حضور مبكر لعلي وأحمد الجمالي في الكتابة والصحافة والإدارة

إعداد الدكتور محسن بن حمود الكندي
كتابات عمانية مبكرة «59»
كتاباتهما جزءٌ من سياق ثقافي اقتضته معطيات المرحلة إداريًّا وثقافيّا

لم يقتصر حضورهما على عُمان بل كان المهجران الإفريقي والخليجي رافدًا من روافد ثقافتهما المستنيرة

انصبت مقالاتهما في البحث عن قواعد التشابه والمثيل المعرفي للراهن الثقافي العربي

كانت صحيفتا «الفلق» الزنجبارية و«الاتحاد» الإماراتية وعاء حافظا لإنتاجيهما العلمي المنشور

أرجأتُ الكتابةَ كثيرًا عن المُثقفين العُمانيين الرائدين الأستاذ علي بن محمد الجمالي وأخيه أحمد بن محمد الجمالي -رحمهما الله- ريثما أتمكن من الحصول على قَدْرٍ أكبر من إنتاجهما الأدبي والثقافي وربما وثائقهما، ولكن لعدم تمكني من ذلك دفع بي شغفي لأهميتهما التاريخية إلى تناولهما مجملا بما تيسّر لي من معلومات في حلقة واحدة رغم أنهما مختلفان في المكونات والمعطيات الحياتية والإنتاج، وربما ظروف أحدهما لا تتحد مع الآخر للفارق الزمني بينهما، فالأستاذ علي الجمالي كما وجدت في بعض وثائقه عمل سكرتيرا لجلالة السلطان سعيد بن تيمور وارتبط بمراسلات وعلاقات ودية كثيرة مع بعض مشايخ عُمان وزعمائها في فترة مفصلية من تاريخ الوطن.. علاقة تمتد من زنجبار التي هاجر إليها في بواكير شبابه الأول إلى مسقط التي كان فيها مقربا من جلالة السلطان سعيد، وإليه توجه المراسلات وتنشد المطالب.

أمّا الأستاذ أحمد الجمالي فقد كان من بين طلبة البعثة التعليمية الأولى التي تلقت التعليم في بغداد سنة 1937م، ولدى عودته عمل في حقل التعليم خلال الفترة (1942- 1948) مدرسًّا فمديرًا للمدرسة السعيدية.. هذه المدرسة التي حوت نخب البيئة المسقطية في منظومة تعليمها فكان فيها من زملائه السيد ثويني بن شهاب، والسيد فيصل بن علي وتوفيق عزيز وناظم علي صادق والشيخ عبدالله بن سيف الكندي كما أنه عاش في إمارة أبوظبي ردحًا من حياته في الفترة التي كان فيها صديقه عبدالله الطائي يعمل في دائرة الإعلام والسياحة، ويبدو أن حضوره قد اقترن به فقد كانا في المدرسة السعيدية مدرسين، وإثر عودته وتولي الطائي وزارة الإعلام والسياحة وجدنا له في صحيفة الوطن الصادرة يوم 4/2/1971 خبرًا عن إلقائه لمحاضرة ثقافية مهمة جاء فيه: «افتتح نادي عُمان موسمه الثقافي مساء 18 من يناير 1971 بمحاضرة تحت عنوان تحية العودة ألقاها أحمد الجمالي بحضور معالي عبدالله بن محمد الطائي وزير الإعلام والشؤون الاجتماعية والعمل الذي قدم كلمة تفاءل فيها بروح التطور الذي يشمل كافة أندية البلاد وأشاد بدور الأستاذ الجمالي في كفاحه المستمر بالمهجر، وشهدت المحاضرة حضورًا جمع عددًا من الوجهاء والمثقفين».

وفي العهد الجديد وتولي المغفور له صاحب الجلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد عاد الأستاذ أحمد الجمالي كغيره من أبناء شعبه إلى وطنه وعُيّن وكيلا لوزارة ما كان يُعرف بوزارة المعارف إبان كان الشيخ سعود بن علي الخليلي وزيرًا لها، كما عُيّن سفيرًا مفوضًا في عديد من الدول والهيئات العالمية (كالأمم المتحدة)، وأسهم بفاعلية في النهضة الجديدة في عهد السلطان قابوس لحين وفاته.

وفي هذا السرد المبدئي سنتناول ما وجدناه في حياة هاتين الشخصيتين الثقافيتين المهمتين اللتين عرفناهما من خلال دراساتنا للأديب عبدالله الطائي والشيخ هاشل بن راشد المسكري، والصحافة العُمانية المهاجرة والمقيمة ومدونة الوثائق العُمانية التي وقفنا عليها، ففي مراسلات هذين الشخصين البارزين أصداء حضور علمي واجتماعي وإداري وعدا ذلك لم يتوفر كثيرًا لنا من مكونات سيرتهما، ولا ترجمتهما لعدم الإحاطة بهما في الأدبيات والتراجم الثقافية، ولا في معاجم أعلام عُمان، ولا في أي وسيلة تدوينية معينة، وهما بالتأكيد يستحقان التدوين والكتابة والكشف والمقاربة التاريخية، فمن سيرتيهما يمكن الوقوف على معطيات عديدة ومكونات وأحداث لها قيمتها في ذاكرة الوطن العُماني بأسره في مرحلة حياتهما، لهذا سنعتمد على ما وجدناه ونقدّمه للتاريخ والمعرفة، وفتح أبواب الكتابة عنهما بدراسة موسعة تتناول عصريهما وتنقلاتهما وأسرتهما ومحيطهما الاجتماعي وعلاقاتهما الاجتماعية والثقافية والإدارية بصناع القرار في تلك الفترة الفارقة من التاريخ العُماني، وأيضًا تتناول إنتاجيهما المخطوط والمنشور ففيه قدر من الفائدة.

أولا: مقالات الأستاذ علي بن محمد الجمالي في صحيفة «الفلق» الزنجبارية

تُعَدُّ مقالات الشيخ علي بن محمد الجمالي قطين زنجبار في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين واحدة من المقالات المبكرة، فقد كان مشاركًا نشطًا في الصحف الصادرة هناك وكاتبًا فيها، فبجانب صحيفة «الفلق» وجدنا له في صحيفة «الأمة» الصادرة المقالات الآتية:

– «ولي عهد زنجبار» مقال لعلي بن محمد الجمالي، الأمة، ع 51، 19 / 11 / 1935م.

– «لا يمكن حبّك كلفًا، ولا بغضك تلفًا»، مقال لعلي بن محمد الجمالي، الأمة، ع 111، 2 / 3 / 1937.

– «حول مقتل صديق في العراق، طاعة الجيش شرطٌ أساسي لسلامة الدولة»، مقال سياسي لعلي محمد الجمالي، الأمة، ع 137، 14 / 9 / 1937.

وكان الأستاذ علي بن محمد الجمالي كما جاء في خبر نشرته صحيفة «الفلق» الزنجبارية ص 4 من عددها الصادر يوم السبت 19 ربيع الثاني 1357، الموافق 18 من يونيو 1938» قد سافر من زنجبار إلى مسقط يوم 14 من يونيو 1938 على متن الباخرة «كرنجه»، وقد قَدِم إلى زنجبار عام 1935م بناء على ما وجدنا له من حضور ثقافي في صحيفة الأمة، وأقام له السيد سيف بن حمود بن فيصل عصر يوم 13 يونيو – حفلة شاي وداعية حضرها زملاؤه في صحيفة الفلق وبعض الأدباء والأعيان من مثل: الشيخ علي بن ناصر الإسماعيلي، وعبدالرحمن بن محمد الرواحي، وألقى في حفل وداعه القاضي عمر بن أحمد السميط أبياتًا ارتجالية قال فيها:

ما عرفنا معنى الجمالي ولكنْ

سوف ندريه عندما نترحلُ

وكذا النجم ليس يطلبُ إلا

حين يدلو من الغروبِ ويَأَفلُ

قارنَ اليُمْن والسعادة مَسْعا

ـكَ ولا زالَ بالنجاح مكللُ

أمَّا صحيفة «الفلق» فقد أحصينا ما وجدنا له من مقالات فيها في العناوين التالية:

1- «المال والنون» مقال دينيّ إرشاديّ وعظيّ يستشرف أفق التصرف بالمال باعتباره وسيلة حياة وطريق سعادة، وقد، نشر في «الفلق» يوم 12 ذي القعدة 1356 هـ، الموافق للسبت 15 من يناير 1938، ومما جاء فيه ص1 « لو تروّى غنيًا وهو في سلامة من عقله وبدنه في مآل المال الذي أفنى عمره في جمعه وبدنه، وأضاع حياته في احتجابه، ونصّب نفسه في حراسته حين يقع في أيدي أبنائه وورثته الجهلة بعده، أرى أنه عصى الله تعالى، وأساء للإسلام وقومه ووطنه ونفسه..».

2- «صورة مصَغّرة» مقال سياسي استنهاضي هدفه تقريب الصورة، ورسم أبعاد المشهد الفلسطيني وهو يرزح تحت أفاعيل الاستعمار الإنجليزي، وقد نشر في «الفلق يوم السبت العاشر من ذي الحجة 1356 هـ، الموافق 12 من فبراير 1938هـ، ومما جاء فيه ص 2 «دماءٌ تسفك، وأرواح تزهق في الطرق والشوارع، وفي رؤوس الجبال، وفي بطون الأودية بالقنابل والقذائف التي تمطرها الطائرات، وبنيران المدافع والبنادق.. أولئك إخواننا في النصر والدين واللغة.. أولئك عرب فلسطين».

3 – «أمس واليوم» مقالٌ سياسيٌّ يقرأ الحالة الحضارية في الوطن العربي، ودوله ترزح تحت وطأة الاستعمار وذلك في مقارنة حضارية يسودها روح الاستنهاض، وقد نشرته الفلق في صدارة صفحتها الأولى من عددها الصادر يوم السبت 27 من ربيع الأول 1357هـ، الموافق 28 من مايو 1938 هـ، ومما جاء فيه من تشخيص حالة العرب «كنا أمة تسكن الصحراء، وتلوذ بالجبال، تقبع في المغارات والكهوف، وتركض وراء المواشي، وتكون اليوم هنا وغدًا هناك.. تبلع الضب واليربوع، وتشرب الماء النتن، وتقتل فيما بينها لأتفه الأسباب، تعبد الأوثان، وتمجد الخرافات.. فلما أراد الله إصلاح أمرنا بعث فينا ومنَّا رجلا وأنزل عليه كتابه، وأمره أن يدعو الناس إلى اتباعه، فما هو إلا دون القرن حتى صرنا أمة تدين لنا اليوم الدنيا بما فيها من علوم وفنون وآداب بعد تلك الحالة الذميمة.. أمَّا اليوم فلا غرابة أن نلنا من عدونا من رفس وركل…».

4- نصُّ الكلمة التي ألقاها علي بن محمد الجمالي في اجتماع «يوم فلسطين في زنجبار» الذي عقد يوم 26 من ربيع الأول 1357هـ، وقد أبان فيها – بشرح مطوَّل -نشرته الفلق في صفحة كاملة من عددها الصادر يوم السبت 5 من ربيع الثاني 1357 هـ الموافق للرابع من يوليو 1938- تاريخ فلسطين ومكانتها في نفوس المسلمين، ووجوب نصرتها، والوقف مع أهلها مستظهرًا قيمتها الدينية والتاريخية والحضارية، وعرج إلى أفاعيل المستعمر بأرضها، ومحاولة تهويدها، وغلب على عباراته الاستنهاض وشحذ الهمم وإيقاظ النفوس وتنويرها، وقد وصف هجرات اليهود إليها بالقول «وإذا ببريطانيا تفتح لليهود من جميع الأنحاء والآفاق – باب الهجرة إلى فلسطين، وإذا باليهود يتدفقون في فلسطين كالسيل العرم، يقاومون العرب وينافسونهم، ويأخذون عليهم مسالك الرزق، ويسعون بشتى أنواع المكر والخداع في امتلاكهم أراضيهم وما ملكت أيديهم. لا بل أخذوا يظهرون بمظهر السيد المطلق صاحب البلاد، ويعلنون في كل مناسبة، وغير مناسبة أنهم أصحاب الحق الشرعي في فلسطين..».

5- مقالٌ تأبينيٌّ في الشيخ راشد بن سعيد الشكيلي، مرسل من (مسكد) نشرته الفلق بتاريخ السبت 3 رمضان 1359هـ الموافق 5 من أكتوبر 1940م، الصفحة الثانية، وقد جاء فيه « قرأت في «الفلق» الغرّاء نعي الشيخ راشد بن سعيد الشكيلي، فقلت رزءًا جديدًا نزل بالعرب في شرق إفريقيا عامة، وفي ممباسة خاصة.. عرفت الفقيد فعرفت فيه التواضع الجَمْ والمرح اللذين يشيعان في نفوس جلسائه البهجة والسرور، وعرفت فيه المحبة الصادقة والإخلاص الرائع والولاء العظيم لصاحب العظمة السلطان خليفة بن حارب وللأسرة السعيدية المالكة.. كان الفقيد شديد الإحساس بما يسيء إلى كرامة قومه يغضب لذلك أشد الغضب، ويتمنى أن تضافرت جهود ذوي اليسر منهم إلى جعل العرب في زنجبار وممباسة أسمى مقامًا وأعزَّ نفرًا، وإني أرجو بعد أن عرفت فيه هذا الشعور النبيل وهذه الأمنية السامية أن يكون قد خصص بعد وفاته قسمًا من تركته الوافرة لإصلاح أمور إخوته وبني جنسه العرب في تلك الربوع، فيكون بذلك قد مكَّن لأمنيته السامية أن تسعى لتبرز في الوجود.. رحم الله راشدًا رحمة واسعة..».

ولم يقتصر اهتمام الفلق بالأستاذ علي بن محمد الجمالي على نشر نتاجه الفكري وبيان ما يقوم به أثناء إقامته في زنجبار، بل تابعت حضوره ونشاطه في مسقط خاصة أنه شغل وظيفة مرموقة في البلاط السلطاني وصار سكرتيرا للسلطان سعيد بن تيمور، لهذا أبرزت حراكه الاجتماعي والسياسي، فكان مراسلها الخاص في مسقط «المسقطي» يقدم للفلق أخباره فتنشرها، ومن بين ما وجدناه في صفحاته ما يلي:

1- خبر مقتضب بوصوله إلى مسقط بعد مغادرته زنجبار، وقد نشرته في عدد من الفلق لم يتسن معرفته رقمه ولا تاريخه لضبابية خط الصحيفة المنشور فيها.

2- تعزيته في وفاة والده الشيخ محمد بن علي الجمالي، وقد نشرته يوم السبت 22 من ذي الحجة 1363هـ، الموافق 5 من ديسمبر 1944م بقولها: «نعت أخبار مسقط الشيخ محمد بن علي الجمالي، فنعزي فيه المشايخ علي، وعبدالرضا وإخوتهم راجين للفقيد العفو والغفران، ولهم الصبر والسلوان ».

3- خبر سفره للهند، وقد نشرته يوم السبت 15 من ربيع الأول 1363 هـ، الموافق 11 من مارس 1944 م بقولها «أمَّا الشيخ علي بن محمد الجمالي رئيس الديوان السلطاني، فقد سافر إلى الهند خلال هذا الأسبوع، وربما صديقنا الجمالي قصد من السفر الاستجمام والراحة على أثر انتهائه من دعواه المقدمة بصفته ناظرًا للأوقاف في مسألة أثرين ماء فلج «وسمان» ببوشر… وهكذا نرى الجمالي يسافر بعد ذلك التعب العقلي والجسماني».

4- خبر إقامته وليمة عشاء فاخرة للسلطان سعيد، وقد نشرته «الفلق» وقد نشرته يوم السبت 23 من جمادى الأخرى 1365 هـ، الموافق 25 من مايو 1946 بالنص التالي: «أقام حضرة الشيخ علي بن محمد الجمالي السكرتير الخاص لجلالته والقائم بأعماله النيابية في غيابه وليمة عشاء فاخرة للسلطان بمنزله المنيف حضرها ستة عشر شخصًا من الصفوة المختارين ليلة 13 من أبريل 1946هـ».

ثانيًا: مقالات الأستاذ أحمد محمد الجمالي في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية

لم يكن الأستاذ أحمد محمد الجمالي ببعيد عن نشاط أخيه الثقافي، فقد كان كاتبًا وقارئًا ومثقفًا متابعًا، وقد تبدَّت لنا مقالاته في مرحلة حياته المختلفة وخاصة مرحلة إقامته في دولة الإمارات العربية المتحدة شأنه شأن بقية العُمانيين الذين تركوا وطنه وأثاروا الاغتراب للظروف القاهرة لوجود مناخات أكثر راحة لهم، ويبدو أنها كانت مؤثرة لدرجة أنها أفضت بنتاج ثقافي وجدناه في صحيفة «الاتحاد» الصادرة عن مديرية الإعلام والسياحة بحكومة أبوظبي.

تجسَّدَ حضورُ الأستاذ أحمد بن محمد الجمالي المعرفي فيما كان ينشره من مقالات مبكرة في المهاجر العُمانية، فالبواكيرُ الأولى التي وقفنا له عليها له تعكس قلمه السيّال المتدفق عبر مقالات نشرتها له، وبالذات في صحيفة «الفلق» الزنجبارية، فقد عثرنا على مقاله المبكر المعنون بـ«الخطابة» المنشور بتاريخ السبت 5 من ذي القعدة 1256 هـ الموافق للثامن من يناير 1938م، ويبدو أنه عاضد توجهات أخوه الأستاذ علي بن محمد الجمالي المقيم وقتها في زنجبار والذي وجدنا له أيضًا مقالات عديدة في الصحيفة ذاتها،وسائر الصحف والمجلات الزنجبارية، وبعضها موقعة بتواقيع مستعارة، وقد استعرض الأستاذ أحمد الجمال في مقاله النظري موضوع أثيري سائد في ذلك الوقت ألا وهو «الخطابة» باعتبارها جنسًا أدبيًا مبينًا مفهومه وأنواعه، وأطواره، وتأثيراته، وطرائق أدائه، ومحددًا معالمه في مختلف الثقافات والأمم، القديمة منها والحديثة بدءًا من العصر الجاهلي مرورًا بالعصور الإسلامية والعباسية وانتهاء بالعصر الحديث، حيث خطب المساجد والمناسبات الدينية، وفي ذلك يقول ص 2 مبتدئًا بتمهيد يثير فينا لواعج الانتباه والإثارة ليلفت أنظارنا ومشاعرنا عبر أسئلة استفسارية تقع أجوبتها في صميم مقاله الذي سيتناوله من كافة أطرافه فيقول ص 2: «كلنا يعرفُ ما هي الخطابة؟ ولكن يستعصي على البعض معرفة الأسباب الداعية لها، وما هو الداعي لقيام الخطيب أمامنا؟ وهل القصد من وقوفه أمامنا تعوَّد لسانه على الكلام؟ أم أن هناك قصدًا خفيًّا يبتغيه الخطيب؟ هذا ما يجهله أكثرنا».

وتكتمل شروط المقالة عند الجمالي في هذا المقال المنشور في الصفحتين الثانية والثالثة، فهو مقال مركز متماسك مبني على صياغات فنية قوية، وأسلوبه سلس طيّع، يستشهد فيه بالشعر والحكم ومقولات العرب وآرائهم وقصصهم، ومن بين ما أورده فيه قوله ص 2 « والشعراء يقرنون الخطابة بالسيف في إعلاء كلمة الحق، وحمل النفوس الجامحة على أن تعود إلى السكينة والنظام، وهذا ما أحدهم يسمي السيف خطبة حيث يقول:

السيفُ أصدق إنباءً من زباد خطبةٍ

في الحرب إن فاتتْ يمينكَ منبرا

وآخر يُسَمّي نفسه يوم يضرب بالسيف خطيبًا:

إذا لم أكنْ فيكم خطيبًا فإنني

يسبقني إذا جدَّ الوغى لخطيبُ.

وعن الخطابة في العصر العباسي يقول ص3: «استمرت الخطابة في أول عهد الدولة العباسية بمنزلتها التي بلغتها في صدر الإسلام، ومن بلغاء الخطابة في هذا العهد: أبو جعفر المنصور، والمأمون بن الرشيد، وجعفر بن يحيى، وشبيب بن شيبه، حتى إذا اختلط العرب بالعجم، وأصبح الموالي يقلدون الجيش وولاية الأعمال ساء حال الخطابة، فاغبر وجهها، وبلي ثوبها، وتضاءل صوتها».

وفي الجانب الآخر من نشاطه الثقافي يعدّ الأستاذ أحمد بن محمد الجمالي من الكُتاب الأوائل في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، فقد وقفنا له في الأعداد السبعة والخمسين المبكرة على ثلاثة مقالات هي:

1- السياحة الداخلية، وقد نُشِرَ في العدد الثالث الصادر يوم الخميس 6 من نوفمبر 1969م، ص 5، وهو مقالٌ أبان فيه الأستاذ الجمالي عن مفهومه للسياحة في إمارة بدأت تخطو خطواتها الأولى في سلم التطور الحضاري، ومساقات التنمية، وقد بدأه بالقول: «درج الناس على فهم كلمة سياحة بأنها تعني أول ما تعنيه شواطئ رملية بيضاء تزدحم تزدحم بأجسام الفاتنات، أو فنادق عالية البنيان تصدح فيها الموسيقى صاخبة حتى الساعات الأخيرة من الليل

2- كيف نؤمِّن مستوى تعليميًّا لطلابنا، وقد نشر في العدد الثاني والعشرين الصادر يوم الخميس للثاني من أبريل 1969م، ضمن عمود الصحيفة الافتتاحي «وقفة الأسبوع»، وهو مقال توعوي يطرح الحلول التي من شأنها توفير تعليما متطور الذي، وقد بدأه بالأسئلة التالية:

3- «عندما تتحول عبقرية الإنسان لتدمير الإنسانية، نشر في العدد الخامس والعشرين الصادر يوم الخميس 23 من أبريل 1970، ص 4، وهو مقال طويل نشر في صفحتين من صفحات الجريدة، ويندرج موضوعه في النقد الاجتماعي واصفا حالات طارئة ونماذج معينة من حالات الشباب الجامعي أبان فيه الأستاذ الجمالي عن فكره المتقد ورغبته الطموحة إلى بناء الإنسان السوي المتسم بالعمل والرقي والاضطلاع بالإنتاجية، كما تناول فيه ما يعتريهم من حالات هو يراها غير متناسبة مع روح الحياة وتاريخ المجتمع، وقد بدأه بأسئلة نقدية، وانتهى فيه إلى تشخيص لما يعتور الشباب من حالات شائنة، فهو يقول «شبابنا المتعلم يعاني الآن تمزقًا ظاهرًا في نواحي تفكيره وتصرفاته، وقد يكون له العذر؛ لأنه يعيش في فراغ كبير، فراغٌ فكريٌّ وفراغ عملي لقد قنع بما حصل عليه من معلومات مدرسية، وما نال من شهادات جامعية، فوقف في قارعة الطريق يلتقط أنفاسه اللاهثة، وكأنما صنع معجزة يطلب من السائرين أن يحنوا له هاماتهم احتراماً وتقديراً؛ لأنه حصل على ذلك النصيب الباهت من المعرفة، ينتظر أن تفتح له الأبواب المغلقة ليدخلها على الرحب والسعة لتبوأ مكانه مختالا كالديك الرومي، لقد نسي هؤلاء الشباب المتعلمون أن الحياة ليست كلَّها شهادات ولكنها تجارب وأخلاق أيضًا.

وينتهي الكاتب في مقالاته إلى توجيه نقده الاجتماعي اللاذع للنموذج من الشباب الذي خصه بمعالجة قضاياه قائلا: «شبابنا وشاباتنا سادرون ينتظرون آخر صرعة تأتيهم من أوروبا «تلك أمانيهم» لأنهم يعيشون في فراغ مطبق لقد نضبت منهم تلك الشحنة المقدَّسة التي تدفعهم إلى صنع المعجزات، وبالتالي بهتت نفوسهم، وخارت عزائمهم؛ لأنهم انفصلوا عن ماضي أمتهم، وكفروا بمستقبلها ليعيشوا يومهم.

لم تكن مقالات الأستاذ أحمد بن محمد الجمالي بكثيرة ولكنها مهمة في إطار الكتابة المبكرة وهي ذات الصبغة الاجتماعية والتربوية تتسم بسمات نجملها فيما يلي:

1- إن موضوعاتها هي من نبض المجتمع وحراكه، وقد حددها وشخصها وقدم حلول لقضاياها كقضية أوهام الخريج الجامعي على سبيل المثال لا الحصر.

2- إنه سخر مقالاته لمعالجة قضايا جوهرية تخصُّ المجتمع والتنمية والتطور كالتعليم والسياحة والتراث والشباب بغية وضع اللبنات الأساسية التي من شأنها وضع التطور في مسارات القوة والازدهار

3- أنه ينطلق في مقالاته من مهامه الوظيفية الموكلة إليه إبان عمله في إدارة الإعلام والسياحة بإمارة أبو ظبي، بزمالة الأستاذ عبد الله محمد الطائي؛ ولهذا تبرز مظاهر الخصوصية في مقالاته فهو يولي عنايته بكل ما يمس الشخصية الإدارية والاجتماعية من معطيات ومهام، ويحاول توجيهها توجيهًا سليمًا منطلقًا من تخوم خبرة وتجربة مميزة.

4- إن مقالاته تنمُّ عن وعي ثقافي مبكر منبعه قراءاته المستفيضة في الفكر العالمي، فهو يستشهد في مقالة الثالث بفولتير و«ديدروا» و «مونتشيكيو» ففي مقاله الثالث يتمثل أدوارهم في تطوير الفكر إنساني وبث الوعي.

5- تحيط حياة الأستاذ أحمد الجمالي بمسارات المشاركة والتفاعل والانخراط في نهضة عُمان الحديثة فور رجوعه إلى وطنه وعمله في مؤسسات الدولة وانتهاء بدوره في التنمية كأحد رجال المرحلة السبعينية من تاريخ وطننا العُماني، وهو لا شك أسهم بكل ما لديه وبذل جهدًا من واقع خبرته ومعرفته بأمور الإدارة والمؤسسات.

هذا هو الأستاذ علي بن محمد الجمالي وأخوه الأستاذ أحمد الجمالي مثقفان طليعيان ووجهان مستيران ثقافيًا ومعرفيًا حفلت بهما ذاكرتنا العمانية في مرحلة النصف الأول من القرن العشرين وما بعدها، وكانا اسمين متصلين بالمجتمع لهما حضورهما في وثائق المرحلة اجتماعيا وإداريًا وثقافيًا، وقد قدما ما استطاعا تقديمه مواكبة لمتطلبات المرحلة التنموية، والأمل -في إخراج مزيد إنتاجهما- معقود على أسرتيهما الكريمتين اللتين لا شك أنهما تحويان وثائقهما ومراسلاتهما وإنتاجهما الثقافي.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/حضور-مبكر-لعلي-وأحمد-الجمالي-في-الكتابة-والصحافة-والإدارة