أنساغ .. قهقهة وانتحاب وليس ضحكا أو بكاء

عبدالله حبيب

(اعتبارا من هذه المادة، سيتغير الموعد الأسبوعي لنشر حلقات “أنساغ” من يوم الأربعاء إلى يوم الاثنين)

(1)

–أ–

طريقة إميل سيوران في التعامل مع مرض الأرق المزمن الحاد (أي الاستيقاظ كامل الليل قراءة وكتابة وتفكيراً وتأملاً والخلق هجيع نيام، ثم النوم لما تيسَّر من النهار والناس في غيِّهم قُعودٌ قيام) لَحَلٌّ تهكُّميٌّ لاذعٌ ظريف، لطيفٌ كئيب خفيف، شقيٌّ عمليٌّ شفيف لا يروم أن يؤذي الليل ولا يبغي أن يضيم النهار؛ فالمرء، في انتقام من كافة الحقائق العلمية والطبية التي يتزايد إثباتها ليس في ضرورة النوم فحسب، ولكن كذلك في الأفضليَّة الصحيَّة للنوم في الليل على الرقاد في النهار في استجابة لقوانين الطبيعة وإفرازاتها مختلفة المواقيت، لا يزال يتشبث -أي المرء- بأذيال عمر الخيَّام المنسدلة على الضوء والظلمة معاً: “ما أطال النوم عمراً/ ولا قصَّر في الأعمار طول السَّهر”.

ولكن يبقى أن مشكلة ذلك الحل “السُّيوراني” أنه لا يصلح للجميع ممن ابتلوا بعلَّة الأرق المزمن الحاد حتى في زمن الأقراص الطبيَّة المنومِّة القويَّة؛ وذلك لاعتبارات تتعلق باختلاف الشيفرات الجينيَّة وتباين المعادلات الفيزيو-كيمايئيَّة وردود الفعل، والاستعدادات العصبيَّة، وإمكانات التأقلم مع الدواء في حساسية الليل والنهار بين أمشاج بني آدم. لكن ينبغي الاعتراف أن في ذلك الحل الساخر الفاقع الذي توصل إليه سيوران (من باب التنكيل الفادح والنكاية الباهظة كما هو واضح) الكثير من الألم، والمفارقة، والسُّقم، والدعابة على طريقة المضحك المبكي بأقصى الحدود والاحتيالات الممكنة. وفي الأمر تتجلى تراجيديَّة شكسبير بطريقة مفارِقة هي أقرب إلى الفكاهة الاضطراريَّة التي لا تتخلى، مع ذلك، عن السؤال الوجودي في “هاملت”: “أن نكون أو لا نكون: ذلك هو السؤال”.

–ب–

لكن، وفي كل الأحوال، يبقى الفناء بسبب الإصابة بمرض الأرق المُزمن الحاد خيرٌ ألف مرة من البقاء في الفانية بداء النوم العميق العُضال (وفي البال دوماً امرؤ القيس في ليله السرمدي:

“وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلتُ له لما تمطَّى بصُلبه

وأردف أعجازاً وناء بِكَلكَلِ

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ

بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ

فيا لك من ليل كأن نجومه

بكل مُغار الفتل شُدَّت بِيَذْبِلِ

كأن الثُّريا عُلِّقت في مَصامِه

بأمراسِ كِتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ”، “المُعَلَّقة”).

(2)

الاكتئاب أفقيٌّ، والحزن عموديٌّ، والميلنخوليا إبداعيَّة (والرَّمادي، طبعاً، هو الميزان الراجح في الشأن). وما بين كل ذلك تراوح الكتابة وتترنح. ولهذا فإن المقولة الشكسبيريَّة في “هاملت” (الواردة في الشَّذرة أعلاه) تظل ماثلة دوماً للروح وللمصير.

(3)

منذ البداية، كانت المعركة ضد الأغبياء قصيرة وحاسمة وبخسائر طفيفة فحسب. أما المعركة ضد السُّذَّج فإنها ستطول أكثر مما ينبغي وبعدد كبير من الخسائر (وكم يخشى المرء أن يكون بعض من أعز الأصدقاء على رأس قائمة الخسرانات الحزينة التي لا مفر ولا مناص منها لبالغ الأسف).

(4)

ليس هناك حوار بينه وبين ذاته. ليس له ثمَّة حوار مع الحاضر. يعجز عن استشراف المستقبل. روحه لم تتعلم سوى الماضي غير التام (pastimperfect).

(5)

يوم كانت الأسئلة وجيهة، لم أطمئن إلى الأجوبة. أما اليوم فلم أعد أثق حتى في الأسئلة.

(6)

لا أستطيع أن أفهم من يقول: “لقد سامحتُ، لكنني لن أنسى”. لا أستطيع لأنني لو مضيت في القول أكثر من هذا فلن أنسى ولن أسامح نفسي التي أنا معنيٌّ أولاً وأخيراً أمامها — وليس أمام أي أحد آخر — إن بالصفح أو بالانتقام.

وكفى.

(7)

لو كان قد تبقى في صدري ضلع واحد فقط منذ احتضاننا الأخير لكنتُ قد وضعته تحت قدميك كي تمشي فوقه نحو النسيان.

(8)

ماذا يعني أن يبكي المرء في الظهيرة؟

هذا معناه انه قد تناسى عن أن يبكي في الليلة الفائتة. ولهذا فإن عليه أن يبكي في هذه الظهيرة بصورة مضاعفة تكفيراً عن خطايا روحه وعينيه وفؤاده.

(9)

اعلمي أن سرَّنا الكبير ليس إلا فضيحة صغيرة مؤجَّلة.

(10)

الضحك والبكاء محايدان (حالتان هما من الميوعة بمكان بحيث لا تستطيعان العبور على “جسر” نيتشه الحَرِج والوَعِر نحو ما هو أسمى)، أما القهقهة والانتحاب فليسا محايدين على الإطلاق.

الحياد مقيت وبغيض في أي شيء، في كل شيء (خاصة في الأشياء التي يتبدَّى فيها باعتباره الأكثر رزانة ورجاحة)؛ لأن المرء حين يكون محايداً فإنه يكون قد تخلى عن قلبه وباع روحه للشيطان بأسوأ مما فعل “فاوست” غوته.

الحياد (و”الموضوعية” على نفس الدرجة وذات القدْر) هو أن تنظر إلى العالم بقلب من ثلج، وأن تقول للقاتل: “إنني أفهم وأتفهم جيَّداً ما فعلتَ، ولكن على تصويبك أسلحتك الغبيَّة والذكيَّة أن يكون أكثر دقَّة في المرة القادمة، من فضلك ولو سمحت”، وأن تقول للمقتول: “لا عليك، فالأخطاء تحدث، وهي من طبيعة الحياة والإنسان، والله سيعوِّضك في الآخرة”.

الحياد هو استماعك لزعيم سياسي “داهية” (عربي خاصةً) قائلاً انه لم يكن أمامه من خيار سوى تقديم تلك التنازلات الفظيعة بحق كرامته وحق تاريخ شعبه من باب الموضوعية، أما أنت فلست مضطراً لتقديم أي تنازل لأنك غير “موضوعي”.

ومن الأفضل ألف مرة أن تكون متطرِّفاً، في نصرة العناد، والكبرياء، والمكابرة، والتهور (بل وأحياناً حتى الحماقة والطيش والرعونة) عوضاً عن أن تكون “محايداً” و “موضوعيَّاً” في مؤازرة البطش والعسف، والتماس الأعذار للطغاة، وتبرير الجرائم، وممالأة السَّفلة والأنذال.

عليك دوماً أن تنحاز إلى القتيل؛ إلى القهقهة و/أو الانتحاب وليس إلى الضحك أو البكاء. عليك دوماً أن تقف في صف الذين بهم غضبٌ ونَزَقٌ، وليس في حزب “الموضوعيين” و”المحايدين”.

* عبدالله حبيب كاتب عماني مهتم بالسينما ومؤلف كتاب “مساءلات سينمائية”.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أنساغ-قهقهة-وانتحاب-وليس-ضحكا-أو-بكاء