إيهاب الملاح
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أو بعدها بسنواتٍ قليلة (لا تجاوز العام 1982 على أقصى تقدير)، صدرت آخر طبعة معروفة من مذكرات فنان الشعب، عميد المسرح العربي، الفنان المثير للجدل يوسف بك وهبي، عن مؤسسة دار المعارف المصرية. ومن حينها لم تصدر منها أي طبعة أخرى حتى وقتنا هذا!
ظهرت المذكرات في صورتها الأولى في ثلاثة أجزاء متفرقة، قبل أن تقوم دار المعارف بضم الأجزاء الثلاثة من هذه السيرة في جزء واحد يضم المذكرات الكاملة لعميد المسرح المصري، فنان الشعب الذي طالما أسعد بفنه الملايين، وكان لافتا أن تنوه الدار في صدر إعلاناتها عن المذكرات بأنه “غنى عن البيان أن العهدة في مثل هذه المذكرات تكون دائما على صاحبها وراويها، استنادًا إلى ما قد يكون دوّنه -في حينه- في أوراقه أو مفكراته من بيانات، يكملها الاعتماد على الذاكرة -باعتبارها سمة أساسية من سمات السيرة الذاتية- في بعض الأحيان”.
قبل هذا التاريخ (سنة 1982)، ظلَّت مذكرات يوسف وهبي ذات الأجزاء الثلاثة نادرة الحصول عليها مجمعة، وظلَّ باعة الكتب القديمة يعتبرون العثورَ على نسخةٍ كاملة منها من النوادر، وكانت تباع بمبلغٍ لا يقل عن 150 جنيهًا مصريًّا، وهذا المبلغ كان يساوي الكثير جدًّا في مصر طوال السبعينيات والثمانينيات، وحتى التسعينيات من القرن الماضي!
– 2 –
ومذكرات يوسف وهبي التي نشرها تحت عنوان «عشت ألف عام ـ مذكرات فنان الشعب»؛ لا تقتصر على كونها مذكراتٍ جريئة لفنان كبير، وإنما تمثل توثيقًا موازيًا لتاريخ المسرح المصري (والعربي أيضًا) في مراحله الأولى، ومن يقرأ هذه المذكرات بتمعن سيكتشف الدور الاجتماعي والسياسي الأصيل للمسرح المصري منذ بواكيره؛ سيجد القارئ أن المسرح كان في عهود عديدة مشاركًا في الحياة السياسية، ومناهضًا للأوضاع الاستبدادية السائدة منذ القرن الثامن عشر، وهذا يظهر جليا في مذكرات كل من ساهم في نهضة المسرح المصري، ومنهم من كانوا يعلنون تمردهم وثورتهم على أوضاعهم الاجتماعية لينخرطوا بعد ذلك في زمرة الباحثين عن الحرية بمفهومها الواسع بدءًا بالفكرة وانتهاءً بالسياسة.
في كتابها الذي أفردته عن يوسف وهبي؛ تحكي راوية راشد قصة عثورها على هذه المذكرات للمرة الأولى فتقول:
“ثلاثة كتب صغيرة الحجم. شدني العنوان «عشت ألف عام». اشتريت الكتاب بأجزائه الثلاثة من بائع صغير من على سور الأزبكية لسببين: أولًا، إن الكتاب مطبوع عام 1962 في مطابع دار المعارف؛ وبالتالي تعتبر هذه النسخة نادرة. وثانيًا، لأن يوسف وهبي كأحد أعمدة المسرح المصري الحديث قد أهمله مؤرخو المسرح لأسبابٍ مبهمة، رغم أن التاريخ يذكر له أنه أول من قدَّم المسرح بصورته الحديثة في مطلع الثلاثينيات، واستمر عطاؤه ممثَّلا ومخرجًا ومترجمًا ومؤلفًا ليس على خشبة المسرح فقط، ولكن للعديد من الأفلام السينمائية”.
وتتابع راوية راشد قصة اكتشافها وقراءتها لـ مذكرات «يوسف بيه وهبي»، كأنه قرر أن يختار من يكتب عنه، لكن الكتب الثلاثة كانت خالية تمامًا من المعلومات المطلوبة لمعرفة شكل المسرح في الثلاثينيات عندما أقام هو مسرح «رمسيس»، ووجدتْ أنه كان شحيحًا في سرد بعض الأحداث التي مرَّت بحياته وحياة من عاصروه، ومن ثم فقد كان عليها أن تقرأ المذكرات مرة أخرى جيدا، ثم تقرأ أكثر عن شكل الحياة الفنية في ذلك العصر، لتجد نفسها في النهاية قد اقتربت أكثر وأكثر من تاريخ المسرح المصري والعربي، من خلال سيرة وحياة أحد مؤسسيه الكبار.
– 3 –
ومن يقرأ مذكرات «يوسف وهبي»، و«روزاليوسف»، و«فاطمة رشدي»، و«محمد التابعي»، و«فتوح نشاطي»، و«محمد عبد الله»، سيقترب حثيثًا من ملامح الحياة الفنية في مطلع القرن، وتأثيرها على الحياة الاجتماعية في زمنٍ اشتعلت فيه ثورة 1919 وتأجج فيها الحس الوطني العارم، حيث ارتفعت الحناجر تنادي بحرية بلادهم، وهي تغني للشيخ سيد درويش «قوم يا مصري»، وكان لا بد أن يتغير المسرح وأن يتغير المجتمع، وكان لا بد أن يثور ابن عبد الله باشا وهبة، وأن يحترف التمثيل ضاربًا عرض الحائط بكل القيم والتقاليد التي أحاطت بعصره وحياته.
والغريب أن المسرح بمفهومه البسيط في مطلع القرن الماضي قد سحر من اللحظة الأولى يوسف وهبي، من خلال الفرق الجوالة التي كانت تقدم عروضها في قرى ونجوع مصر، حيث كان الناس يتجمعون ليشاهدوا المشخصاتية بملابسهم الغريبة وهم يصرخون بأعلى أصواتهم بعبارات غير مفهومة، فقد كان التشخيص أكثر جذبا لهم من فنون خيال الظل التي كانت سائدة في ذلك العصر.
ولكن ما الذي يجعل طفلًا في الثامنة من عمره أبوه كبير مفتشي الري في أسيوط يقرر أن يصبح مشخصاتيًا مثل الذين شاهدهم في فرقة «أبو سليم القرداحي» التي زارت المدينة؟
الإجابة لم يذكرها يوسف وهبي في مذكراته، لكنها كانت واضحة تمامًا في كل كلمة نطق بها، لقد أحب المسرح ووقع في أسره فحوَّل مجرى حياته من شاب يعده أبوه ليكون طبيبًا إلى مجنون بالفن، وثائرًا على أسرته ومجتمعه ونفسه، لتعصف به الريح في طريق طويل وصفه هو في مذكراته بأن طوله ألف عام!
أما في السينما فيذكر له أنه أنتج للسينما المصرية أول فيلم سينمائي صامت، وهو فيلم «زينب»، الذي أخرجه محمد كريم عن قصة الدكتور محمد حسين هيكل عام 1927، كما أنه صاحب أول فيلم عربي ناطق وهو «أولاد الذوات»، عن قصةٍ كان قد كتبها، وقام ببطولتها عام 1932.
كذلك، فإن تأثير يوسف بك وهبي في السينما يتجاوز الأفلام التي أنتجها أو أخرجها أو اشترك في تمثيلها، إنه الأب الروحي لتيار الميلودراما في تاريخ السينما المصرية والعربية.
– 4 –
كيف خرج الكتاب إلى النور وأعيد طبعه ونشره بعد هذا الغياب الطويل؟
كانت مؤسسة دار المعارف هي التي نشرت الطبعات المتعددة والمتعاقبة من هذه “المذكرات”، وأعادت إصدارها أكثر من مرة، كانت آخر طبعة كاملة منها في عام 1976، في ثلاثة أجزاء؛ وأقبل عليها القراء وجمهور الأدب والفن والسيرة الذاتية بصورةٍ منقطعة النظير، ما دفع دار المعارف آنذاك إلى إصدار طبعات جديدة منها في غضون فترات زمنية قليلة.
وطوال ما يقرب من أربعة عقود كاملة، اختفت هذه المذكرات تمامًا، ولم تعد متاحة سوى بنسخ مفردة وقليلة جدًّا لدى باعة الكتب القديمة، وتجار المكتبات في الأزبكية، وبعض الأماكن القليلة الأخرى.
وربما لندرة الحصول عليها قررت الكاتبة والناقدة الفنية راوية راشد أن تخرج كتابا كبيرا عن يوسف وهبي (صدر عن دار الشروق في 2016) تعتمد فيه اعتمادا كليا على نص مذكراته؛ فكأنها أعادت نشر المذكرات مضمنة أغلبها في متن الدراسة التي تقدمها عن فنان الشعب.
– 5 –
وفي عام 2017 اقترح صاحب هذه السطور، من خلال عضويته في اللجنة العليا للقراءة والنشر بدار المعارف، إعادة طبع ونشر هذا الكتاب النادر مرة أخرى، وإتاحته للجمهور في مصر والعالم العربي، بل في جميع أنحاء العالم، ضمن قائمةٍ موثقة بعشرات العناوين والكتب الأصيلة النادرة التي أصدرتها دار المعارف عبر ما يزيد على القرن من تاريخها.
وها هو الكتاب يظهر أخيرًا عن إصدارات دار المعارف 2021 في طبعة كاملة بين دفتي مجلد واحد تضم الأجزاء الثلاثة مجتمعة، منذ آخر طبعة صدرت عنها بين عامي 1976 و1982، وتضم ملحقًا وافرًا بالصور النادرة والفريدة لعميد المسرح العربي يوسف وهبي في أعماله المسرحية والسينمائية، مما يمثل ذاكرة بصرية وفوتوغرافية لأهم محطات هذه السيرة النادرة والفريدة في ذاكرتنا الثقافية المعاصرة.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/مرفأ-قراءة-مذكرات-يوسف-وهبي-نص-نادر-لفنان-جريء