مسقط، “العمانية”: هناك آلاف اللغات في العالم والمترجمون هم الخيط غير المرئي الذي يجعل متحدثي هذه اللغات على تواصل فيما ما بينهم؛ إنها الترجمة وحدها من تدمج الثقافات وتجعل جسر الاتصال دائمًا ممدود، واضعةً التفاهم وتقبُّل الآخر شرطًا لعبوره، ولأجل هذا حقق المترجم العُماني أيمن بن مصبح العويسي حضورًا أدبيًا مُغايرًا من خلال تتبعه لأثر الثقافة العُمانية وجذورها في كتاب الباحثين الغربيين، فهناك العديد من الكتب النوعية التي قام بنقلها للعربية ولاقت إقبالًا مميزًا من قِبل المتتبعين للتاريخ العُماني منذ عقود ماضية حتى يومنا الحاضر.
من بين تلك الكتب التي نقلها المترجم أيمن العويسي إلى اللغة العربية كتاب “تاريخ عُمان الحديث”، الذي حظي بجائزة الإبداع الثقافي لعام 2021م “الدورة الثانية عشرة”، كأفضل إصدار في الترجمة (من لغات مختلفة إلى اللغة العربية”، مناصفة مع كتاب “دولة زنجبار العربية” للمترجمة رحمة الحبسية، ونظّمتها الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء.
وفي هذا الإطار يتحدّث المترجم أيمن العويسي أيضًا عن الأسباب التي دعته لترجمة كتاب آخر حمل عنوان “عُمان الثقافة والدبلوماسية” والخطوات المحفّزة للأخذ بهذا المشروع ويقول مُفصلًا: “حين ترجمتُ كتاب تاريخ عُمان الحديث للكاتبين البريطانيين جيرمي جونز ونيكولاس ريدوت في عام 2018م، رأيت فيه إشارات كثيرة لكتاب “عُمان الثقافة والدبلوماسية”، فقررت قراءته لأرى إمكانية تبنّيه ليكون المشروع القادم؛ لما رأيت فيه من مواضيع مهمةٍ تتصل بالثقافة العُمانية ومساهمتها في صياغة الدبلوماسية العُمانية بشكلها الحديث، وكعادته أبدى محمد هادي مدير دار الرافدين استعداده لتبنّي هذا المشروع والبدء في إجراءات الحصول على حقوقه، لكن اللجنة الوطنية للشباب في سلطنة عُمان (سابقًا) كانت قد حصلت على حقوقه لأحد مشاريعها، وبعد تواصلٍ معهم عقدنا شراكة بين اللجنة والدار للشروع في هذا العمل الذي أرجو أن يكون إضافةً للمكتبة العربية”.
وفيما يتعلّق بالنهج المُتّبع لترجمة هذا الكتاب يُشير المترجم أيمن العويسي إلى أنه انتهج ذات النهج الذي اتبعه في ترجمة كتاب تاريخ عُمان الحديث بالرجوع إلى المصادر التاريخية وأهل الاختصاص في التاريخ للتحقق من بعض المعلومات الواردة في الكتاب وكيف كانت في أصلها.
وفي إطار الترجمة ذاتها لفت العويسي إلى كيفية مساهمة الترجمة في تضييق الفجوة الثقافية بين الشعوب، وأكثر المجالات حظوظًا في نقلها للآخر ضمن سياق الترجمة وهنا يقول: “هناك مفاهيم تتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن الترجمة؛ مثل اللغات والثقافات والحضارات والتفاهم والتواصل وغيرها؛ لكونها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالترجمة؛ فهي في جوهرها انتقالٌ بين لغتين وثقافتين وحضارتين بهدف مدِّ جسور التواصل والتفاهم بينهما.
ويضيف أنّ الترجمة ساهمت أيَّما إسهامٍ في التواصل بين مختلف الشعوب خاصةً في عصرنا الحديث مع ما يشهده العالم من انفتاح وتقارب بين مختلف الشعوب، مُشيرًا إلى أنه شارك في شهر نوفمبر الماضي في مؤتمرٍ دولي ضمَّ أكثر من 1000 مشارك من كافة باقع الأرض، يتحدثون بشتى اللغات أمام جمهورٍ لا يتقن لغتهم، بيد أن المترجمين يجعلون هذا المتحدث يخاطب الحاضرين وكأنهم من بلده وثقافته، دون أن يشعر بأنه يتحدث إلى أشخاصٍ ربما لم يسمعوا قط لغته التي يتحدث بها؛ فكان المترجم جسرًا تعبر منه الثقافات لتلتقي في جزيرة واحدة تتحدث لغة واحدة وهي لغة الترجمة، وسألت نفسي حينها كيف سيغدو كوكبنا بلا ترجمة؟ وكيف سنتواصل مع الآخر؟ وذكر أن “الترجمة ساهمت عبر العصور في بناء الحضارات، فحين تنشأ حضارة جديدة فإنها تُكمل ما بدأته الحضارات الأخرى، فتتعلم من دروسها وتستقي من معين علمها، وهذا الأمر لم يكن ليتحقق لولا الترجمة التي جعلت هذه الحضارات وكأنها حضارةٌ واحدة تتشارك علومها وإنجازاتها، وقد نالت الترجمة الأدبية نصيبها في عصرنا الحالي من الإنتاج الترجمي، ومع أهمية الأدب في التعرُّف على ثقافة الآخر، والحاجة إلى المزيد من الجهود في ترجمة العلوم بشتى مجالاتها لتنهض حضارتنا مجددًا والكتابة بلغتنا إلى الآخر، كما قامت الحضارة الغربية على أنقاض الحضارة الإسلامية”.
وفي إشارة أخرى إلى الترجمة الأدبية كونها من أصعب مجالات الترجمة، إذ لا بد من فهم الصور الجمالية والتعبيرية والاستعارات ونقل الحالة الشعورية من لغة إلى أخرى، هنا يتحدّث المترجم أيمن العويسي ما إذا كان هذا المعتقد حقيقيًا أم لا ويقول: “من تجربتي الشخصية في ترجمة رواية الجاسوس لمكسيم غوركي عايشتُ هذا النوع من أنواع النصوص عن قُرب، وأستطيع القول إنّ ما كتبته صحيحٌ كليًا؛ فالترجمة الأدبية بأنواعها تحتاج إلى نفسِ إبداعي قبل النفسِ الترجمي؛ لكون المترجم الأدبي ينتج نصًا إبداعيًا لقراءٍ من لغةٍ أخرى وثقافة أخرى تحوي كتابتها الإبداعية على شروط وعناصر يتعيّن على المترجم الأدبي معرفتها وهو يخوض غمار هذه التجربة، وأعتقد أن هذا الأمر دفع الجاحظ ليقول يومًا باستحالة ترجمة الشعر.
ولا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطَّع نظمُه، وبطَل وزنُه، وذهب حُسنه، وسقط موضع التعجب منه، ليس مثل الكلام المنثور، المبتدَأ على ذلك أحسنُ وأوقع من المنثور الذي تحوَّل من موزون الشعر. لكننا نرى اليوم محاولاتٍ ناجحة لترجمة الشعر، وهذا برأيي يعود لكون المترجم شاعرًا في الأصل قبل أن يكون مترجمًا، وأذكر تحديدًا المترجم الشاعر محمد الصارمي الذي له إصدارات شعرية مترجمة لاقت قبولًا بين القراء”.
وفي السياق ذاته حيث نعيش العالم في هذا العصر حيث زخم التواصل والاتصالات، يوضح المترجم العويسي ما إذا أن الحاجة للترجمة زادت أم أن التكنولوجيا أصبحت تُغني عن المترجمين خصوصًا أن /جوجل/ أعلنت عن نظام الترجمة الآلية العصبية، وما إذا ما تقوم به هذه المواقع والتقنيات يشبه ما يفعله المترجم وهنا يؤكد أن تقنيات الترجمة خطت خطواتٍ غير مسبوقة خلال السنوات المنصرمة؛ إذ عكف الباحثون والمخترعون على تقديم حلول تسهّل من عملية الترجمة وتدخل الآلة فيها، وحققت هذه الجهود نجاحات مبهرة تارةً وفشلت فشلًا ذريعًا تارةً أخرى.
وأوضح أن “عند الحديث عن تقنيات الترجمة نتحدّث عن الترجمة الآلية وبرامج الترجمة بمساعدة الحاسوب، والقواميس الإلكترونية وذواكر الترجمة وغيرها من الأدوات، على سبيل المثال عن الترجمة الآلية، فقد مرّت بمراحل مختلفة منها مرحلة الترجمة الآلية الإحصائية التي كانت سائدةً إلى زمنٍ ليس ببعيد حتى أتت الترجمة الآلية العصبية لتحل محلها، إذ كان النوع الأول ينتج نصوصًا ركيكة تعتمد على إحصاءات وخوارزميات لغوية بعيدة كل البُعد عن السياق، لكن الترجمة الآلية العصبية أدخلت مفهوم الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق للآلة لتجعل الآلة تترجم وفق سياقات محددة وباستخدام ترجمات بشرية سابقة، الأمر الذي عزز من جودتها؛ لكننا لم نستغنِ عن المترجم إلى الآن، لماذا؟ وهنا يُجيب العويسي بقوله: “لكون الترجمة ليست عملية لغوية صرفة تستطيع الآلة نقلها بكل سهولة؛ فالنصوص تحمل بين طياتها عناصر ثقافية ودينية وسياسية واجتماعية تعجز الآلة عن فكها، أضف إليها المشاعر الكامنة بين حروفها. لذا أعتقد أن هذه التقنيات ليست تحديًا وإنما ستُعين المترجم على تجويد عمله وتسريع وتيرته، الأمر الذي حدا بكثير من المؤسسات التعليمية إلى إدخال تقنيات الترجمة في مناهجها التعليمية، مثل قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس، والذي وقّع اتفاقية تعاون مع الشركة المزوّدة لبرنامج “الميموكيو” الذي يُعدُّ من البرامج الرائدة في مجال الترجمة بمساعدة الحاسوب أو ما يُسمّى ب (CAT tools)”.
كما عمدت بعض البرامج الأكاديمية إلى تدريس مادة التحرير اللاحق والتي تتضمّن مراجعة المترجم لنصوص ترجمتها الآلة وإدخال اللمسات البشرية عليها، مما يعني دقةً في العمل وسرعةً في الإنجاز؛ ولكن علينا أن ننتبه إلى أن هذه المرحلة لا تأتي إلا بعد سنوات من تعليم الطالب مهارات الترجمة والمهارات اللغوية التي يستطيع من خلالها تطويع النص الذي ترجمته الآلة بدلًا من أن يغدو سجينها الذي لا يستطيع الفرار منها.
واختتم المترجم أيمن العويسي حديثه بقوله: “هناك نصوصًا لا تستطيع الآلة نقلها كالنصوص الأدبية والنصوص التي تحوي مفردات وأفكارًا لا يفقهها إلا مَن عايش تلك الثقافة وفهِمَ خصائصها وخصوصيتها. لذا أرى شخصيًا أن علينا تبنّي هذه التقنيات وتسخيرها خدمةً لنا بدلًا من محاربتها وتشنيعها والاستثمار في الأبحاث المتعلّقة بها واللحاق بركبِ هذا التطوُّر الحاصل في هذا المجال، وأرجو شخصيًا أن يكون مجال البحث في تقنيات الترجمة والترجمة الآلية وبرمجة اللغات الطبيعية من بين أولويات البحث العلمي في سلطنة عُمان خاصة أن مسقط ستستضيف مركز التعريب والترجمة الذي عُيَّن الدكتور عبدالله بن سيف التوبي مديرًا له مؤخرًا كأولى بشائر تأسيسه”.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/المترجم-العماني-أيمن-العويسي-ساهمت-الترجمة-عبر-العصور-في-بناء-الحضارات