أنساغ: «لأن بيتهوفِن ليس عُمانيَّاً»

عبدالله حبيب

[يأتي نشر هذه الرسالة ضمن محاولة تتراوح بين الثلج والذاكرة لاستجماع الرغبة واستعادة ما يتأتى من رسائل بما أمكن من صيغ مقروءة نحو صدور الجزء الثاني من «الفراغ الأبيض الذي سيلي: رسائل» الذي كان جزأه الأول قد صدر عن دار الانتشار العربي، بيروت، 2015].

يا قاسم

كيف حالك، وحال الأسرة والأصدقاء؟ أبدأ بالعتاب؛ لا رسالة منك، ولا رسالة مني، حيث لا أعفي نفسي من عتاب مماثل للإخفاق في تواصل أكثر، لكن ظرفي السيئ، ضمن معطيات الوقت، يردُّ على عتابي بعتاب أكبر لا يُرَدُّ عليه. باختصار سمج: أنا مُصادر بالكامل (تقريباً) لصالح الوظيفة ليس على حساب جوهريَّات كالتواصل مع أصدقاء أساسيين مثلك فقط، ولكن كذلك على حساب جوهريَّات كالكتابة والقراءة وتدخين الغليون باسترخاء أثناء احتساء قهوة إلا[…] سبرِسو، الأمر الذي سيقودني بالضرورة إلى الحديث حول أن الفداحة في حياتي لا بد أن تكون مُضاعَفة [توكيد بخطين تحت كلمة «مُضاعفة» في الأصل]، فقد حدث ما حدث أثناء الدراسة من نكالات استثنائية جعلتني طالباً محروماً حتى من الإجازة التي هي من حق كل الطلاب، ومحروماً كذلك من حقي الطبيعي والقانوني، وهو حق اكتسبته بجدارة العناد، في مواصلة دراستي العليا (أصبح قبولي في برنامج جامعة «كولومبيا» وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس لاغياً الآن لانقضاء المدة ولا أمل يذكر من هنا بخصوص البعثة). والآن، في الوظيفة تصرُّ الفداحة المضاعفة على أن أعمل ليل نهار وفي معظم إجازات نهاية الأسبوع، في الوقت الذي أُحرم فيه من حقوق وظيفيَّة أبجديَّة كالمسمى الوظيفي المناسب لمؤهلي وطبيعة العمل الذي أقوم به (وهو أمر آخر ما يعنيني بالطبع، لكن عدم الحصول عليه، وهو حق طبيعي، يعني الفداحة)، وصديق مثلك يجب ألا يعتبر الأمر استمراء للشكوى حين أصارحك بأن غيظي إزاء فداحة العمل قد بلغ أقصاه منذ بدايته عندما كنت في [الثالثة] عشرة يوم كنت مرتزقاً في الجيش. والآن، وبعد كل تلك السنوات من العمل لا أستطيع أن أكون موظفاً طبيعياً يملك نصف يومه على الأقل، في الوقت الذي توجد فيه، في هذه السن، مشاريع كثيرة وملحَّة للكتابة والقراءة والترجمة والتفكير– مشاريع لا تحتمل التأجيل لأن المرء لم يعد صغيراً، لأن الوقت لم يعد صغيراً كذلك، تماماً كما إ[يـ]ـجار الغرفة ومحروقات السيارة والبطن.. إلخ.

من هذه الفداحة، إذن، أكتب معاتباً إياك، ومعاتباً نفسي، ومعاتباً الفداحة، لأقول لك: كيف الأحوال والحياة والكتابة (التي أتابع ما تنشره منها في [صحيفتي] «الشرق الأوسط» و«الاتحاد»)؟ بالنسبة لي، أكتب أسبوعياً في الملحق الثقافي لـ[صحيفة] «عُمان» (الملحق سيئ الورق، والطباعة، والإخراج، والتوزيع، والرقابة، والكواليس، والمكافأة… إلخ)، لكن المرء يصر على أن يكون فيه لاعتبارات أخلاقيَّة محضة بعد طول رفض ضمن قناعات المرحلة السابقة. أبعث لك بعض ما نشرته هنا (سترى أن بعض المواد هي استكمال لحوارات معك ومع [مجموعتي الشعريَّة] «ليلميَّات». لم أبعث أشياء أخرى أعرف أنها موجودة معك بدون تعديل). المكافأة المالية هنا بخسة جداً، إضافة إلى أطنان الإشكالات التي تمر بها قبل النشر. فكرت، تحت وطأة ضائقة مالية خانقة، بالنشر في [صحيفة] «الاتحاد» حيث حدَّثت جمعة اللامي الذي وعد مبدئياً بمكافأة معقولة، فبعثت له قبل ثلاثة أسابيع مادة كتبتها عن موسيقى بيتهوفن والسينما والفكر (وهي إحدى مواد ملف بيتهوفن [الذي كان قد نُشر في الملحق الثقافي لصحيفة «عُمان» ] الذي تجده مرفقاً، والتي رفضوا نشرها [أي تلك المادة] «لأن بيتهوفن ليس عُمانيَّاً، وقد أعطيناه صفحتين [من صفحات الملحق الثقافي]، وهذا يكفي». هناك أيضاً تغطية وترجمة لمقاطع من رسالة الحب الوحيدة التي كتبها ولم تُنشر ضمن الملف [في الملحق الثقافي لصحيفة «عُمان». لكن جمعة تحدث في مكالمة [أخرى] عن أن المادة «ثقيلة»، وهناك مواد أخرى أصلح للصحافة الثقافية. قال: إنه سينشرها مع ذلك، لكن هذا لم يحدث حتى الآن على الأقل. في كل الأحوال، مشروع النشر في [صحيفة] «الاتحاد» مشروعٌ مُكابِرٌ من أساسه لعدم وجود وقت خاص في ظل التزامي أمام نفسي بالكتابة الأسبوعية في [الملحق الثقافي لصحيفة] «عُمان». سأرى ما يمكن تدبره.

أواصل كتابة «ليلميَّات» بصورة متقطعة. سأبعث لك آخرها لاحقاً. أفكر في إصدار مجموعة قصصية من هنا. مشروع إصدار الجزء المُنجَز من «ليلميَّات» تعثَّر ماليَّاً. مشروع [الكتاب الذي عن] بازوليني أُجْبِرَ على التوقف مؤقتاً لعدم توافري على وقت؛ الأمر الذي جعلني أقرر أن أخصص له إجازتي السنوية (يناير وفبراير القادمين) كي أنهيه مرة واحدة، فقد أصبح خبر المشروع معروفاً ومُنتظَراً على غير صعيد، ولا تستطيع أن تتصور الخجل والغيظ اللذين يمزقاني بسبب ذلك. لم تبعثوا لي اقتراحاً بترجمة تلك الفقرة من [دراسة بازوليني] «سينما الشِّعر»، أم أنه ينبغي أن أسأل إذا كانت رسالتي وبعض نسخ من [كتابي] «صورة معلَّقة على الليل» قد وصلت أصلاً مع عبدالله السعداوي؟ ربما غفلت عن إرسال نسخ لبعض الأصدقاء مثل فريد رمضان وأحمد مدن اللذين أبعث لهما نسختين هنا. طبعاً الكُتَيِّب [أي «صورة معلَّقة على الليل»] نموذج متقدم للأخطاء الطباعيَّة (43 خطأ معظمها في السيناريو [أي سيناريو فيلمي «هذا ليس غليوناً»] في 88 صفحة. النسخ التي تسلمتها [من المطبعة] أضفتُ إليها كشف تصويبات للنصوص فقط. شكراً للشباب في المجمع الثقافي الذين ردوا على اقتراحي بأن أختلس إجازة نهاية الأسبوع للذهاب إلى أبوظبي لتصحيح «البروفة» بأنهم سيعتنون بالأمر بأنفسهم فـ«الكتاب كتابهم». وشكراً أجزيلا لأحمد راشد ثاني الذي لم يرحم أوجاع جسدي وروحي في بريطانيا، وسيطرتي الموثَّقة على الدراسة مع ذلك، ليتهمني في مقدمته بـ«الفشل» في دراسة الأدب.

بعد [مشروع الكتاب عن] بازوليني مشروعي هو [ترجمة كتاب] بريسون [ملاحظات في السينماتوغرافيا]. لم أستطع مقاومة إغراء البدء في ذلك، وأبعث لـكلمات الجزء المُنجَز من الترجمة. يستطيع الأصدقاء مطابقة الترجمة على الأصل المتوافر لديكم، إذ أرسلت لكم الكتاب من أمريكا. أرجو أن تقول لأمين [صالح]، بالمناسبة، أن الصورة قد تغيرت الآن؛ فإذا ما توافر على مواد إنجليزيَّة فعليه ألا ينساني. كذلك لم نعثر على مادتك المنشورة في [صحيفة] «الشرق الأوسط» حول سماء عيسى الذي بحث عنها بلا جدوى. هل يمكن أن ترسل لي صورة منها؟

نحن في المراحل الأخيرة من إنجاز فيلم حاتم [الطائي] «شجرة الحِداد الخضراء». سيكون مفاجأة سارة بالتأكيد.

الوالد والوالدة يعانيان من مشاكل صحيَّة مزمنة. أختي زكيَّة أنهت دراستها في الرياضيات، وعملت بالتدريس، وتزوجت […] وحضرت زفافها (صرت ألتقي الآن بالأسرة في وُدٍّ حَذِر وأحضر مناسبات كتلك ما وسعني الأمر). أخي مصطفى انحرف فجأة نحو العلوم، وهو يتقدم جيداً في دراسته للطب. وناجي – الأكثر ذكاء وقلقاً بين إخوته – اختار العسكريَّة بمحض إرادته. العزيز الغالي يوسف، أخي بالرضاعة، واجه حتفاً مبكراً، إذ تمزَّق في حادثة سقوط مروحيَّته، وصُرِعَ تلميذه معه كذلك. لا نستطيع أن نفعل شيئاً حيال أمِّه أمام الموت أو الجنون حزناً وغمَّاً لفقده، وننتظر أن ينبئنا كل صباح بما رجَّحت. لعلي الآن أقل حرجاً أمام خطيبتي السابقة […]. مُذ كنتُ في السادسة، أو نحو ذلك، لم أتصور أن يتزوجها غيري. لكن أزمنة وكتباً عصفت بالعاشقين الصغيرين وفرَّقت مصيريهما لأجد إني، منذ سنوات، لا أستطيع تصور أن تكون زوجتي، ولا أستطيع أن أتصور نفسي زوجاً في المقام الأول […]. حسنا إنها تزوجت وأنجبت، وإن لدي مشاريع للكتابة.

[…] بَنَت [أسرتي] بيتاً معقولاً في مدينة البريمي، حيث أصبح الأمر أفضل بكثير من تكدس عشرة أفراد (حين تحضر كل الأسرة) في غرفتين كانا «البيت» لسنوات طويلة […] لكني قمت بما أستطيع مبكراً وقبل تخرج وعمل أخواتي الثلاث وعمل ناجي؛ الأمر الذي يجعلني لا أعيش أزمة ضمير الآن. يسعدني أن مازن وعبدالجليل – الأصغر في الأسرة- يستطيعان الآن مواصلة دراستهما ومحاورة حياتهما ونضجهما بصورة طبيعية ومتدرجة أين منها حقيقة إني [بلغتُ سن البلوغ] للمرة الأولى (عادة شِعريَّة طبعاً) في دورة مياه نتنة بمعسكر جيش وأنا بكامل الزي العسكري (ترى، هل تخطر هذه الصورة «السوريالية» حتى لدى فليني مثلاً؟ وفوق هذا فإنهم يهاجموننا لأننا «غير واقعيين». كلا، على العكس تماماً؛ فهم الذين اغتربوا عن الواقع، وفقدوا تماسهم مع الحياة، أما نحن فإننا «مقذوفين» في أتونها تماماً).

أكتب لك عن نفسي، عن محاولات كتابتي، عن حياتي، وذاكرتي، وحجرات بيت أهلي لأنك الحجرة الأرحب في الروح؛ فلا تنسَ حجرتك أيها الطريد، بأمِّي أنت وأبي. الوقت متأخر في الليل، وفي الفداحة، لكن قلتُ نتواصل قليلاً نكاية بكل ذلك. سأحاول مهاتفتك قريبا.

مسقط، 24 يوليو، 1993.

عبدالله حبيب شاعر وكاتب وسينمائي عماني.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أنساغ-لأن-بيتهوفن-ليس-عمانيا