download (90)

مرفأ قراءة… «خلوة اللغة العربية» تدشين مبادرة ذكية

– 1 –

كانت مفاجأة سارّة من وجوه عديدة؛ أن تخصص فعالية غاية في التنظيم والدقة لمناقشة هموم وشجون وتحديات اللغة العربية المعاصرة، وأن يحظى هذا الموضوع الخطير باهتمام المؤسسات والمراكز المعنية الكبرى على امتداد عواصم عالمنا العربي. فعلى هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب المقام حاليًا بالقاهرة، أقيمت الخلوة الثانية للغة العربية التي تشرّفت بالمشاركة فيها باحثا ومناقشا وعارضا لتوصيات أحد محاورها المهمة التي سنتحدث عنها تفصيلًا بعد قليل.

لم أكن أتوقع أن ألتقي هذه النخبة اللامعة من مثقفي العالم العربي في هذه المبادرة المتميزة التي ينظمها مركز أبوظبي للغة العربية، وعلى رأسهم الناقد والأكاديمي الكبير الدكتور صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والناقد الدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، وسعيد بن حمدان المدير التنفيذي للمركز، وآخرون.

– 2 –

أكثر من ست طاولات بحث مستديرة، اجتمع حولها متخصصون وإعلاميون وفنانون ومعنيون للإجابة عن سؤال مركزي؛ تتفرع عنه أسئلة فرعية أخرى؛ هذا السؤال: في ظل التحديات التي تواجهها لغتنا العربية.. كيف يمكن مواجهة هذه التحديات من خلال طرح رؤى وسياسات تترجم إلى أفعال على الأرض في كل المجالات؛ الإعلام المرئي والمسموع، الفنون الدرامية والأدائية، في الجامعات وقاعات البحث العلمي، ومن خلال استحضار المشروعات الفكرية والثقافية الكبرى التي أرساها قادة الفكر وأعلام النهضة العربية في القرنين الماضيين.

وقد كان المحور السابع والأخير الذي تشرّفت بالمشاركة فيه مناقشا هو محور «إرث طه حسين عميد الأدب العربي» وقد كان هذا المحور هو مفاجأة هذه الخلوة؛ إذ أعلن خلالها عن اختيار شخصية عميد الأدب العربي طه حسين شخصية محورية لفعاليات معرض أبوظبي للكتاب في دورته الجديدة 2022، وأعلن أيضا أن الاحتفال والاحتفاء بشخصية عميد الأدب العربي سيكون على مدار العام كله، وليس فقط خلال فعاليات معرض أبوظبي في الأسبوع الأخير من مايو القادم. وسوف يتضمن البرنامج الفكري المصاحب لمعرض أبوظبي باقة من الأنشطة المتخصصة لذلك الهدف؛ بمشاركة كتّاب وباحثين عرب وأجانب من المعنيين والمطّلعين على إنتاج طه حسين وتجربته الإنسانية ومشروعه النقدي والثقافي.

– 3 –

عندما تساءل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن «لماذا يجب أن نتعلم لغتنا العربية؟ ولماذا علينا أن نتقنها ونعلمها لأولادنا ونلقنهم إياها؟»؛ جاءت إجابته وافية ودقيقة وواضحة:

«وما أظن أننا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال إلا بجواب واحد، وهو أن اللغة العربية هي لغتنا الوطنية، فنحن نتعلمها ونعلمها؛ لأنها جزء مقوم لوطنيتنا ولشخصيتنا القومية؛ لأنها تنقل إلينا تراث آبائنا وتتلقى عنا التراث الذي ستنقله إلى الأجيال المقبلة، ثم لأنها الأداة الطبيعية التي نصطنعها في كل يوم بل في كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا، وليعاون بعضنا بعضًا على تحقيق حاجاتنا العاجلة والآجلة، وعلى تحقيق منافعنا الخاصة والعامة، وعلى تحقيق مهمتنا الفردية والاجتماعية في الحياة إن كانت لنا مهمة في الحياة، ونحن نصطنع هذه الأداة ليفهم بعضنا بعضًا».

انطلاقا من هذه الحقائق التي أقرها وأوضحها الدكتور طه حسين في نصه التأسيسي «مستقبل الثقافة في مصر»؛ قدّم المجتمعون على طاولته أفكارهم ومقترحاتهم في إعادة تفعيل وتنشيط مشروع طه حسين الفكري والثقافي والمعرفي للنهوض وخاصة في جانبه اللغوي وتنمية الثقافة اللغوية؛ وقد أثمرت هذه المناقشات والعصف الذهني النشط حزمة من الأفكار والمقترحات والتوصيات كانت بمثابة مخرجات مركزة ومكثفة لنشاط طاولة «إرث عميد الأدب العربي»؛ والتي تشرفت بإعلانها وقراءتها على الحضور وكان على رأسها؛ ما يلي:

أولا؛ توجيه الدعوة إلى المتخصصين في علوم بينية عدة؛ مثل علم اجتماع الأدب والأنثروبولوجيا والنقد الثقافي والدراسات المستقبلية، لبحث سبل الامتداد بتصورات وأفكار طه حسين المعرفية والثقافية واللغوية لتطوير ما يصلح منها وتفعيله على الأرض في دائرة البحث اللغوي والتنمية اللغوية وتطوير اللغة العربية وتعليمها وتعلمها على السواء.

ثانيًا؛ قيام هيئات من الدارسين والباحثين والمتخصصين بدراسة وبحث الظواهر الأدبية الجديدة، وتنوع ذائقة الشباب، والأعمال الرائجة، والازدواج اللغوي، وتحليل المستويات اللغوية المستخدمة في هذه الأعمال والنصوص.

ثالثًا؛ العمل على بحث واستكشاف ما يطرأ على الاستخدامات اللغوية الحديثة والجديدة في وسائط الاتصال الحديثة (مواقع التواصل الاجتماعي؛ مثل فيسبوك وتويتر وإنستجرام… إلخ) ودراسة القاسم المشترك في هذه الاستخدامات وبحث كيفية الوصول إلى مستويات صحيحة منها.

– 4 –

رابعًا؛ ضرورة المرونة في قبول المفردات والتراكيب الجديدة. كان القدماء يتحدثون عن «الدخيل»، وعن الكلمات التي ترد إلى اللغة العربية من لغاتٍ أجنبية، وقبول هذا الدخيل علامة ثراء تبدأ من القرآن الكريم الذي ضم عددًا من المفردات الأجنبية، ووضعها في سياق لغوي، وكان بذلك يؤسس لمبدأ ينبغي أن نمضي عليه إلى الآن، فنتقبل المفردات والتراكيب التي دخلت، والتي فرضت نفسها.

ولا أدل على ذلك من أن المعاجم الأجنبية، في الإنجليزية والفرنسية، وغيرها من اللغات، تتغيّر باستمرار. ومن يراجع أية طبعة من طبعات المعاجم العالمية الشهيرة في اللغة الإنجليزية مثلًا، «أكسفورد» أو «وبستر» أو غير ذلك من المعاجم، سوف يجد أن المعاجم يُعاد النظر فيها كل فترة زمنية، وتدخل فيها مفردات لم تكن موجودة من قبل؛ لأن اللغة الإنجليزية قد تقبَّلتها، وأخذتها واستوعبتها بمرونة وليس بجمود أو رفض عصبي على نحو مطلق.

خامسًا؛ وهي نقطة تتصل بما قبلها، وتعني التحديث المستمر للمعاجم والحرص على تطويرها، بما يجعلها سهلة الاستخدام وميسَّرة بالنسبة إلى من يحتاج إليها.

سادسًا؛ وهي نقطة بالغة الحيوية والأهمية، فتوسيع الترجمة، وأفق الترجمة، في مجالاتها المتعددة، والارتقاء بها في كل مجال. ويمكن للترجمة أن تكون مصدرًا من المصادر الثرية في إغناء اللغة العربية وفي مدِّها بتراكيب جديدة هي من نتاج العصر الذي يتغيّر، والذي لا يتوقف تطوره عند مرحلة بعينها. نحن الآن نعيش في عصر سريع الإيقاع في تغيّره، وفي تقدّمه العلمي، ولا سبيل إلى اللحاق بهذا العصر إلا بواسطة الترجمة. هذا هو الدرس الذي تعلمناه من «المأمون» ومن بيت الحكمة عندما تُرجمت العلوم القديمة للحضارات السابقة والعلوم الخاصة بالحضارات المعاصرة لهم، فكانت النتيجة اغتناء اللغة العربية وثراءها على نحو ورثناه نحن، ولكننا لم نحافظ على هذا الميراث العظيم، وإنما ضيعناه.

واللافت للنظر أن كثيرًا من المفردات التي استخدمها العرب يمكن أن تصلح مرادفًا لكثير من المفردات الجديدة. إننا لم نقرأ تراثنا اللغوي بعد بالقدر الكافي، ولم نقرأ الترجمات القديمة بما يجعلنا نستفيد منها، وبما يجعلنا نضيف إليها ترجمات جديدة يمكن أن تتسع بآفاق اللغة وتثري تراكيبها.

– 5 –

سابعًا؛ وهي النقطة الأخرى في هذا السياق، هي ضرورة إشاعة الموروث الأدبي، وتأكيد حضوره الإبداعي في الأذهان، واستغلال وسائل الإعلام في ذلك. وما أكثر التقصير الذي تبديه وسائل الإعلام في مسألة اللغة العربية، وفي إشاعة تذوقها الجميل. كان الإذاعي الراحل فاروق شوشة يُقدِّم لسنوات عديدة برنامجه الجميل «لغتنا الجميلة»، وكان المرحوم الأستاذ طاهر أبو زيد -وهو من روّاد الإذاعة ومؤسسيها- يُقدم برامج مماثلة، أين هذه البرامج الآن؟

لقد وصف العقاد اللغة العربية بأنها «لغة شاعرة»، لكن أغلب وسائل الإعلام المصرية والعربية لا تعترف فيما يبدو بشاعرية هذه اللغة ولا بجمالها، ولذلك فإنها تتجاهلها عادة في خريطتها الثقافية. ومن هنا تكثر البرامج الثقافية دون أن تحتوي على برامج لغوية خاصة ترتقي بذوق المستمع أو المشاهد لغويًا وتصل به إلى ما يمكن أن يكون بداية جيدة للتذوق اللغوي السليم.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/مرفأ-قراءة-خلوة-اللغة-العربية-تدشين-مبادرة-ذكية