مرفأ قراءة: “عالم التراث” بزوغ نجم جديد في فضاء النشر العربي

إيهاب الملاح

– 1 –

هذا واحدٌ من أحلامي القديمة الحبيبة التي لطالما حلمت بها، وأنا في ميعة الصبا والشباب، أقرأ بنهم لا يشبع ولا يحد وأدخر من قروشي القليلة ما أتمكن به من اقتناص كتاب من هنا أو موسوعة من هناك، ثم أتوسع توسعًا كبيرًا في مرحلة تالية، التعرف على كنوز تراثنا العربي والإسلامي، في مجالاته كافة، وبالأخص الأدب والفلسفة وعلم الكلام والعلوم اللغوية والبلاغية والنقد القديم، والتصوف والفقه، وأصول الفقه والبلاغة والدراسات القرآنية، وكتب السير والتراجم والطبقات.. إلخ، كنت أقبل على التراث كله بشغف وفضول لا يهدأ ولا يكل ولا يمل.

وحينما تعرفت على سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية العريقة، واقتنيتُ أول أعدادها (وأذكر أن عنوانه كان ماهية الحروب الصليبية للمرحوم الدكتور قاسم عبده قاسم وقد كتبت مقالا هنا في مرفأ قراءة عن هذا الكتاب ومؤلفه) ولم أكن أكملت العاشرة بعد، أحببت كتبها ورصانتها وغلافها وإخراجها الفني، وحلمت حينها بأن تصدر سلسلة ذات يوم على غرار عالم المعرفة، تكون مخصصة للدراسات والبحوث والكتب رفيعة المستوى تأليفا وترجمة، في مجال الدراسات التراثية ونقد التراث وتحليله على السواء.

– 2 –

وبعد ما يقرب من ثلاثين سنة على بذر هذا الحلم ونمائه في ذهن وعقل وقلب صاحبه، تلاقى حلمه هذا مع أحلام مثقفين عرب آخرين من المهمومين بالتراث والمحبين له والمكرسين جهودهم لخدمته ونشره والعمل على صونه وحفظه، وتلاقى حلمي مع حلم الأخ والصديق العزيز الدكتور عبد العزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث، وبإرادة حقيقية وحماس لا حد له وفائض تقدير وإيمان حقيقي بتراثنا وذخائره وقيمته ووضعيته بين تراثات الأمم والثقافات الأخرى، ظهرت أخيرا سلسلة “عالم التراث” إلى النور. وأعلن تدشين السلسلة بصدور الكتاب الأول فيها بعنوان “الثقافة العربية” للكاتب الراحل الكبير عباس محمود العقاد.

– 3 –

هنا في القاهرة، وعلى هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والخمسين، وبحضور نخبة من المثقفين المصريين والعرب والمهتمين بالدراسات التراثية وفي القلب منها الفنون والآداب الشعبية، أعلن الدكتور عبدالعزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث، عن تدشين هذه السلسلة التي تُعنى بإعادة إصدار كنوز وروائع الدراسات التراثية عامة، والثقافة الشعبية خاصة، المؤلفة والمترجمة معا، بمعدل كتاب واحد في الشهر، ويتعهد كاتب هذه السطور بتقديمه وإعداده للنشر بمقدمات جديدة مستفيضة تشرح للقارئ أهمية الكتاب وقيمته في حقل الدراسات التراثية والإنسانية ولماذا نستعيده الآن، ونصدر منه طبعة جديدة تلبي حاجة الباحثين والمتخصصين في حقل الدراسات، وكذلك تلبي حاجة القارئ غير المتخصص المحب والشغوف بقراءة هذه الكتب وأنا على يقين أن جمهور هذا اللون من المعرفة يقدر بآلاف الآلاف (إن لم يكن يتجاوز الملايين) في كل أنحاء عالمنا العربي.

وقد لمست بنفسي أصداء الإعلان والمطالبات بتوفير كتب السلسلة في كل أنحاء العالم العربي وفي عواصمها كافة، وأن يتم طباعة ونشر العدد الذي يلبي الطلب من إصداراتها، وقد أعلن الدكتور عبدالعزيز المسلم في هذا الصدد أن المعهد سيعمل خلال الفترة القليلة القادمة على تيسير كل الإجراءات وعقد الاتفاقات مع الهيئات والمؤسسات الرسمية في الدول العربية لتوفير طبعات داخل كل بلد عربي بسعر مناسب لأبناء كل بلد.

يرأس تحرير السلسلة الدكتور عبد العزيز المسلم، ويشرف على إدارة المحتوى والنشر الصديق العزيز الباحث الموريتاني الكفؤ والمثقف القدير الدكتور منى بونعامة، أما مدير التحرير التنفيذي والمسؤول عن تنفيذ خطط النشر وإخراج كتب وإعداد السلسلة فكاتب هذه السطور.

– 4 –

وقع الاختيار على كتاب الثقافة العربية للمرحوم الكاتب الكبير عباس محمود العقاد لنستهل به إطلاق السلسلة، لعدة أسباب يأتي على رأسها ضرورة أن يكون الكتاب الأول من كلاسيكيات الكتب العربية في القرن العشرين، ويتغيا من بين أهداف إعادة نشره التأكيد على وحدة الثقافة العربية، لسانا وبيانا وفكرا وثقافة وتراثا، والتأكيد أنها كل لا يتجزأ دون أدنى تعارض مع الخصوصيات الثقافية والتنوعات الدينية واللغوية والعرقية في كل بلد، ففي النهاية يزدهر هذا التنوع ويتوهج في إطار الوحدة الفكرية والثقافية واللغوية التي تميز أبناء العربية بين أمم وثقافات العالم.

كما أن الاختيار وقع على كتاب “الثقافة العربية” لأنه أيضا كان الكتاب الأول الذي دشنت به واحدة من سلاسلنا الذهبية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي؛ وهي سلسلة “المكتبة الثقافية” التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مصر في العهد الناصري.

وقد كانت هذه السلسلة مع سلاسل أخرى (مثل أعلام العرب، والمسرح العالمي، وروائع الأدب العالمي للناشئين، ومجلة “تراث الإنسانية”، ومجلة “الفكر المعاصر”.. إلخ) منارات وعلامات هادية ومرشدة ولعبت أكبر وأهم وأعظم الأدوار في تثقيف أبناء العربية كلها وليس في مصر فقط، وما زالت كتب هذه السلاسل رغم بعد عهدها عنا بعقود وعقود تحظى باحترام وفير وتتجدد قيمتها ويتجدد البحث عنها وطلب توفيرها.

– 5 –

أما كتاب “الثقافة العربية” فواحد من كتب العقاد الكلاسيكية التي حظيت بشهرة وافرة وواسعة في عالمنا العربي، منذ صدوره في مطالع الستينيات من القرن الماضي، وعبر صفحات الكتاب الممتع يصحبنا العقاد بموسوعيته التي لطالما أثار بها الإعجاب والدهشة معًا، في مباحث وموضوعات طريفة وتاريخية ولغوية وإثنية تتصل كلها بموضوع العرب والعربية وصلاتها القديمة بالأمم والحضارات السابقة أو اللاحقة عليها.

يشير العقاد في كتابه إلى أحد تعريفات “الثقافة” أنها مجموعة من القيم والعادات والتقاليد والمعارف التي تميز جماعة ما، والعرب هم جماعة بشرية يُنسب أصلها إلى “يعرب بن قحطان” على أرجح الأقوال، وقد أنتجت هذه الأمة -خلال حياتها- ثقافة من أقدم الثقافات التاريخية، فطوَّروا أبجديتهم الخاصة للكتابة، ليأخذها أهل الأمم الأخرى منهم، فأنتجوا أبجدياتهم الخاصة، كما نقلوا بعض الكلمات العربية إلى لغاتهم.

وأما الشعر العربي، فقد أصبح فنًّا مستقلًّا له قواعده الخاصة وبحوره المعروفة، في وقتٍ كانت الفنون المماثلة عن الأمم الأخرى مجرد نصوص لا تلتزم الوزن أو القافية، وترتبط بالغناء بشكل كامل. وخلال رحلتنا مع صفحات هذا الكتاب سنرى إسهامات العرب الكبيرة والمهمة والمؤثرة في الثقافة الإنسانية؛، تلك الإسهامات التي لم تترك مجالًا ثقافيًّا إلا وكان لها فيه سهم، بدايةً من الفنون وانتهاءً بالفلسفة والحكمة.

– 6 –

ومن المنتظر وخلال الأشهر القادمة أن تتوالى أعداد السلسلة بمشيئة الله لتقدم للقارئ العربي في كل مكان عناوين مختارة ومنتقاة من الدراسات والمؤلفات التراثية المؤلفة والمترجمة معا، على أن يكون التركيز بالأساس في إخراج الدراسات التأسيسية والكتب المرجعية التي لا غنى عنها للقارئ العربي العام والمتخصص على السواء.

وإن كان هذا لا يعني أن السلسلة كلها ستكون إعادة طباعة أو صدور كتب سبق لها الظهور، بل ستكون هناك كتب جديدة تظهر للنور للمرة الأولى في السلسلة وبالأخص من التراث غير المنشور لكبار الأساتذة والمثقفين والمعنيين بالدراسات التراثية عامة، والثقافة الشعبية خاصة، على سبيل المثال ستشهد السلسلة بمشيئة الله ظهور بحوث ودراسات لم تنشر للعلامة محمود علي مكي في الدراسات الأندلسية، وكذلك للمرحوم عبد العزيز الأهواني أيضا.

ندعو الله أن تكون هذه السلسلة نبراسا لأبناء العربية ومثقفيها وفي خدمتهم وأن تلبي طلبهم وشغفهم بتراثهم العربي والإسلامي الزاخر والأصيل… (وللحديث بقية)

* إيهاب الملاح باحث مصري في مجال الأدب والتراث والثقافة
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/مرفأ-قراءة-عالم-التراث-بزوغ-نجم-جديد-في-فضاء-النشر-العربي