يرصد الدكتور محمد بن سعيد الحجري في كتابه الجديد الصادر عن دار لبان للنشر بعنوان /الشعر العماني في العصرين النبهاني واليعربي.. بين الإبداع والاتباع/ حالة الشعر العُماني في عصرين يعدّا الأهم، وهما الموازيان في الدائرة العربية العامة للمملوكي والعثماني. واعتنى الإصدار على وجه الخصوص بالظواهر التي وسم بها شعر هذين العصرين اللذين صنفا عند كثير من الباحثين على أنهما فترتا ضعف وجمود من الناحية الأدبية، فكانت (في نظر هؤلاء) انعكاسًا لمجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في تلك المرحلة خاصة بعد سقوط بغداد عام656هـ- 1258م. ويأتي كتاب الدكتور محمد الحجري كدراسة لتلك المرحلة الزمنية إلا أن نطاقها يتسع ليشمل ضمنيًا حقولًا من التاريخ العام، وتاريخ الثقافة العمانية، وتاريخ الأدب عامة وليس تاريخ الشعر فحسب، مشيرا إلى أنها ألزمته في بعض مراحلها لاستخدام منهج تاريخي “يناسب الطبيعة التدرجية التي سارت عليها تلك الظواهر التي تعبر في مجملها عن حالة الشعر العماني في مرحلتين تاريخيتين متناقضتين تقريباً، وينطويان على مفارقات اجتهدت الدارسة أن تشير إليها في المباحث التاريخية المحضة منها التي اعتنت بالجانب التاريخي السياسي والفكري العلمي والأدبي”. ويضيف المؤلف في مقدمة الكتاب أن أكبر الصعوبات التي واجهته خلال تطبيقه هذه الرؤية المقاربة تمثّلت “في تلك الحقبة الزمنية الكبيرة التي تغطيها الدراسة، فهي تمتد لأكثر من ستة قرون بدأت بالقرن السادس الهجري وانتهت ببدايات القرن الثاني عشر، وهي ستة قرون من الشعر لا يسير أمر الظواهر الشعرية المتتبعة فيها على اتساق واطراد، بل هي مليئة بالمفاجآت والاستثناءات، إضافة إلى شح في بعض المراجع المتخصصة في تأريخ الثقافة العمانية، وغموض وانقطاع وحلقات مفقودة في التاريخ العماني السياسي ومن ورائه الثقافي، ويدرك ذلك المطلع على شؤون التاريخ العماني، وهي كلها أمور تربك الباحث وتحيره، وتحوجه إلى مقادير غير محدودة من الأناة والصبر والحذر”. ويشير الحجري إلى أن هذه الدراسة “تحاول أن تفتح آفاقًا جديدة في الدراسات الشعرية العمانية، دون ادعاءٍ بأنها قدمت فتحًا غير مسبوق أو مفاجآت غير متوقعة، إلا أنها آلت على نفسها أن تناقش تلك الأحكام العامة المطلقة تجاه الشعر العماني وأن تضعها على المحك، وأن تظهر الاستثناءات الكثيرة التي تعطل اطّرادها وثباتها، حتى وإن لم تلغها أو تنفيها أو تقدم بديلًا عنها، وهي تدعو بعد كل ذلك إلى إقرار مبدأ النسبية في التعامل مع القضايا الأدبية، وإلى تجنب الأحكام المطلقة، والنظر إلى الظواهر الأدبية من زواياها المختلفة وتقييمها من كل جهاتها، حتى تنجلي حقائق الأمور التي سوّرتها النظرة الأحادية الصارمة بستار حديدي مصمت” وأيضا إلى “حجم ما ينتظر الباحثين من جهد، لكشف الجوانب الخفية والزوايا المظلمة، ومقدار الجمال والغنى الذي تخفيه صفحات الشعر العماني الذي لم تمس أيدي الباحثين كثيرًا من جوانبه، وبحسبها إنها تقدم إسهامًا في ذلك”. وناقشت الدراسة في فصلها الأول “خصائص الحالة الشعرية في العصور الموازية”؛ تلك العصور التي تلت انهيار الخلافة العباسية في القرن السابع الهجري، وعلى وجه التحديد العصرين المملوكي والعثماني، فيما يأتي الفصل الثاني بعنوان “العصرين النبهاني واليعربي وستة قرون من الشعر” الذي تناول التأسيس لدراسة العصرين النبهاني واليعربي “مستخدمًا مدخلًا تاريخيًا ضروريًا للوقوف على الحالة السياسية والفكرية العلمية، التي صاحبت أدب هذه الحقبة شعره ونثره. وخصص الدكتور محمد الحجري الفصل الثالث من هذه الدراسة بعنوان /استقبال التأثيرات وبروز المظاهر/ لتتبع الظواهر ورصدها وملاحظة ما تقبله الشعر العماني منها وإلى أي حد تقبله؟ وكيف حدث ذلك التوغل التدريجي لهذه الظواهر إلى الشعر العماني؟ ولمَ لمْ يتقبل الشعر العماني بعض تلك المظاهر؟ منوّها بهذا الفصل كونه “يمثّل خلاصة هذه الدراسة، ومحور العمل الرئيس”. ويرى الناقد الأستاذ الدكتور محمد لطفي اليوسفي أن المؤلف د. محمد الحجري أثبت في هذه الدراسة أنه قد تمرس بمتطلبات البحث العلمي وشروطه وامتلك القدرة على مقاربة النصوص وتحليلها في ضوء منهج علمي واضح المعالم، وهو منهج تاريخي مقارن يجمع إلى الوصف والتوسع في رصد الظواهر والإشكاليات المدروسة الاستقراء والتحليل والاستنتاج، لذلك جاءت فصول الدراسة قائمة على خطة منهجية بيّنة قوامها النظر في الكلي العام (الشعر العربي عامة) لتبين خاصيات الجزئي والفرعي (الشعر العماني في العصرين النبهاني واليعربي). ويشير إلى أن الدراسة تكشف “عن جهد واضح في تتبع المادة الشعرية وتجميعها وكيفية مقاربتها، فلم يكتف الباحث برصد خاصيات كل شاعر على حدة بل عمد إلى إجراء مقارنات عديدة بين النصوص ومميزاتها مركزًا على ظاهرتي الإبداع والاتباع، وهذا ما جعل فصول الدراسة وأقسامها مترابطة ترابطًا عضويًا محكمًا، فصارت هذه الدراسة بمثابة مدونة أو مجمع للذاكرة الشعرية في العصرين النبهاني واليعربي، مما يجعلها مرجعًا علميًا يفيد الباحثين والدارسين ويضطلع بدور مهم في لملمة الذاكرة الثقافية العمانية وإلقاء الضوء على مناطق معتمة من تلك الذاكرة”. من جانبه يشير الدكتور محسن بن حمود الكندي إلى “أن حجم الإضافة المعرفية لهذا الكتاب الأدبيِّ المهم ليست في مقدار تتبع كاتبه الباحث الدكتور محمد بن سعيد الحجري لثيمات الإبداع والاتباع في النَصِّ الشعري، بل تكمن في كشفه الرائد غير المسبوق لمنجزٍ شعري تاريخي مغمور، وعَقْدِه لذاكرةٍ شعريةٍ لشعراءِ ينتمون إلى حقبة مفصلية في غاية الأهمية غابت عن أذهاننا طوراً، وهو جهدٌ مضنٍ، وعملٌ شاقٌ لا يقومَ به إلا من أوتي بسطةً في الصبر والجَلَدِ، وفهم الواقع العُماني ومقاربة تاريخه ووقائعه وهو ما يفسر توسع المباحث التاريخية في الكتاب”.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/محمد-الحجري-يرصد-حالة-الشعر-العماني-في-العصرين-النبهاني-واليعربي