محمد بن سليمان الحضرمي
رَفعْتُ النسخة المصورة، من مخطوطة المُصحف العُماني الشَّريف، في المَرْفَع الذي يبدو على شكل X، تلك المخطوطة التي خطَّها الشيخ عبدالله بن بشير الحضرمي، في مسجد «مُوَدْ» قبل 286 سنة هجرية، وفتَحْتُها على أول صفحتين لسورتي الفاتحة والبقرة، فأشرق بجلال كلام الله، وجمال الخط العُماني.
أخذتُ أمعِنُ النظر في زوايا المسجد، الواقع في أطراف حارة الوادي الغربية بنزوى، والمُغلق منذ سنتين بسبب جائحة كورونا، جدرانه عالية الارتفاع، والنوافذ استُبْدِل مكانها بأجهزة التبريد الحديثة، والأبواب الخشبية بالألمونيوم، وفي الوسط تنتصب أسطوانتان كذراعين ضارعين باتجاه السماء، والمسجد باق على هيئته الأولى.
هنا في هذا المسجد الشريف، أنهى الشيخ عبدالله بن بشير الحضرمي للمرة الثانية، كتابة المصحف الشريف؛ يوم الأحد لأربع ليال بقين من ربيع الأول: 1157هـ/ أبريل 1744م، والمحفوظ اليوم في مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بالسيب، أما المرة الأولى فكانت قبل هذا التاريخ بتسع سنين، انتهى من كتابته يوم الإثنين، 13 ذي القعدة عام 1148هـ، وتحتفظ به دائرة المخطوطات العمانية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب.
حدثتني نفسي وأنا في المسجد، أن أمتطي خيول الخيال، علَّها تعدو بي إلى ماضي الزمان بثلاثة قرون، لألتقي بذلك الشيخ الخطاط، وأراه يُحبِّر المصحف بتشكيلات ووقفات، وحركات وسكنات، وعلامات إعراب، مضيفاً عليه علامات تفسيرية لقراءات القُرَّاء السَّبعة المتواترة، ويضع له خارطته الخاصَّة به، وأسأله عن عبقرية ابتكاره لهندسته الخطية في كتابة هذا المصحف، الذي لا يوجد له مثيل في العالم، وأكرِّر: لا يوجد له مثيل في العالم، لذلك سأحاول اللقاء بكاتبه، وها هو يترآى لي قادماً من غياهب الغيب، حاملاً أقلامه وقارورتين؛ الأولى للحبر الأسود، قطراته مكثفة من الكُحْل أو حِلكَة الليل، والثانية للحبر الأحمر، يسيل في الأوراق كالعَنَمِ، أو العَنْدَمِ، أو دَمِ الغَزال، لينمِّق به مصحفه الجميل، سطوره تفصح عن عبقرية سكبَها لؤلؤاً منثوراً في الصفحات، والآيات بدت كالذهب في سبائك الفضة، وفي هامش كل صفحة، قراءات كبار القرَّاء السبعة؛ حمزة والكسائي وابن كثير، وابن عامر وأبو عمرو، ونافع وعاصم، وأسماء أخرى يتكرر ذكرها في كل الصفحات، حتى تبلغ 480 صفحة، وهو عدد صفحات المصحف.
لكن الشيخ لم يشعر باقترابي منه، فهو في ضباب أبديته لا يَرَى إلا مصحفه، يخطه بيده المباركة، ويضع الكلمات في موضعها، بحيث تتناسب مع بدايات كل سطر، ويُزيِّنه بالرُّموز الخاصة بعلامات التجويد، التي تبلغ 90 علامة، تتناثر في صفحات المصحف، كالنجوم في صفحة السماء، فكشفت كتابته إعجازاً هندسياً في الخط؛ إذ الحرف الأول من السطر الأول في الصفحة، هو ذاته الحرف الأول من السطر الأخير في ذات الصفحة، والحرف الأول من السطر الثاني، هو ذاته الحرف الأول في السَّطر ما قبل الأخير، وهكذا تسير الكتابة في تتابع هندسي عجيب، كل صفحة تتألف من 15 سطراً، الحرف الأول من أول كلمة في بداية السطر الثامن، السطر المنتصف، هو ذاته الحرف الأول من أول كلمة في بداية السطر الثامن من الصفحة المقابلة، ويتكرر النهج في الصفحة المقابلة لأوائل الحروف؛ أول حرف في أول كلمة من أول سطر، هو ذاته أول حرف في أول كلمة من آخر سطر، والحرف الأول من أول كلمة في السطر الثاني يوافق الحرف الأول في السطر ما قبل الأخير، مع تمييز تلك الحروف بالحبر الأحمر.
و(كل جزء يتكون من ثمان ورقات (16صفحة) لا تزيد ولا تنقص، وبداية كل جزء مع السطر الأول للصفحة اليسرى، وكل جزء يتكون من 240 سطراً، وكذلك عدد أوراق أجزاء القرآن الثلاثين (240) ورقة، وهي مجموع حروف قوله تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) النساء: 166، بحساب الجُمّل، ومجموع العَدَدَيْن (480)، هي عدد صفحات أجزاء القرآن الثلاثين).
ويتوِّج الشيخ عبدالله كل سورة بعدد الآيات والكلمات والحروف، فالبقرة وهي أطول سورة في القرآن، يبلغ عدد آياتها 286 آية، وهي مدنيَّة النزول، وعدد كلماتها: 6111 كلمة، وعدد حروفها: 25.500 كلمة، ويحيط الخطاط بكل صفحة فراغ من الاتجاهات الأربع، يَكتب فيه ملاحظاته حول القراءات على بعض الآيات، بما يدل على تمكنه في علم القراءات.
اللون الأحمر يزيِّن المصحف في كل صفحاته، في الحروف الأولى أوائل كل سطر، وفي بداية الجزء، ولفظ الجلالة (الله) باللون الأحمر، ويتجلى الإبداع الخطي كذلك في كتابته لسورة الرَّحمن، حيث تنتظم الآية الكريمة (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في بداية كل سطر، تتكرر في أول السطور 14 مرة، مع فاصل في السطر الأوسط: (مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) الرَّحمن: 33، كما نجد اللون الأحمر في جميع البسملات، وفي السطر الأول بداية كل جزء.
مدهش هذا الإبداع الخطي، وقد كتبه الشيخ في فترة من عمره، مستعيناً بضوء الشمس في ضحوات نزوى الدافئة، المتسلل من وراء الشبابيك إلى داخل المسجد، أو بنور السِّراج، حين يلتمع بين عينيه والمصحف، وبين قلمه والكلمات، وكل كلمة من كل آية، كان الشيخ يكتبها متأملاً حروفها، واضعاً في ذهنه ذلك التناسق المدهش في الحروف مع بداية كل سطر.
والسؤال الذي يطرح نفسه: من أين له بهذه الخارطة الخطية الفريدة؟، وكيف أدركها واستطاع تطبيقها، بحيث لا يَشُذُّ حرف عن آخر؟، بدءاً من سورة الفاتحة وحتى سورة الناس، إنها العبقرية التي يظهر أثرها الرائع في الوجود، وذهنية الذكاء الخاص في العقلية النَّجيبَة، ليخرج المصحف من محرابه الأول إلى برنامج «ذاكرة العالم»، الذي تُشْرِفُ عليه منظمة اليونسكو، وعسى أن يتحقق ذلك.
وقبل أن يطوي الشيخ عبدالله بن بشير مصحفه، طمَحَتْ نفسي أن أدخل معه في حوار طويل، بامتداد الزمان الذي يفصلني عنه، لكن وقت الخيال لم يسمح لي سوى بومضة بدت كلمح البصر، حتى ذاب في الفراغ، ولم أتبيَّن منه إلا بيتين من الشعر، كتبهما في «حَرْدِ المَتْن»، مُنْهِياً بهما المُصْحَف:
وما مِنْ كاتِبٍ إلا سَتبْقى
كِتابَتهُ وإنْ بُليَتْ يَدَاهُ
فلا تَكتُبْ بكَفِّكَ غَيرُ شَيءٍ
يَسُرُّكَ فِي القِيامَةِ أن تَرَاهُ.
وأختم الإضمامة بهذه الإشارات:
عبدالله بن بشير بن مسعود بن عمر العوامري الحضرمي الصحاري، فقيه وناظم للشعر، كان حياً إلى سنة: 1178هـ/ 1765م، له العديد من الآثار العلمية، من بينها: «النور المستبين في إيضاح الحجج والبراهين»، و«عقد الدر الثمين مختصر من كتاب المصنف بغير مَيْن»، و«الكوكب الدرِّي والجوهر البرِّي»، وله «قصيدة في مدح بعض الأئمة». راجع: «معجم الفقهاء والمتكلمين الإباضية»، فهد بن علي السعدي، مكتبة الجيل الواعد، ط1، 2007م.
شكرا للدكتور الباحث حميد بن سيف النوفلي، مدير قطاع دائرة الثقافة باللجنة الوطنية العمانية للتربية والعلوم، فقد أمدني بتقرير عن المصحف العماني، في رسالة بريدية، وصلتني منه بتاريخ: 26 سبتمبر 2021م، استفدت منها في بعض التفاصيل.
شكراً للباحث محمد بن عبدالله السيفي، الذي تعاون معي في فتح مسجد «مُوَدْ» بنزوى، بعد أن كان مغلقاً بسبب جائحة كورونا، وذلك بالتنسيق مع القائمين عليه.
شكراً للصديق بدر بن هلال البوسعيدي، فقد أهداني نسخة من المصحف.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-المصحف-العماني-من-محرابه-الأول-إلى-ذاكرة-العالم