إعداد: د. محسن الكندي
كتابات عُمانية مُبكرة (55)
ابن شيخان مدرسة شعرية عُمانية انتمى إليها كثير من شعراء عُمان في القرن العشرين وكان هو وأبو مسلم فرسي رهان الشعر
ديوانه صدر في ثلاث طبعات لم تتجاوز الطبعتان الطبعة الأولى وتحقيق عبد الستار أبو غدّه
ما زال ديوان ابن شيخان يحتاج إلى مزيد من الطبعات المستقصية لشعره فهناك قصائد أخرى تضمّها المخطوطات لم تضف إليه
لا أجد وصفًا افتتح به هذه المقالة عن شيخ البيان أبي نذير ابن شيخان (1868 – 1927) من شهادة ابن عمِّه الإمام المحقق «نور الدين السَّالمي». القائل نصّها: «لولا وجودُ شاعرِ العَرَب أبي مسلم الرواحي بزنجبار لعلمتُ أنه أشعرُ أهل عصره»، فهذه الشهادة تلخصُ قيمة شعره، وتضعه في صدارة الشعراء العُمانيين، كما أنني لا أجد وصفًا شعريّا يبرز مكانته أبلغ وأدق من تأبين سماحة المفتي إبراهيم بن سعيد العبري له حين قال:
لهفي على شاعرِ الإسلامِ والعَرَب
محمدُ نجلُ شيخان أخي الحَسَبِ
قد كان للعلمِ بحرًا لا يفيّضهُ
غرفُ الدِّلاءِ وبدرًا غيرَ مُحتجبِ
من للبَيانِ وللقرآنِ بعدَكَ يا
نورَ الزَّمان ومن للشعرِ والخُطَبِ
ورثتَ قاطبةَ الإسلام من درر الــــ
ــكلام إن كان إرث القوم من نشبِ
وما ملكتَ من الدُّنيا زخارفَها
بلْ قدْ ملكتَ كنوزَ العلمِ والأدبِ
إن كنتَ غبتَ فما أبقيتَ بعدكَ من
قلائدِ النَّظم لم يذهبْ ولم يغبِ
خلَّدتَ للمذهب الوهبي محمدةً
يُبلى الزمانُ ولا تَبلى مدى الحِقَبِ
ففي هذين النصّين اختزالُ لشخصية ابن شيخان وما تحلّى به من خلال ومناقب.. فالرجلُ شاعرُ القُطْر الذي شاعَ ذكره في الآفاق العُمانية، فاكتسب مكانة لا تُضاهى، وقد تهافت على شعره الباحثون والدارسون فما تكاد دراسة تناولت الشعر العُماني في القرن العشرين توثيقاً وتحليلاً إلا وتناولته، غير أن أجودها ما اتخذت نهجًا أكاديميًا موسوعيًّا، وقد سعينا إلى حصر هذه الدراسات في مدونتنا للشعر العُماني ومن أراد أن يستفد منها فليرجع إليها.
أولا: الديوان مدرسة شعرية عُمانية: يُعدّ ديوان ابن شيخان واحدًا من دواوين الشعر العُماني الحديث المهمة التي لا يمكن دراسة الشعر العُماني إلا بها، وهو من فرط جودته، وكثافة حضوره، وطلاوة سبكه، وعمق معانيه، وانسيابية أدائه لم يغرب عن ذهنية العُمانيين والعرب نقادًا ومتذوقين، فناظمه مدرسة شعرية كبرى، تخرج منها جلُّ شعراء عُمان، إن لم نقل أكثرهم وفي دراسة وثائقية قمنا بها وجدنا أن ديوانه يحتل المرتبة الثانية في عدد نسخه قبل نشره، وهو يأتي بعد ديوان الشاعر أبي مسلم البهلاني، فما من مصدر مخطوط ولا مرجع منشور إلا وفيه ذكرٌ له، وقد أحصينا عدد قصائده ومقطوعاته وأبياته المفردة، فوجدناها تقارب المائتين وخمس وتسعين قصيدة ومقطوعة وأبيات مفردة تنتظم في أغراض المواقف الإنسانية والعلاقات الفكرية والنزعات الفنية، وقد طغى عليها المديح بنسبة 55.9%، تلاه الشعر التعليمي بنسبة 11.9% ، فشعر الحكمة والإرشاد بنسبة 8.8%، فالغزل بنسبة 4.4%، والغرض الديني بنسبة وقدرها 1.7 %، فالرثاء بنسبة 1%، فأغراض أخرى متفرقة تشكل نسبة 16.3 % بعضها ينتمي إلى شعر الأحاجي والإلغاز والوصف والتأريخ بالشعر.
وهذه الأغراض جميعها انتظمت في ديوانه المطبوع القائم على نسخة (أم) بخط عدد من النسَّاخ وتوجد أصلها بمكتبة نور الدين السَّالمي، وقصائد تقاسمتها دفاتر ومجاميع كثيرة جدا تكاد من كثرتها لا تفارق القول إن: ما من دفتر عُماني إلا ويوجد فيه نصٌّ لابن شيخان، وقد قام بتجميع هذه الديوان الشيخ الشيبة محمد بن نور الدين السّالمي المؤرخ الشهير وأبناؤه من بعده.
أولا: المحقق عبد الستار أبو غدّه:
يعدّ الأستاذ عبد الستار أبو غدّه أول من قام بتحقيق وإخراج ديوان أبي نذير بأبهى حلة، وربما يعود ذلك إلى إشراف الشيبة السّالمي نفسه عليه، إضافة إلى ما تحلّى به الأستاذ أبو غده من علم وفير ومعرفة بعلم التحقيق وضبط القصائد، ويكاد تحقيقه هذا المصدر الأول؛ إذ كل الطبعات بعده فلم تضف إليه بل استنسخته وأعادته صورة طبق الأصل دون مبرر، رغم أن هناك فرصًا لتتبع قصائده في المخطوطات والوثائق العُمانية.
تترجم الموسوعة الحرة ويكيبيديا سيرة حياة الأستاذ أبو غدّه بقولها إنه: «ولد في 28 من يناير1940 في دمشق، وهو اقتصادي وباحث سوري، وعضو بالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ومتخصص في الفقه الإسلامي المقارن حصل على بكالوريوس في الشريعة عام 1964 من جامعة دمشق، وبكالوريوس في الحقوق عام 1965م من نفس الجامعة. واصل دراساته العليا في جامعة الأزهر بمصر، فحصل على ماجستير في الشريعة عام 1966م، ثم ماجستير في علوم الحديث عام 1967م، وأخيرًا حصل على الدكتوراه في الشريعة في مجال (الفقه المقارن) عام 1975 من جامعة الأزهر».
«يُعد أبو غدّه -كما تشير الترجمة السابقة – من المتخصصين في الفقه الإسلامي المقارن، وخاصةً فقه المعاملات المالية والدراسات المصرفية الإسلامية، إضافة إلى خبراته الواسعة في دراسة الزكاة والأوقاف، وفقه المحاسبة والمراجعة، والدراسات القانونية، والدراسات التربوية، وتحقيق المخطوطات، والطب الإسلامي. عمل رئيسًا للهيئة الشرعية في بنك سوريا الدولي الإسلامي عام 2006، كما كان أستاذًا في العديد من جامعات السعودية والكويت ومصر وغيره. كما عمل خبيرًا ومقررًا للموسوعة الفقهية التابعة لوزارة الأوقاف الكويتية منذ إنشائها حتى عام 1990. وأبو غدة أحد كبار علماء الأمة الإسلامية، وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وأبرز علماء الاقتصاد الإسلامي، والصيرفة الإسلامية في العالم، وعضو مجلس المعايير والمجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية منذ 1995». تُوفي في مونتريال بكندا بتاريخ 23 من أكتوبر 2020 ميلاديًا المُوافق 6 من ربيع الأول 1442 هـ عن عمرٍ ناهز 80 عامًا».
بدأ أبو غدّه تحقيقه بافتتاحية لديوان ابن شيخان مركزة تعدّ في نظرنا واحدةً من الكتابات العُمانية المبكرة بأقلام عربية، فقد كتبها في الكويت في شهر ديسمبر من عام 1979م، وتقعُ في ثلاثِ صفحاتٍ متوسطة الحجم مُحْكَمة البناء قوية الأداء، ذات وعيٍ منهجيٍّ دقيق، وامتلاكٍ لأدوات علم التحقيق وسننه.
وقد افتتحَ بها الديوان الذي ظهر للنور بطبعة مجلدة صادرة عن شركة المطابع النموذجية بالأردن، ويعتبرُ من أوائل الدواوين المطبوعة في مرحلة العهد الجديد في عُمان بهذه الصورة من الإتقان، أعني به عهد النهضة القابوسية المجيدة، ومبلورة لشعر شاعرٍ يمثلُ قيمةً معنويةً كبيرةً في ذهنية الأدب العُماني، وفي الذائقة الشعرية الجمعية، فهو وأبو مسلم البهلاني فرسا رهان التجربة الشعرية التقليدية المعاصرة إن لم يكونا أصفى أصفيائها.
انطلقَ الكاتب الأستاذ عبد الستَّار أبو غدّه في افتتاحيته لديوان الشاعر ابن شيخان السَّالمي- كمراجع له وضابط لقصائده ومدقق لها وواضع لفهارسها -من علاقةٍ حميمةٍ ربطته بالمؤرخ الشيبة أبو بشير محمد بن عبدالله السَّالمي وأبنائه إبان إقامتهم في الكويت، وكانت جهود الشيبة سابقة في تحضير هذا الديوان للطباعة والنشر، فقد جمعه من مخطوطات عدة انطلاقًا من علاقة أسرية تجمعه بالشاعر ابن شيخان؛ فهو ابن عمِّ أبيه العلَّامة المرجعي المحقق نورالدين السَّالمي، وأحد أفراد قبيلة السَّالمي الأصيلة.
وكما هو واضحٌ في ثنايا هذه الافتتاحية أن هذا الديوان تَعَثَّرَ في طباعته، فقد جُمِعَ مرتين بسبب ضياع الجمع الأول، ثم نُضِّدَت حروفه مرتين، وصحح في كل مرة، ولعل هذا الاضطراب جعل طبعة هذا الديوان تخرج في حلة قشيبة؛ فالإعادة والتكرار أكسباه ضبطاً وربطاً وتصنيفا ًوإخراجاً وفهرسة اتسمت بالجودة والإتقان والوضوح، وهو ما لم تستطع الطبعات اللاحقة للديوان أن تتجاوزه؛
أمّا الأستاذ أبو غدّه، فقد سعى في افتتاحية الضافية المركّزة – كما يقول: «إلى تحقيق رغبة حميمة مفادها: التنويه بما عاناه جامع الديوان (الشيخ العلَّامة أبو بشير محمد السالمي) من مشقة في التنقيب عن قصائد ابن شيخان والتأليف بين النظائر والأشباه»، وتلك مضنة ومكابدة، وقيمة مضافة في التحقيق العلمي الرصين.
وقد هدفَ من جمعِه لهذا الديوان وتبويبه له إلى «أن يُطْلِعَ القارئ على الخطواتِ السابقة للطبع التي كانت ضرورية لإخراج الديوان في حلةٍ عصرية قشيبة «فالديوانُ قبله تقاسمته رقاعٌ ودفاتر ومجاميع ونسخٌ مخطوطة متفرقة وغير مكتملة، وقد انتابتها أخطاء جَمَّة لا تقلُ –كما يقول أبو غدّه–»عن بضع ِهناتٍ في كلِّ صفحةٍ، وكانت مهمته كمحقق عصيبة جراء ما خلفته أيدي الرواة والكتبة من سقطات، وقد بذل ما أمكنه من جهد لكي تصدر هذه الطبعة الأولى سليمة مما خالط نسخته الوحيدة من أخطاء»، إذ إن معظمها لا يظهر صوابه كما يقول: « إلا بالتأمل، أو الرجوع إلى المعاجم، وكتب الأدب لتقويم الوزن الذي تسببت أخطاء النسخ في الإخلال بأبيات قصائده، وظهر ذلك في الإجحاف بتوزيع الشطرين، أو خروج الأبيات عن بحر القصيدة كلها، وبعض تلك الأخطاء من التزيّد بحمل الكلمة على المألوف دون مراعاةٍ لضرورات الشعر التي استساغها الشاعر، فكان لا بدّ من إصلاح ما وقع من اضطراب في المقصور والممدود، والهمزات، وتصوير التاءين المبسوطة والمربوطة ، وإثبات أو حذف الألف الفارقة ، وإسقاط ما ظهر من حروف العلة في المضارع المجزوم، والفصل بين الضاد والظاء، وما إلى ذلك من أخطاء النسخ النحوية أو الإملائية».
أمَّا ما يتصلُ بالضبط، فقد اقتضت حاجة أبو غدَّه الملحّة كمدقق للديوان الاعتناء بعلامات الترقيم، وحصر الأعلام بين أقواس، وتنظيم العناوين التقسيمية مع ترك العناوين الفردية للقصائد وفقًا لما هو موجود ومتوافر الأصل المخطوط، كما اقتضت مهمته التحقيقية وضع فهرس للأشعار مرتبة قوافيها بالأحرف الأبجدية، وآخر لشعر غيره مما جاء بمناسبة التخميس أو الإجازة أو السؤال، وفهرس للأعلام الذين تدور حولهم القصائد، وفهرس للمحتوى على نسقه.. «وتلك مهمة المحقق الحاذق الذي يرى علمه يسير وفق منهجية سنّها علم التحقيق، وعليه ألا يحيد عنها.
وتكاد فهارس الديوان في نظرنا أهم مميزات عمل أبو غدّه في هذا الديوان، وهي في نظرنا لا تتوافر كثيرًا في الدواوين العُمانية المطبوعة في تلك الفترة إلا فيما ندر، ويرجع ذلك للحذق الشديد والدقة المتناهية التي أرادها أبو غدَّه لهذا الديوان، فهو يقدّمها من واقع ما أوتي من بسطة وعلم في التعامل مع فنية كتب التراث والأدب بآلية ذلك الزمن بما تعنيه من جهد مضاف قلما يتوافر وهو دليل الاحترافية المنبعثة من الإخلاص والوعي بالمنهجية العلمية.
ويلتفتُ أبو غدّه إلى قيمة الديوان وأهمية قصائده مبينًا أنها تحفة ٌفريدة صاغها ابن شيخان عقدًا ذهبيًّا خالصًا وتبرًا نقيًا صافيًا والمتأمل في ثناياه سيرى أصداء أدبية لصيغ كبيرة معروفة في الشعر العربي عزَّ وجودها أو جودتها عند الكثيرين من شعراء عصره.
وإذا كانت أغلبُ قصائد الديوان تنضوي في غرض المديح الإخواني وأحياناً التكسبي فإنها -كما يقول أبو غده- : « قصائد متنوعة الأغراض أجرى الشاعر ابن شيخان في ميادينها جواد قريحته مساجلاً، أو بازًا كثيرًا ممن ملكوا زمام المديح المحض الخالص أو الممزوج بما يجعل فيه نصيبًا لغير الممدوحين بما خالط المدح من حلاوة الغزل، أو براعة الوصف، أو بهاء الفخر، أو بشاشة الحكمة» وتتجلى ذلك في رائعتيه الشهيرتين «بلغة المرام» و «غرة الزمان في مديح سلطان عُمان» التي وصفها الشيبة بأن «أقل ما يقال فيها بأنها ممتازة» فقد جمعت بين الفن ووحي العبقرية، فكانت من أبرز العوامل التي هيأت السبيل للشاعر في أن يحتل من السلطان المكان الرفيع الذي طال مداه ليصل إلى سبعة عشر عامًا فرض له راتبًا شهريًا فوق الجوائز، فكان يقول فيحسن، والسلطان يعطيه ويجزل إلى أن حصلت بينهما فجوة سنة 1321هـ، خرج بعدها إلى حكام الخليج زائرًا ومادحًا، فكانت له مدائحه فيهم تملأ الديوان، ولكنها لم تكن كمدائحه التي قالها في السلطان فيصل ذاته، رغم ما اعتراه من مضنة السؤال ومكابدة الطريق، وعنت المقابلات، وقد سرد الشيبة في ترجمته له نماذج منها منتهيا إلى قوله : «ولما رأى بضاعته كاسدةً أقلعَ عن الشعر واسودَّ رأيه في الحياة والناس فزهد بهما، وعَرف أن لا صديق باقٍ، ولا من يوثق به وُيرجى نفعه إلا الرّزاق الخلّاق، ثم رجع إلى وطنه الأول الرستاق، واُنتخب عميدًا للتدريس في مصطلح الفنون بجامع البياضة».
إن إغراق ابن شيخان في المديح وإخلاصه له ليس بدعًا في حقله، فقد نهجه قبله أغلب شعراء العربية قاطبة، ولكنه صاغه بأساليب مبتكرة وبُنى محكمة ولغة قوية جزلة دلّتْ على جودتها وإتقانها الدراسات الأكاديمية التي قدّمت عنه والتفت إليها جامع الديوان حين أشار إلى قصيدته» غرة الزمان في سلطان عُمان» التي مطلعها:
شَمْسٌ من الأنسِ صار الحسنُ هيكلها
ألقتْ إليها النُّهى طوعًا مُعَولها.
وأنها تشكّل مع نظيرتها «بُلِغَة المُرام من شعر الغرام في مدح سلطان عُمان» القائل طالعها:
خليليَّ ما للنّفسِ هاجَ غرامُها
وعاودها نيرانُها واضطرامُها
جوهر تجربته، وقد نظمها لتشكل إخلاصًا في الولاء والإعجاب بالسلطان فيصل بن تركي الذي تجلّى في قربه منه، وأن يحتل منه المكان الرفيع ، وأن يدعوه إلى جواره وأن تمتد صلته به عددا من السنين «الأمر الذي جعله يبوح بهذه المنزلة فيكتب إلى ابن عمه نورالدين فيجيبه مُسَلِّطاَ الضوء على قصيدته تلك بالقول «وقد رأيتُ غرة الزمان، وما فيها من المعان، فقد حازت من البلاغة أسناها، وسَلَكَتْ من مسلك الشعر أسهلها وأعلاها، وجاءت من فرائدِ الألفاظ بأثمنها وأغلاها، فما المهر الذي سبق إليها عنها بمهر لها وإن عظم فلعمري ولو أعطاك عن كلِّ بيتٍ ألفاً لكنت أنتَ المغبون قطعًا…».
بيد أن هذا الإطراء ينحدرُ -في تقديرنا- من موهبة وقناعة حقيقة لا تصنّع فيهما، فالسلطانُ فيصل بن تركي الممدوح «كان بيتَ القصيد، يعتملُ في نفس الشاعر إعجاباً مفرطاً به وولاء لدولته، فقد كان قِبْلَة الشعراء يَحُجُّ إليه هو وأمثاله الشعراء، فقد أقام لهم سوقاً يرحلُ إليها قريبهم والبعيد مطبقين على مديحه بكل لسان يبلغ مجهود الإنسان، فَعَيٌّ يقدر على كلام قليل، وبليغٌ يصل المقام الجليل، وثالثُ يقصر على النية ليأمل بها بلوغ النية كما يقول الشيبة في مقدمته للديوان»، من هنا لا غرابة أن يكون ابن شيخان شاعر قصره، وواصف مصره وعهده، ومؤصلا لحراكه ، فالمادح لا يبقي صغيرة ولا كبيرة إلا ويحشدها في مدحه.
ويتطرقُ أبو غدّه في هذه المقدمة إلى منهجه في التصنيف والمراجعة وإلى الصعوبات التي لقيها مشيدًا بالنسخة المخطوطة للديوان التي كتبها الناسخ المعروف الحاذق عبدالله بن حمود العذَّالي وأتمَّها في سابع شعبان من عام 1398 الموافق 12 من يوليو 1978م.
وينتهي أبو غدّه في افتتاحية إلى القول: «إن العمل في هذا الديوان كان مهمة ومتعة «، وقد اعتبرها تعزيزاً للمتابعة القديمة منه للتراث العُماني فقهًا وتاريخًا وأدبًا وسر أعلام، وقد انبنت على مزاملة ومعرفة وطيدة أكدتها علاقته بالشيخ الشيبة نفسه إبان إقامته في الكويت، وربما قبلها بابنه الشاعر والأديب المعروف سليمان السَّالمي الذي كان مقيمًا في دمشق طيلة فترة الستينيات ويعمل مديرا لمكتب إمامة عُمان بدمشق واضطلع مع أخيه أحمد بنشر التراث العُماني اتساقًا مع رسالته السياسية والإصلاحية.
ثالثًا: طبعة أخرى للديوان:
لم تكن طبعة الديوان الأولى هي الوحيدة الباقية، وإن كانت هي الأشهر والأكثر حضورًا، فقد اضطلع الأستاذ سعود بن أحمد البرواني ابن حفيدة الشاعر بإعادة طبع هذا الديوان انطلاقًا من نفاذ نسخ الطبعة الأولى وتقادم عهدها وبُغية في بث شعر جده؛ ليكون متناول للجميع وهي غاية محمودة تحسب له، وقد طبعه في المجموعة الصحفية للدراسات والنشر عام 1999 بمصر، ولكن دون إضافة تذكر، فبدت طبعته هذه صورة مطابقة للأولى لا غير عدا إضافة إهداء طبعة الديوان «إلى روح جدّه يوسف بن محمد بن شيخان»، وكلمة ختامية أبرزها في غلاف الديوان، وفيها عبارات موجزة تمسُّ حواف شعره باحتفائية بالغة وإطراء كبير (أراه محقا فيه) من مثل قوله: إن ابن شيخان اعتصر عبقريته في هذه القصائد، فأعاد للشعر العربي حلاوته وطلاوته «وأن أعماله كشفت عن شاعرية فذّة وقريحة فيَّاضة وقصائد تتفجر حيوية وأدباً وحكمة» … لهذا استحق أن يقرأ في العالم العربي الكبير.
كما عمد إلى تقديم مبتسر كتبه الناشر بتاريخ يوليو 1995م، وأبان فيه إلى حاجة المكتبة العُمانية لديوان جدّه ابن شيخان؛ نظراً لندرته بعد نفاد الطبعة الأولى، كذلك أشار في هذا التقديم أنه عرض هذا الديوان إلى أساطين الشعر المعاصر في مصر، فكانت لهم آراء نيّرة «غير أننا لم نجد ما يبرهنها، فالديوان لا جديد في تحقيقه، ولا تصنيف آخر لقصائده ولا تغيير في مفتتحات قصائده وخطبه. وكان بإمكانه البحث عن جديد شعر أبن شيخان في المدونات والمصادر المخطوطة، ويستثنى من ذلك فصله لمبحث تقديم مراجع الديوان عن مبحث مقدمة جامع الديوان. وعلى كلّ حال فجهده مقدّر قياساً بواقع الحال في تلك الفترة، وما تبديه المؤسسات الثقافية المعنية أحيانا من إغفال – غير متعمد – لرموز شعرها، وهو إغفالٌ أفقدنا الاهتمام بشعرائنا الكبار وتقديمهم للثقافة العربية.
رابعاً: طبعة ثالثة للديوان:
وهي من إصدارات وزارة التراث والثقافة سنة 2017 دون أية تغيير على ما سبقها من طبعات ديوان ابن شيخان السّالمي، ولعله تجديد لطبعة الوزارة الأولى نفسها التي صدرت في أوائل الثمانينيات، ولم نحصل على نسخة منها – ونجزم أنها لم تضف جديدًا يذكر على الطبعة الأولى، وكان حريّ بها أن تقوم بتقديم صاحب الديوان بما يتناسب مقامه في الثقافة العُمانية، فشعره يقع في المراتب العليا وإنتاجه إنتاج غزير غني بالصور وجميل الألفاظ، وسمو الأغراض حيث أنك لا ترى في شعره هزلا، ولا هجاء، وقد كشفت أعماله عن شاعرية فذة وقصائد تتفجر حيوية وأدبًا وحكمة كما وصفته صحيفة الوطن في أخبارها عن طبعة هذا الديوان».
وختامًا لا نجد أبلغ وصفًا لديوان شعر هذا الشاعر الكبير الذي قدمّه جامعه الشيخ الشيبة وراجعه عبدالستار أبو غدّه مما نقشه الشيبة نفسه وطرّز به مقدمته ، ووشى به حروفه حين وصفه بأنه « أخذ بناصية القريض؛ فإذا مَدَحَ سلك طريق الإيضاح والإشادة بذكر الممدوح ،فأشهر منقبه، وأظهر مناسبه وشرف مقامه، وإذا رثى أظهر التفجّع والحسرة ممزوجًا بالتلهف والأسف والاستعظام ، وإذا شبَّبَ شكى الوجد والفراق، وفرط الصبابة والشوق ليميل القلوب نحوه ويصرف الوجود إليه، وإذا عاتب مزج عتابه بالاستعطاف والاستئلاف والاعتذار والاعتراف، فإذا استوثق من الإصفاء إليه والاستماع له في نشيد عقَّب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره ولم يطل فيملّ، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد».
هذا هو ابن شيخان مدرسة شعرية عُمانية تهزُّ الأنفس حين سماعها، ولا تملك غير الإصغاء والانبهار محققة التأثير في المتلقي، مدرسةٌ ينهلُ منها كلُّ ظامئ، ويطأ أرضها كلُّ قاصدٍ وحسبُ الشيبة جامعاً وأبو غدّه محققًا- أنهما قَدَّما للمدونة الشعرية العُمانية قامة شعرية وتراثاً شعرياً أصيلاً لن يمحوه الزمن، فكانت كتابتهما عنه كتابة رائدة.
ابن شيخان في الاعتبار الشعري رمز شعري عماني وقد تناولته كثير من الدراسات الأكاديمية والمقالات وأقيمت حول شعره بعض الندوات وقد أحصيناها في كتابنا مدونة الشعر العماني في القرن العشرين وعندما نتناوله في هذه العجالة لا يمكن المرور على شعره إلا بالإشارة إلى روائعه الكبرى شأن «القصيدة النخلية» و «ودمغت شموس الحق» وغيرهما…كما لا يمكن تناول ديوانه دون أن نعرج على روائعه فنختار منها ، وفي هذا المقام شدّتني هذه المقطوعة الافتتاحية لقصيدة مدحية قال فيها متغزلا حيث برز الغزل مفتتحاً لمدحه وكأن الغزل أداته الاستهلالية للوصول إلى قلب المتلقي يقول:
غصنُ التصبر من طول الجفا يبسا
والقلب من وصل ذاك الظبي ما يئسا
يا خائفا من رقيب أن يعود ضحى
لا بأس بالفرع صبحا جئت أو غلسا
قد زاد ليلا ونار الخد مؤنسة
فجئت أطلب منه للهدى قبسا
أتيته لعسى أشكو جنايته
وأجتني من مجاني ثغره لعسا
لما التقينا تعانقنا مصافحة
وصار كلٌ يباري لوعةً واسى
فكدت أغرقه أو كدت أحرقه
من عبرتي أدمعا أو لبتي نفسا
وكاد يشربني شوقاً ويلبسني
طوقاً وكلّ بنفس الآخر التبسا
وما قصدتُ لذكر الظبي من ذكر
حاشا لمثلي من أن يقرب النجسا
لكن كنيت به عن ذكر غانية
لها أديم بعين الشمس قد غمسا
قالت وقد سرت عنها وهي باكية
أما تعود إلينا بعد قلت عسى
هامش: جميع الإحالات والهوامش التوثيقية ستكون منصوصة في صيغة الكتاب الذي سيتضمنه هذا المقال ولم نردها لطبيعة المقال الصحفية.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/في-ظلال-دوحة-شيخ-البيان-أبي-نذير-محمد-بن-شيخان-السالمي-وجهود-الأستاذ-عبد-الستار-أبو-غده-في-تحقيق-ديوانه