد تنافس على المستوى العربي والعالمي وتحتاج للمزيد من التسويق والقراءة والنقد للوصول إلى الخارج.
القصة ليست تمرينا
من جانبه يعرّف الكاتب والقاص هلال البادي القصة القصيرة أنها ليست رواية قصيرة، وليست قصة قصيرة جدا، وليست شذرات وليست قصيدة نثر ويقول : إنها قصة قصيرة من حيث المصطلح، قد تكتب في صفحة أو اثنتين، وقد تكتب في عشر صفحات أو عشرين صفحة، لكن قواعدها الأساس تنطلق من مفهوم القصة القصيرة، أما النص الروائي، أو الرواية، سواء أكانت «نوفيلا» كما يطلق عليها بعضهم، كونها تقع في صفحات قد لا تتجاوز المائة؛ أو كانت تقع في أجزاء أو صفحات تتجاوز الألف فإنها فن آخر، و«نوع» أدبي يختلف في عمقه عن القصة القصيرة، وإن شاركت الرواية القصة القصيرة في الأساس المتمثل في كونهما ينبعان من جنس السرد أو من الحكاية، إلا أنهما شكلان يختلفان في طريقة البناء، ولا يمكن أن تكون كتابة القصة القصيرة «تمرينا» لكتابة رواية، لأنهما مختلفان، مثلما هو الحال في كتابة نص مسرحي، الذي ينطلق من الحكاية أيضا، ولا يتشابه مع الحواريات الدرامية الأخرى كالسينما والتلفزيون، إذ لكتابة النص المسرحي قواعده الأدبية وأساسياته التي تجعله نصا مسرحيا، يمكن له مثله مثل الرواية والقصة القصيرة أن يغذي الحواريات والأعمال الدرامية المرئية والمسموعة.
لذا دعنا نتفق أن كتابة القصة القصيرة لا يمكن أن تكون كتابة رواية، ولا تمهيدا لكتابة رواية، بل إن من يكتبون الرواية قد لا يستطيعون كتابة النص الروائي مهما حاولوا، والعكس صحيح. لا يمكن بأي حال من الأحوال القول إن كتابة القصة القصيرة مثل السباحة لمسافات قصيرات، فهذا أمر وذلك أمر آخر.
هذا على مستوى المفهوم الذي لا بد من إيضاحه، أما لماذا نجد كتّابا كتبوا قصة قصيرة توجهوا لكتابة الرواية، فالأمر ذاته ينطبق على الشعراء الذين تخلوا فجأة عن الشعر ووجدوا أنفسهم في القصة القصيرة، تغنيهم عن القصيدة.
ويضيف «البادي» : في نظري أن هذه المسألة معقدة، فالذي تحول من الشعر إلى القصة القصيرة، لم يتحول عن فشل في كتابة النص الشعري، بل لأسباب تبدو لي وجودية وتلائم الوقت ذاته، حيث وجد أن كتابة نص قصصي أكثر ملاءمة وقدرة على التعبير عما يريد قوله أدبيا. ثم إن إغراء كتابة القصة القصيرة في ذلك الوقت المبكر كان كبيرا، لأناس أرادوا الخروج من بوتقة المعتاد كالشعر، إغراء وجد كتاب كثر أنفسهم منساقين إليه، وهو الأمر ذاته اليوم الذي يجعل كتاب قصة قصيرة وشعراء ينساقون لكتابة الرواية، فالرواية، وهي النوع الإبداعي الذي لم تستقر معاييره الإبداعية بعد، مغر لكثيرين، ممن لا يجدون أن القصيدة أو القصة القصيرة أو غيرهما، يمكن لها أن تخرج مكنونهم الإبداعي، وتقدم ما يريدون قوله.
أيضا، فرضت بعض الأحوال الثقافية والتجارية، سواء ذات العمق أو تلك السطحية منها، فرضت سلوكا عاما تجاه الرواية تحديدا: أنت لا تكتب رواية، فأنت غير موجود! لا يهم ما تملك من حضور إبداعي في الأنواع الإبداعية الأخرى أو الأجناس، ما دمت لم تكتب رواية، فالرواية هي ما يقدمك عند بعضهم، وهي التي تمنحك تصريحا بأن تكون كاتبا. لتنظر اليوم إلى عدد الجوائز الأدبية المخصصة للرواية فقط، ستدرك مقدار الأسى الذي يحيق بكتاب اختاروا الركض وراء فن صعب كالقصة القصيرة، كما أن ما تفعله دور النشر من تفضيل قائم على الاستهلاك، له دور كبير فيما نراه اليوم من ترويج للرواية على أساس أنها ديوان العرب اليوم.
ومثلما فعلت قصيدة النثر يوما في أنها فتحت الأبواب لغير الموهوبين وأنصاف المبدعين، كذلك فعلت الرواية حيث نجد أعمالا روائية هائلة يمكن أن تشكل أطنانا من الكتب على مستوى الوطن العربي، ولكنها تخلو من الإبداع، إلا أنها جواز مرور لهؤلاء.
يضاف إلى كل هذا عدم وجود متابعة نقدية، لا أكاديمية ولا صحفية، بل إن الصحافة المكتوبة الورقية تشهد تراجعها الخاص، وهو أمر ينعكس بشكل أو بآخر على الإبداع ذاته. وقس على ذلك ما فرضته أنماط الحداثة العولمية من تسطيح هائل في وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن مع ذلك فإن كتابة القصة القصيرة وقراءتها ما يزال موجودا وحاضرا، مثلما هو الحال مع القصيدة الشعرية، التي وإن لم نعد نشعر أنها حاضرة، تظل موجودة وفاعلة، وإن كان لدى قلة قليلة من القراء.
تطور أم نكوص ؟
ويشير القاص سعيد الحاتمي إلى أن رغبة التحول في عمومها متعلقة بالرغبة الأصيلة في النفس البشرية التي دائما ما تنحو إلى التطور والتجديد، فشعور الكاتب المستمر بضرورة تغيير القالب والانعتاق من ربقة الاختزال والتكثيف الموجودة في القصة هي ما يدفعه في الغالب إلى التحول إلى مربع الرواية، إضافة إلى شعبية التلقي الذي تحظى بها الرواية علاوة على ذلك الوهج وتسليط الأضواء على مسابقات الرواية التي لا يوجد ما يوازيها في القصة، وكل هذه الأسباب في الغالب دفعت الكثير من كتاب القصة إلى الهجرة إلى تجريب الرواية وهجرة أصل السرد وهو القصة.
وحول اعتبار هذا التحول من القصة أو الرواية تطورا أم نكوصا في تجربة الكاتب الإبداعية فيقول «الحاتمي» : أعتقد أن الموضوع يحتمل الكثير من الإشكال والجدل ولا يمكن بأي حال القطع هنا بأي حال بوجهة نظر واحدة، ولكنني اعتقد أنه تحول طبيعي يعتمد على مدى لياقة الكاتب السردية وقدرته على توسيع مخياله الإبداعي؛ لذا فتحويل الفكرة التي كانت يمكن أن تكون قصة إلى عمل أوسع وهو الرواية وربما ما هو أبعد كأن تصبح سلسلة روايات.. لكن مع ذلك يجمع جمهور المشتغلين بالسرد سواء كتابا وناقدين أن كتابة القصة تستلزم جهدا أكبر يفوق كتابة الرواية.
حضور كبير للرواية
ومن وجهة نظره يرى القاص ماهر الزدجالي أن القصة القصيرة هي فن أدبي وسرد حكائي أقصر من الرواية، ويختزل أفكار الكاتب أو القاص بشكل متقن وتحمل رسالة معينة، وربما في فترة من الفترات كانت القصة القصيرة حاضرة بقوة في المشهد الأدبي العربي بشكل عام والمشهد الأدبي العماني بالتحديد، وكان يوجد عشرات الكتاب والقاصين في هذا المجال، وفي الوقت نفسه كانت لدينا العديد من المسابقات الخاصة بالقصة القصيرة.
يقول «الزدجالي» : أرى أن هناك عدة أسباب وراء اتجاه الكثير من الكتاب نحو الرواية منها أسباب مادية وأسباب فنية وأدبية، ومن الأسباب الفنية هي المساحة التي يريد الكاتب من خلالها توصيل أفكاره معززة بالأمثلة والسرد والأحداث، إلى جانب الدخول إلى أعماق الأحداث وتفسيرها وما إلى ذلك، وربما تتيح الرواية أمام الكاتب مساحة أكبر لمشاعره وفلسفته في الحياة والقضايا التي يتناولها، وهناك سبب قد يكون متعلقا بالقراء فتجد الجمهور سواء في الوسط المحلي أو العربي لديه شغف أكبر وميل نحو الرواية، ولذلك نجد كثير من الكتاب يبحث عن ما يريده هؤلاء القراء.
أما عند الحديث عن الأسباب المادية فهي ربما كثرة الجوائز الخاصة بمجال الروايات بالمقارنة بالجوائز المخصصة للقصة القصيرة، أضف إلى ذلك الشهرة التي يجنيها الكاتب من ورائها وأبرز مثال على ذلك جوائز (البوكر) وجائزة كتارا للرواية العربية، وجائزة نجيب محفوظ وغيرها، وهناك جانب آخر مهم أيضا وهو إمكانية تحويل الرواية إلى مسلسلات وأفلام، ومؤخرا شاهدنا عددا لا بأس به من هذه الروايات تم تحويلها وإنتاجها على هيئة مسلسلات أو أفلام طويلة؛ لذلك هذا عامل مساعد جدا لزيادة حضور الرواية واتجاه الكتاب إليها.
أهمية استمرار الإبداع
يقول القاص حسام المسكري : ينظر الكثيرون إلى أن الرواية هي التطور الطبيعي لكاتب القصة وهذا ما يدفع الكثيرين لكتابة الرواية بهدف إثبات انفسهم. وأيضًا الزخم الإعلامي المصاحب للروايات يغري الكتاب بالاتجاه إلى كتابة الرواية، ولا يمكن الحكم على هذا الأمر بأنه جيد أو سيئ فلكل كاتب طريقه الخاص الذي يسير فيه ولكن الأهم استمرار الكاتب في الإبداع والكتابة، ولدينا في عمان الكثير من النماذج التي انتقلت من القصة إلى الرواية وكانت النتيجة روايات جميلة جدًا وإثراء للساحة الثقافية ومن أبرزها في الفترة الحالية الكاتبة بشرى خلفان.
رغبة نحو الاكتشاف
أما الشاعر والقاص أحمد الفارسي فيقول كما يقول «النفري» (كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤى) فكما في القصة القصيرة جدا وفي شعر الهايكو، ولكن تظل القصة القصيرة مميزة جدا عندما نتحدث عن السرد القصصي، ولأنها تحاول التعمق بموضوع واحد في أغلب الأحيان ولكن بعدد كلمات أكبر من القصة القصيرة جدا وأقل من النوفيلا.
ويضيف «الفارسي» يكمن التحدي في القصة القصيرة في أن يقوم الكاتب بكتابة قصة كاملة الأركان ولكنها ليست مقتضبة إلى حد الإبهام، كما أنها لا يجب أن تتطرق إلى تفاصيل أخرى خارج العقدة الرئيسية للقصة لكي لا تفقد إيقاعها الخاص، ومن هنا يكمن التشذيب ويكمن التحدي مع ذات الكاتب أثناء الكتابة، وقد تتميز القصة القصيرة بأنها تحمل وهجا وإيقاعا متصاعدا منذ بدايتها حتى النهاية، فالتركيز على عقدة واحدة يجعل الكاتب محاطا بنار الفكرة الواحدة التي تشعل روح القارئ.
وحول تحول القاص إلى الرواية يقول القاص أحمد الفارسي : نلاحظ توجه عدد كبير من الكتاب الذين عرفوا بكتابة القصة القصيرة الى كتابة الرواية وذلك في اعتقادي يحدث لأن الكاتب يرغب باكتشاف نفسه في هذا النمط الخصب الواسع، الذي قد يفتح له نوافذ لا نهائية من الأحداث والأفكار، ولكن إن أردنا الإنصاف فإن كتاب الرواية في الغالب قد اكتسبوا القدرة على التشذيب والتركيز في الفكرة من خلال التعمق والتفرغ لسنوات في كتابة القصة القصيرة ، على المستوى الشخصي أحب أن أقرأ جميع أنماط الكتابة بلا تحيز لأي نمط ، ولكن القصة القصيرة من أقرب الأنماط التي أتوق لقراءتها بين الحين والآخر عندما أحتاج لأن أقرأ سردا قريبا نوعا ما من روح القصيدة المحكمة.
رغبة التجريب
وفي الختام تقول القاصة لينا بنت عبدالله البلوشية : تكتسب القصة القصيرة صفة الاختزال، فنجدها تضيء جانبا واحدا من جوانب الحياة المختلفة وقد يكون سير الأحداث فيها طارئا أو مؤقتا للحظة اقتنصها الكاتب وأفاض عليها من أفكاره وإبداعه، وربما أراد تحقيق هدف و مغزى محدد من خلالها، أما الرواية وإن كانت تعتمد على قصة معينة في جزء منها؛ لكن تتعدد فيها الشخصيات ويزيد بها سرد الأحداث وربما بشكل مطول مع ما يحدث من صراعات فيها؛ لهذا يتجه إبداع بعض الكُتاب بين القصة من جانب والرواية من جانب أخر؛ حيث لكل فن منهما رؤيا مختلفة.
وبرأيي فإن الانتقال كاتب القصة إلى الرواية هي مسألة ذاتية لاعتبارات في نفس الكاتب، ربما يكون منها رغبته في التجديد أو التجريب والتوسع في شخصيات وأحداث قصته بشكل أرحب، ويبقى السؤال هل ينجح الكاتب في الإجادة والإبداع في الرواية كما في القصة القصيرة؟ لهذا من الجيد الاحتفاء بالقصة وكاتبها وإعادة البهجة لعالمها وقرائها.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الرواية-تفتح-أبواب-التسلل-لهجرة-القاص-من-التكثيف-وربقة-الاختزال