عمر الجمني: غياب الثقافة البصرية التاريخية للخطاط مشكلة.. وعلينا ترجمة الحرف بصريا بما يناسب معناه
سامي الغاوي: الفنون الإسلامية محتفى بها والتشكيلات الحروفية ليست عزلا للخط بل مولودة انبثقت عنه
آرزو شالي: الزخارف والخط حظيا باهتمام بالغ ولا أستطيع القول إنه مهمل في إيران على الأقل
وسام الصائغ: التصرف في إظهار الحرف بمعزل عن المعنى يقوي من قيمته ويجذب غير العربي
جلال المحارب: علينا التعامل مع الحرف العربي كجوهر بعمق رسالته ومفاهيمه ومضمونه الكبير
تعد تجربة الفنون الإسلامية في أصلها قديمة ولكن تم تجاهلها لسبب أو لآخر لسنوات طويلة.. قد لا يعود التجاهل متعمدا بقدر ما هو اهتمام حداثوي تلبّس الفنان للخروج من عباءة التقليدية -كما يراها- والبحث عن مفاهيم وتجارب سادت فترة ما وبزغت حينها قبل أن تعود تلك الفنون إلى الواجهة مرة أخرى عبر الأفراد -وهم قلّة- أو عبر مشروعات كبرى -وهي قليلة- أيضا مثل مهرجان الفنون الإسلامية كمشروع يستهدف التحليق في فضاءات واسعة من التنوّع واستعادة جوانب منسيّة في هذا الفنّ الأصيل الذي يعود إلى مئات السنين، كالخط، والمعمار، والزخرفة والفن المجوهر، والمشغولات اليدوية المتمثّلة في الخزفيات والمنسوجات وغيرها من التجهيزات.. فإلى أي مدى تكمن مسؤولية الفنان تجاه هذه الفنون المغيّبة نحو استعادتها؟ وإلى أي مدى أصبح التعامل مع «الحرف العربي» كشكل عزل من خلال بعض التشكيلات الحروفية (المتلقي) عن المعنى العظيم (للحرف وعمقه)؟ وكيف أثّر هذا الأمر على رسالة الخط كحرف مكوِّن للغة العربية ولتجلياتها المختلفة؟
وحول تغييب الفنون الإسلامية يقول بداية الخطاط التونسي عمر الجمني: غياب الثقافة البصرية التاريخية للخطاط هي المشكلة الرئيسة، فعندما يجهل الخطاط جماليا وبصريا الأعمال التاريخية على اختلاف محاملها انطلاقا من النقوش على الأحجار أو الكتابة على القماش أو الكتابة في عمومها فهو مدعاة إلى التساؤل ومحاولة استعادة نظرة الخطاط المعاصرة بناءً على ما سبق في التاريخ وانطلاقا من تنوع هذه المحامل أولا.. ثانيا لا بد أن ننظر إلى ما خلّفه التاريخ ما قبل الإسلام، فالأحرف العربية التي كانت موجودة قبل وما بعد فجر الإسلام انطلاقا من رسائل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأمم المجاورة ثم الكتابات التي وُجِدت على أحجار الجبال بين مكة والمدينة، وهناك الخطوط المتنوعة والجميلة التي لا بد أن تكون للخطاط عين خاصة ينظر بها إلى تلك الجماليات وكيف يمكنه أن يستخرجها من رفوف التاريخ، إذن هنا على الخطاط أن يراجع التاريخ ولا بد أن يطّلع على تاريخ حركة الحرف العربي في المناطق التي تفاعل فيها لا سيما منطقة الشرق الأوسط من شماله إلى جنوبه.
وأضاف الجمني: لو أننا نظرنا إلى الخطاط ابن البواب وإلى أعماله في الثلث فهي أعمال سبقت عصره وأنه سبق حتى عصرنا الحالي، فعندما نقرأ قراءة بصرية تتعلّق بالنصوص التي كتبها وترابط الحروف بشكل جميل ومبدع جدا نلاحظ ذلك جليا، فهو مدرسة يبدو وكأنها توقفت تماما! ولم نرَ أساليب جديدة تعتمد على جماليات ابن البواب في تلك الفترة.. وهو كتب أشياءً جميلة رائعة جدا لا بد أن ننظر إليها بمنظور خاص ومعاصر ونرى كيف نحافظ عليها كأداة كمصدر للإبداع ونكون قد قدّمنا صورة معاصرة تتماشى مع عصرنا الحاضر في الشكل واللون والخامة وفي المواد والمحامل كلها، فالخط العربي هو فن ليس له حدود ومجاله بحر واسع لا نهاية له.
وعن مسألة «تجريد الخط عن مضمونه والتعامل معه على أساس الشكل» يقول الخطاط عمر الجمني: هنا المسألة عميقة جدا ويجب أن نعتبر أن الحرف العربي بشكل خاص له امتيازات لا توجد في بقية الحروف التي خلّفها التاريخ، فالحرف العربي نستطيع أن نقولبه ونتعامل معه وهو مطيع وفق مداركنا الفنية، والحرف العربي مرتبط بكلمات متصلة بالعقيدة الإسلامية وبالتالي فإن الخطاط يتعامل معه بكل ما أوتي من صدق وأعني هنا الصدق في الفن والصدق في التعبير عن المعنى لهذه الآية الكريمة ولهذا الحديث الشريف، فالخط العربي فن جميل صمد على مدى 1400 سنة وما زال إلى الأمام.
ويضيف الجمني: الحرف العربي يمكننا قبل أن نجسّده بفكر معاصر وأن نتعامل معه من ناحية العقيدة ومن جهة القرآن الكريم وقراءة الآيات ونستخرج الصورة الصحيحة التي يعكسها الحرف العربي، فلا بد للخطاط أن يُحسن ترجمة الآية من المقروءة إلى الجمال البصري الذي يعكس محتوى الآية بالضبط، وهذا الجانب رغم تطرق بعض الأخوة له لكنهم لم يغوصوا فيها، وكل واحد له عذره.. ناهيك أيضا عن الأساليب المختلفة التي يمكننا التعبير عنها لا سيما الجانب الشعري الذي يتيح للخطاط ترجمة الصورة الشعرية بصريا بواسطة أداة الحرف.
وفيما يتعلق بالحروفيات يقول الجمني: الحروفية نوعًا ما هي من الجمال وربما تكون نتيجة ضعف بعض الخطاطين في عدم جودة كتابة الخط العربي الموزون وبالتالي تولد عنه نوع ما من هذا الفن الذي يُسمى بالحروفيات، وقد يتعامل معها العديد من الفنانين الذين لم يكن عندهم أي اتصال بجمالية الحرف العربي وقواعده لا من قريب ولا من بعيد، وهذه النوعية من الفنانين تدخل في خانة الرسامين الذين يرسمون الحرف ويضعونه في فضاء تشكيلي معاصر ويصبح الحرف هو الأداة الرئيسة لهذا العمل بينما هذا العمل هو ذاته فن جديد لا يوجد حتى في الغرب، وهم أخيرا وظّفوا فن الحروفية بالأدوات والحروف اللاتينية وكل مساهمتها أو أغلبها ضعيفة لم تكوّن وقعا ولم يكن لديها تأثير مثلما كان للحرف العربي وقوته، فالحرف العربي نستطيع أن نوظّفه في الحروفية ويؤدي دوره بأحسن ما يكون.. وهناك بون واسع عند المقارنة بين الحرف العربي والحرف اللاتيني من ناحية القيمة والتوظيف، فالحرف العربي وتوظيفه في اللوحة التشكيلية كعنصر ثالث هو عملية ناجحة وفق مبدعين يبدو لي لا يتعدى عددهم أصابع اليد ولكن كثيرا من الفنانين والخطاطين والرسامين الآخرين قاموا بأعمال حروفية متوسطة والنتاجات أظهرت لنا من هو القوي في المجال الحروفي ومن هو الضعيف في هذا المجال، وهناك من أبدع ووظّف حروف جلي الثلث وأبدع فيها في مجال الحروفية بشكل خيالي كيوسف الماجد ووسام شوكت، وعديد من المبدعين أحسنوا توظيف الجانب الكلاسيكي في شكل معاصر وهي معادلة صعبة جدا ولكنها ممكنة، وفي هذا المجال بحث عظيم جدا، بحث مؤكد المجال يحتمل الكثير من الأفكار ولكنه يتطلب من الخطاط -كما أسلفنا- الثقافة والإلمام بالتاريخ والحركة الفنية العالمية.
وعن تأثير عمق الحرق ورسالته يقول الخطاط التونسي عمر الجمني: الحرف العربي وُجِد في قدسية الكلام كالمصحف الشريف، ونحن نرى كيف أن الخطاط المسلم أخرج المصحف الشريف بإبداعات خيالية سواء في الأحجام الكبيرة إلى الأكبر منها إلى أصغرها، ثم إن هناك مصاحف إضافة إلى جودة الخط فيها فإن بعض الخطاطين ومنهم التونسي الحاج زهير مملوك الذي توصل إلى كتابة المتشابهات في القرآن من خلال المتشابهات على الصفحة في اليمين وهي المتشابهات نفسها في الصفحة على اليسار، وعندما نغلق المصحف تتطابق الكلمات فوق بعضها، واستعملها باللون الأحمر للإشارة إلى ذلك.. فالحرف العربي له عمق كبير -لا شك- وتلك صور صادقة لما قام به الخطاط العربي المسلم في التاريخ.
هذه بنت ذاك
وإجابة عن سؤال استعادة الفنون الإسلامية المغيّبة، يقول الخطاط العماني سامي الغاوي: إننا كخطاطين في الاتجاه الأصيل مسؤوليتنا كبيرة نحو استعادة الفنون المغيّبة -إذا صح التعبير- هذا إذا افترضنا جدلا أنها مغيّبة فعلا كما ذُكِر في السؤال. فما أراه -أنا شخصيا- من حولي خاصة في السنوات العشرين الماضية أن هذه الفنون أصبحت تقام لها فعاليات كبيرة في بعض دول العالم العربي والإسلامي تُستقطب فيها نخبة من الفنانين الكبار، كل في مجاله، مما شكّل دعاية إعلامية إيجابية جعلت بقية الدول تحذو حذوها في إطار تنافس مشرّف. وتطوّرت الفعاليات بشكل مستمر بحيث أصبحنا نرى أن هذه الفنون خاصة الخط العربي والزخرفة، صار لها مريدون وطلاب من المبتدئين الساعين إلى احترافها. ومن هنا تقع المسؤولية على عاتق الخطاط أو المزخرف لنشرها في محيطه الذي يوجد فيه، حتى وإن لم يستقطب طلابا ومريدين لها، يكون -على الأقل- نشر الوعي الثقافي والإلمام لدى الجمهور بماهيتها وأهميتها لدى العالم الإسلامي كموروث ثقافي وحضاري اختص الله بها هذه الأمة كهوية.
وأضاف الغاوي: بالنسبة لي لا أميل إلى اعتبار أن التشكيلات الحروفية هي عزل للخط العربي عن الجمهور بعيدا عن المعنى العظيم (للحرف وعمقه)، وإنما أميل أكثر إلى القول بأن «هذه بنت ذاك»، أي أنها مولودة لفن الخط انبثقت عنه من قِبل مجموعة من الفنانين التشكيليين الذين أحبوا الحرف وعشقوه بكل تفاصيله ولكنهم لم يستطيعوا الوصول به إلى مستوى الإتقان التقليدي فجعلوه مفردة أساسية في لوحاتهم الفنية وأبحروا به في عالم الألوان والتشكيل. ولا يعني هذا أبدا أن الفنانين التشكيليين استفردوا بعالم الحروفيات لوحدهم، كلا، بل إن هناك من الخطاطين (الكلاسيكيين) من أبدعوا في التشكيلات الحروفية فارتقوا بها إلى مستويات عالية من الإبداع مزجت بين الأصالة والحداثة من حيث الحرف واللون والتشكيل.
اهتمام لم ينقطع
وأشارت الفنانة الإيرانية آرزو شالي (المختصة بالتذهيب على الورق اليدوي) إلى أنه في العصر الساساني ازدهرت مختلف الفنون الإيرانية ومنذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا يتواصل الاهتمام من استخدام الخطوط في العمارة إضافة إلى الزخارف في مختلف الجوانب لذلك أستطيع القول ان هذا الاهتمام متواصل، وفي تجربتي مثلا تعمدت استخدام الذهب وهو بدأ منذ بدء استعماله في العصر الساساني .. ورغم أن استخدام الزخرفة دارج في كل العالم الا انه في ايران درج بكثرة وتطور بشكل كبير .. وإضافة إلى استخدام الزخرفة في الإسلام في مختلف التشكيلات الا ان للأدبيات نصيبا من تلك الزخارف فقد استخدم في تزيين النصوص المكتوبة وغيرها وحظي برفقة الخط باهتمام بالغ لا أستطيع القول انه مهمل في إيران على الأقل.
تحول الفن الإنساني
ويرى الخطاط العراقي وسام الصائغ أن الفنون الإسلامية تعتبر نقطة بداية جديدة ونقطة تحول في الفن الإنساني فهي محور لثقافة جديدة، ثقافة أصيلة استمدت أولوياتها من ثقافات متعددة حسب المناطق الإسلامية، ذلك التحول مبني على أسس عقائدية سمحة، لذا نجد أن هذا التحول في أشكال متعددة كالفنون التشكيلية واللغوية وفنون الخطابة والإلقاء التي تعتبر ممهدة للفنون المسرحية، إضافة إلى الموسيقى والغناء.
ويقول الصائغ: نحن كفنانين بجميع الاختصاصات معنيون في ديمومة هذا المنهج وتطوير أشكاله ونشر ثقافاته بطرق تقليدية وبطرق حديثة ومبتكرة تتماشى مع تطورات العصر ومقتضياته، محافظين بالوقت نفسه على أولويات وأصول هذه الفنون، أي أننا نعمل بالجوهر نفسه لكن بأبعاد مغايرة نطرح بها موضوعاتنا ونعبّر بها عن أحاسيسنا ومعاناتنا وسعادتنا.
وحول التعامل مع الحرف كشكل، يقول الصائغ: الفنان أو الخطاط يسعى دائما إلى البحث عن العنصر الجمالي سواء في الحرف كشكل أو في مدلولاته اللغوية العظمى وما فيها من اختزالات تعبيرية شكلية ولغوية، ولولا تصرف الفنان وبحثه الدؤوب في جماليات الحرف وتطويره لما أصبح بأشكال متعددة وأنماط متغايرة واقتصر فقط على المدلول اللغوي للحرف، فالتصرف في الإظهار للحرف بمعزل عن المعنى وباشتراط توفر العنصر الجمالي، والموازنة والتكوين يقويان من قيمة الحرف ويفتح أبوابا متعددة للجمال وللجذب والذائقة لغير العربي.
ويشير الخطاط العراقي وسام الصائغ إلى أن استخدام الحرف كلغة وفن له مجاله المتعدد سواء كانت بصيغه الكلاسيكية الأصيلة والتي تتبع قياسات ونسبا ذهبية إسلامية وبأدوات وطرق إظهار مثلى، أو تلك التي تتخذ من الخط أساسا للعمل الفني بمدلول مرئي وبطرق تشكيلية مختلفة كالنحت والرسم والخزف تقوي به عمق المعنى في النص المكتوب بطرق التشكيل المختلفة وباللون وفلسفته والملمس وتعابيره المحسوسة وبالتكوين والكتلة والفراغ.
ضد الفكرة!
من جانبه يؤكد الخطاط السوري جلال المحارب أن للفنان المسلم دورا كبيرا في إبراز التفاصيل الجميلة التي أسست عبر العصور على قواعد أكاديمية ثابتة للفنون الإسلامية فهي قواعد جميلة جدا نبعت من صميم فهم الفنان لمعنى الحياة ومعنى الوجود. وقال: سعى دائما الفنان المسلم لإبراز هويته وطابعه الفريد في تكوين الفنون الإسلامية بما نص عليه الدين الإسلامي، لذلك تجد أن الفنون الإسلامية غزيرة بتفاصيلها الكثيرة ودورنا أن نحافظ على هذا الإرث الذي تركه لنا الآباء وأن نعمل دائما ما نستطيعه من تجديد لهذه الفنون الإسلامية والمحافظة على الإرث بتفاصيله وجودته وتكويناته بكل ما يتعلق به من جمال وأن يضفي هذا العصر الحداثة وعصر المستقبل بأن نضع الجهود ونضيف لتلك الفنون الروح التي تتميز بها.. طابع روحي ممتد عبر الزمن من الأجداد إلينا وإلى أبنائنا.. لذلك هذه الروح محافظ عليها بمجموعنا العام كفنانين ومعماريين ورسامين وفنانين وجميع العاملين في مضمار الفنون الإسلامية بشتى تفاصيلها وأشكالها ويجب إبراز طابع هذه الفنون ليكون لنا السبق والكعب العالي بين الأمم، لنظهر أمم الأرض رسالة الفنون وهي البناء والتجديد والمحافظة على الإنسانية.
وعن كيفية التعامل مع الحرف يقول «المحارب» من خلال خبرته في الفنون التشكيلية والخط العربي: إن اللوحة التشكيلية في فن الخط العربي يجب ألا تكون لوحة اعتباطية وليدة الصدفة ووليدة الشيء غير المفهوم، وأنا شخصيا ضد فكرة التعامل مع الحرف كشكل، والفنان التشكيلي وقد انطلق من دراسته الأكاديمية لفن الخط العربي عليه بداية أن يدرس ليتعرّف في مدارسه الكلاسيكية على جماليات وقواعد وضوابط فن الخط العربي ومن ثم بعد ذلك يؤسس للانطلاق نحو عالم التشكيل وعالم اللوحة التشكيلية والتعامل مع الحرف العربي على أنه جوهر بعمق رسالته ومفاهيمه ومضمونه الكبير، وأنا شخصيا أبتعد في أعمالي عن جعل الحرف شكلا جماليا فقط لكي أُمتّع المشاهد بصريا، وعلينا أن نتعامل مع الحرف العربي كجوهر ورسالة تهدف إلى مضمون سام ذي طابع خلقي يهدف إلى السمو بالإنسانية، وعلينا أن نحافظ على مقدرات هذا الفن.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الفنون-الإسلامية-أشكال-متعددة-وتجارب-مهجورة-في-مسار-العودة-للتجلي